القول في لزوم الجماعة

كتاب الدرة البهية

dorraBahiyyah قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَنَرَى الجَمَاعَة حَقًّا وَصَوَابًا والفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا.
الشرح مرادُهُ بالجماعةِ إجماعُ أهلِ الحقِّ في مسئلةٍ دِينيةٍ في الاعتقادِ أوِ الفروعِ ويَحتملُ أنْ يكونَ مرادُهُ بالجماعةِ طاعةَ الإمامِ الذي بَايَعَهُ المسلمُونَ لأنَّ الخروجَ على الإمامِ الذي صَحَّتْ بَيْعَتُهُ منَ الكبائرِ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ "مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طاعةٍ لَقِيَ اللهَ لا حُجَّةَ لهُ يومَ القيامةِ، ومَنْ ماتَ وليسَ في عُنُقِهِ بَيْعةٌ ماتَ مِيتةً جاهليةً". رواهُ مسلمٌ وغيرُهُ، ويَنطبقُ ذلكَ على الذينَ خَرجُوا على أميرِ المؤمنينَ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ وقاتلوهُ، ولا يَصِحُّ أنْ يُقال إنَّهُمُ اجتهدُوا فإنَّ هذا ليسَ مَبْنِيًّا على اجتهادٍ شرعيٍّ بدليلِ قولِ عَلِيٍّ رضيَ اللهُ عنهُ: "إنَّ بَنِي أُمَيَّةَ يقاتلونني يَزْعُمونَ أنني قتلتُ عُثمانَ وكَذَبُوا إنَّما يُريدون المُلكَ"، رواهُ الحافظُ مُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَدٍ في مُسْنَدِهِ، وكذلكَ قالَ عَمَّارُ بنُ ياسرٍ رضيَ اللهُ عنهُما فيما رواهُ عنهُ البيهقيُّ وابنُ أَبي شَيْبَةَ، وهذانِ أَدْرَى بحالِ مُعاويةَ مِمَّنْ قالَ:إنهُ اجتهدَ فأَخطَأَ فلهُ أجرٌ واحدٌ. وقدْ نقلَ الفقيهُ المتكلِّمُ ابنُ فُورَك في كتابِ مقالاتِ الأشعريِّ كلامَ الإمامِ أَبي الحسنِ الأشعريِّ في أمرِ المخالفِينَ لِعَلِيِّ بنِ أَبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ فقالَ ما نَصُّهُ: "وكانَ ـ أيِ الأشعريُّ ـ يقولُ في أمرِ الخارجِينَ عليهِ والمنكِرِينَ لإمامتِهِ إنَّهُم كلَّهم كانوا على الخطأ فيما فَعلُوا ولم يكنْ لهم أنْ يَفعلُوا ما فَعلُوا منْ إنكارِ إمامتِهِ والخروجِ عليهِ. وكانَ يقولُ في أمرِ عائشةَ إنَّها إنَّما قَصَدَتِ الخروجَ طَلَبًا للإصلاحِ بينَ الطائفتَينِ بِها للتوسطِ في أمرِهِما"، "فأمَّا طلحةُ والزُّبَيْرُ فإنَّهُما خَرَجَا عليهِ وكانا في ذلك مُتَأَوِّلَيْنِ مجتهدَيْنِ يَرَيَانِ ذلكَ صَوابًا بنوعٍ منَ الاجتهادِ وأنَّ ذلك كانَ منهُما خَطَأً وأنَّهُما رَجَعَا عنْ ذلكَ ونَدِمَا وأَظْهَرَا التوبةَ وماتا تائبَيْنِ مِمَّا عَمِلا. وكذلكَ كانَ يقولُ في حربِ مُعاويةَ إنَّه كانَ باجتهادٍ منهُ وإنَّ ذلكَ كانَ خطأً وباطِلًا ومُنكَرًا وبَغْيًا على معنى أنَّه خروجٌ عنْ إمامٍ عادلٍ"، فأمَّا خطأُ طَلْحَةَ والزُّبَيْر فكانَ يقولُ إنَّهُ وَقَعَ مغفُورًا للخبرِ الثابتِ عنِ النبيِّ أنَّه حكَمَ لهما بالجنةِ فيما رُوِيَ في خبرِ بِشارةِ عشَرَةٍ منْ أصحابِهِ بالجنةِ فذَكَرَ فيهِم طلحةَ والزُّبيرَ، وأمَّا خطأُ مَنْ لم يُبَشِّرْهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالجنةِ في أمرِهِ فإنَّه مُجَوَّزٌ غُفرانُهُ والعفوُ عنهُ" اهـ فهذا نَصٌّ صريحٌ منْ إمامِ أهلِ السُّنَّةِ أبي الحسنِ الأشعريِ بأنَّ كلَّ مقاتلِيهِ عَصَوْا وأنَّ طلحةَ والزُّبيرَ تابا مِنْ ذلكَ جَزْمًا وأنَّ الآخَرِينَ تحتَ المشيئةِ يجوزُ أنْ يَغفِرَ اللهُ لمنْ شاءَ منهُم. فبعدَ هذا لا يَسوغُ لأشعريٍّ أنْ يُخالفَ كلامَ الإمامِ فيَقُولُ إنَّ مُعاويةَ وجَيشَهُ غيرُ ءَاثِمِينَ معَ الاعترافِ بأنَّهُم بُغَاةٌ، وأمَّا مَنْ يقولُ إنَّهُم مأجورونَ فأبعدُ منَ الحقِّ.
وعنى المؤلفُ بالفُرْقَةِ مخالفةَ الإجماعِ ، والزَّيْغُ هو الْمَيْلُ أي عن الحق، وقولُهُ: "وعَذَابًا" أيْ أنَّ الخروجَ منَ الجماعةِ سببُ العذابِ أيْ في الدنيا والآخِرةِ.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَدِينُ اللهِ في الأَرضِ والسَّمَاءِ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الإِسْلامِ قَالَ اللهُ تَعَالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ (19)﴾ [سورة ءال عمران] وقالَ تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (3)﴾[سورة المائدة] وَهُوَ بَيْنَ الغُلُوّ والتَّقْصِيرِ وَبَينَ التَّشْبيهِ وَالتَّعْطِيلِ.
الشرح أنَّ الملائكةَ يَدِينونَ بالإسلامِ، وأنَّ المؤمنينَ مِنْ أهلِ الأرضِ مِنْ إنسٍ وجِنٍّ يَدِينونَ بالإسلامِ، ومعنى قولِهِ تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ (19)﴾ [سورة ءال عمران] أنَّ الدِّينَ الصحيحَ المقبولَ عندَ اللهِ هوَ الإسلامُ وما سواهُ منَ الأديانِ باطلٌ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ أولَ البشرِ كانَ على الإسلامِ لم يكنْ لهم دِينٌ غيرُهُ قالَ اللهُ تعالى ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً(213)﴾ [سورة البقرة]، قالَ ابنُ عباسٍ "كُلُّهُم على الإسلامِ" رواهُ أبو يَعْلَى في مُسندِهِ وغيرُهُ.
أمَّا الغُلُوُّ فهو مجاوزةُ الحدِّ الْمَجْعُولِ للعِبادِ في الدِّينِ، أمَّا التقصيرُ فهوَ تَرْكُ الوُصولِ إلى حَدِّ المأمورِ فالعبد ليس له التجاوزُ عما حَدَّ له مولاه ولا التقصيرُ عما أمره به، وأمَّا التشبيهُ فهو تشبيهُ اللهِ بخلقِهِ، وأما التعطيلُ فهو نَفْيُ وجودِ اللهِ أو صفاتِهِ وكلُّ واحدٍ منَ المذكوراتِ مذمومٌ وباطلٌ لخروجِهِ عنِ العدلِ والحقِّ.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وبَينَ الجَبْرِ والقَدَرِ.
الشرح أنَّ دِينَ اللهِ بينَ الجَبْرِ والقَدَرِ، والجَبْرُ هو اعتقادُ أنَّ الإنسانَ لا فِعلَ لهُ، وأمَّا القَدَرُ فهوَ اعتقادُ أنَّ الإنسانَ يَخْلُقُ أفعالَهُ الاختياريةَ بقُدرةٍ خلقَهَا اللهُ فيهِ.
وقدْ أفادَ المؤلِّفُ بهذا أنَّ المشبهةَ كُفَّارٌ لَيْسُوا مسلمِينَ وأنَّ المعَطِّلَةَ كفارٌ وأنَّ الجَبْرِيَّةَ كفارٌ وأنَّ القَدَرِيَّةَ كفارٌ وهُمُ المعتزلةُ وإنَّما أَعادَهُ لِيُبَيِّنَ أنَّ المعتزلةَ كَفَروا بسببِ الأمرَينِ أمرِ التعطيلِ أيْ تعطيلِ اللهِ عنِ الصِّفاتِ وبسببِ القولِ بأنَّهُم يَخلُقُونَ أَفعالَهُم.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَبَينَ الأَمْنِ وَالإِيَاسِ.
الشرح أنَّ الإسلامَ الذي هو دِينُ اللهِ هو أنْ يكونَ العبدُ بينَ الخوفِ والرَّجاءِ، فهوَ حقيقةُ العُبوديةِ إذْ في الأمنِ عَمَّا أَوعدَ ظَنُّ العجزِ عنِ العِقابِ ، وفي الإياسِ مِنْ رحمتِهِ ظَنُّ العجزِ عنِ العَفْوِ وهُمَا يَنقلانِ عنِ المِلَّةِ أيْ أنَّ ذلكَ كفرٌ، هذا ظاهرٌ على تفسيرِ الماتُرِيدِيَّةِ للأمنِ واليأسِ ، وقدِ اشتهر عنِ الشافعيةِ عَدُّهُمَا منْ كبائرِ الذُّنوبِ غيرِ المُثْبِتَةِ للرِدَّةِ كما تقدم بيان ذلك.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه الله: فَهذا دِينُنا وَاعتِقَادُنا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
الشرح أن جميعَ ما ذكرناه من أول الكتاب إلى ههنا هو ديننا واعتقادنا ظاهرًا وباطنًا.

قال المؤلف رحمه الله: وَنَحْنُ بُرَءَاءُ إلَى اللهِ مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الذِي ذكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ.
الشرح أَنَّنَا بُرَءَاءُ مِنْ هؤلاءِ كُلِّهِم لأن ما ذكره من أصول الدين من أول الكتاب إلى ءاخره وهو مذهب أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين ثابت بالمنقول والمعقول وهو الطريق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيكون المخالِفُ على مذهب أهل الهوى والبدعة فوجب التبرىء منه.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَنَسأَلُ اللهَ تَعَالى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمانِ وَيَختِمَ لَنَا بِهِ وَيَعْصِمنَا مِنَ الأَهْوَاءِ المُخْتَلِفَةِ والآراءِ المُتَفَرِّقَةِ وَالمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ مِثْلِ المُشَبهةِ والمُعتَزِلَةِ والجَهْمِيَّةِ وَالجَبْريَّةِ وَالقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الذينَ خَالفُوا السُّنَّةَ وَالجَمَاعَةَ وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ.
الشرح إنَّمَا سَأَلَ المؤلِّفُ الثَّباتَ على الدِّينِ لأنَّ ذلكَ مِنْ أَهَمِّ أُمورِ الدِّينِ فالاعتبار بحسن الخاتمة قالَ تعالى خَبَرًا عنْ يُوسفَ: ﴿رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾ [سورة يوسف].
والأهواءُ جمعُ هوى وهوَ الأمرُ الباطلُ الذي تَمِيلُ إليهِ النُّفوسُ، وقدْ يُطلَقُ الهوى بمعنى الحبِّ لكنَّه ليس المعنى المقصودَ هنا.
وقدْ ذَكَرَ المؤلِّفُ المشبهةَ والجَهْمِيَّةَ والقَدَرِيَّةَ تأكيدًا لِمَا ذَكَرَهُ قبلَ هذا لأنَّ التحذيرَ مِنْ هذهِ المذاهبِ مِمَّا افترضَ اللهُ. ثُمَّ المشبهةُ قدْ مَرَّ تَفسيرُها، أَمَّا الجَهْمِيَّةُ فهيَ طائفةٌ منسوبةٌ إلى جَهْمِ بنِ صَفْوَانَ وكانَ يقولُ إنَّ اللهَ هوَ هذا الهواءُ معَ كُلِّ شىءٍ وعلى كُلِّ شىءٍ اهـ وكان يقولُ بفناءِ الجنةِ والنارِ، وتَبِعَهُ ابنُ تَيمِيةَ الحَرَّانِيُّ في القَولِ بفناءِ النارِ.
ومعنى قولِ المؤلِّفِ "وحَالفُوا الضَّلالةَ" أي لَزِمُوا.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: ونَحْنُ مِنْهُمْ بَرَاءٌ وَهُمْ عِندَنَا ضُلاَّلٌ وَأَرْدِياءٌ وَبِاللهِ العِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.
الشرح أنّ هذا فيه زيادةُ تأكيدٍ لشذوذ هؤلاء المخالفين لمزيدِ التَّنْفِيرِ مِنهم، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.