المجلس الثامن
من مسند الإمام أحمد
طريق السلامة

إتحاف الخيرة

إتحاف_الخيرة الحمد لله له الحمد والفضل والثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم على نبينا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد، فقد رُوِّينا(1) بالإسناد المتصل إلى مسند الإمام أحمد ابن حنبل(2) رضي الله عنه من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال: «قل ربي الله ثم استقم» قال: قلت يا رسول الله ما أخوفُ ما تخاف عليَّ قال فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا».
والحديث روى أولَه مسلم في صحيحه(3) والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان وغيرهم كلهم من حديث سفيان بن عبد الله الثَّقَفِيِّ(4).
وقوله: «قل ربي الله ثم استقم» وفي لفظ عنده(5) «قل ءامنت بالله ثم استقم» من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم وهو مطابق لقوله تعالى ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنةِ التي كنتم توعدون﴾ [سورة فصلت].
ومعنى الجزء الأول من هذا الحديث لـمَّا سأل الصحابيُّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره بشىء يعتصمُ به أي علمني أمرًا أتمسك به لديني فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «قل ءامنت بالله ثم استقم» أي وَحد الله تعالى وءامن به ثم استقم فلا تَحِد عن التوحيد والتزم طاعته سبحانه وتعالى إلى أن تموت على ذلك، وهذه صفة الأولياء فالولي هو الذي ءامن بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واستقام بطاعة ربه أي لازم طاعة الله بأن أدى ما افترض الله على عباده أن يفعلوه واجتنب ما افترض الله تعالى على عباده أن يجتنبوه وأكثر من النوافل وثبت على ذلك حتى الممات، فمن تحققت فيه هذه الصفة فهو ولي الله سبحانه وتعالى لذا قال الله تعالى في صفة من كان كذلك ﴿تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون﴾ [سورة فصلت].
أما القسم الثاني من الحديث فمعناه هذا أشد ما أخافُ عليك لأنه أكثرُ ما يضركَ معاصي لسانك، وكثير من الناس لا يعملون به فإن النفس لها شهوة كبيرة في الكلام الذي تهواه من غير تفكير في عاقبته، فليتنبه العاقل إلى أن حفظ اللسان أمرٌ مهم وهو أكثر ما يُهلك الإنسان في الآخرة لأن الكلام سهل على اللسان أما المشي فيحتاج إلى كُلفة، أما اللسان سهلٌ أن ينطق بما يشاء فأكثر ما يفعله العبد من الذنوب والمعاصي هو من اللسان، فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه وطريقة حفظه أن يتفكر العبد في عاقبة ما يخطر له أن يتكلم به فإن لم يكن فيه خطرٌ ينطقُ به هذا هو طريق السلامة. أما أن يُطلِق لسانه بدون التفكر في عاقبة ما يخرج منه فهذا خطر عظيم، فإن من الكفر ما يكون باللسان، وأكثرُ العداوات والخصومات سببُها اللسان وكذا التباغضُ والتقاطع والغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور واللعن والشتم وغيرُ ذلك كثير، فينبغي على كل إنسان أن يُحاسبَ نفسه ويفكرَ فيما يعود عليه بكلامه الذي يتكلم به قبل أن ينطق فبذلك السلامة.
وقد جاء فيما أنزل الله تبارك وتعالى على سيدنا إبراهيم عليه السلام في الصحف(6) وهي عشر صحائف فيها أمثالٌ أي مواعظ وعِبَر(7) "على العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له أربع ساعات ساعة(8) يُناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسَه، وساعة يتفكر فيها في صُنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب" فهذه الكلمات فيها موعظة عظيمة، ومعناها ينبغي للبالغ العاقل أن يكون له وقت يناجي فيه اللهَ تعالى بالصلاة والذكر والطاعة، ووقت يحاسب فيه نفسه أي يتفكرُ في نفسه فإن تذكر أنه أضاع واجبًا تداركه بأدائه وإن تذكر أنه عمل معصية يتدارك نفسه بالتوبة، والثالث يتفكر في صنع الله عز وجل فيتفكر في حال نفسه وفي حال هذه الأرض التي يعيش عليها وفي حال العالم العلوي السماء والنجوم فإن في هذا التفكر زيادةَ اليقين بكمال قدرة الله سبحانه وتعالى وفيه تقويةُ الإيمان ومحبةُ الله وغيرُ ذلك من الفوائد، والأمر الرابع أنه لا بُدَّ له من ساعة يأكل فيها ويشرب وينظر في أمور معاشه وهذه الأخيرة يُغني الله تبارك وتعالى بعضَ عباده الصالحين عنها فلا يُحوِجهم إلى الأكل والشرب فيعطيهم قوة بدونهما مع حفظ الصحة، ومن هؤلاء عبد الرحمن بن أبي نُعُمْ أحد مشاهير الأولياء الصالحين أخذه الحجاج بن يوسف ليقتله بالجوع فحبسه خمسة عشر يومًا ثم فُتِحَ الباب وعلى ظنه أنه مات من شدة الجوع فوجده قائمًا يصلي فتخوف الحجاج من قتله فأطلقه، لكن أكثر الناس لا بُد لهم من أن تكون لهم ساعة للأكل والشرب، نسأل الله تعالى أن يرحمنا والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه الكريم وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
------------------

1- بضم الراء وكسر الواو المشددة أي من صيرونا رواة عنهم بإجازتهم لنا، الفتوحات الوهبية (ص /32).
2- رواه أحمد في مسنده (3/413).
3- رواه مسلم في صحيحه (38): كتاب الإيمان: باب جامع أوصاف الإسلام.
4- رواه الترمذي في سننه (2410): كتاب الزهد: باب ما جاء في حفظ اللسان، وابن ماجه في سننه (3972): كتاب الفتن: باب كف اللسان في الفتنة، وابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/146)، والحاكم في المستدرك 4/313، والطبراني في المعجم الكبير (7/78-79)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/65)، والخطيب في تاريخ بغداد (2/370)، (9/454).
5- رواه أحمد في مسنده (3/413).
6- رواه ابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/288)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/274).
7- القرءان الكريم جامع لأخبار الأنبياء الأولين وجامع أمور الآخرة وجامع المعاشرة فيما بين الناس وما يكون بين الرجل وزوجه وغير ذلك من المصالح، وهو شاملٌ العقيدة والأحكام.
8- المراد بالساعة هنا الوقت وليس المراد به الساعة الزمنية.