فضلُ حُسنِ الخُلُقِ وتَرْكِ الغضبِ

سلسلة الذهب - الجزء الأول

سلسلة_الذهب الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا مـحمدٍ أشرفِ الـمرسلينَ وعلى ءالهِ الطيبينَ الطاهرينَ وعلى أنبياءِ اللهِ أجمعينَ.
أمّا بعدُ فإنَّ خيرَ الهديِ هدْيُ مـحمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلَّم وإنَّ من هدي رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم حُسنَ الخلُقِ.قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: "أنَا زعيمٌ ببيتٍ في أعلَى الـجنّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خلقَهُ" أي أنا ضامِنٌ لِمن حَسَّنَ خُلُقَهُ ببيتٍ في أعلَى الـجنّةِ، ومعنى حُسنِ الخلقِ أنْ يَعمَلَ الإنسانُ الـمعروفَ مع الذي يعرِفُ لهُ ومع الذي لا يعرِفُ لهُ؛ لأنَّ قصدَهُ رضا اللهِ فلا يُهِمُّهُ رضا الناسِ بعد أنْ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وأن يصبِرَ على أذَى النّاسِ، وأن يَكُفَّ أذاهُ عن النّاسِ، هذا معنَى حُسنِ الخلُقِ.
فلو كانَ الـمسلمُ الـمؤمنُ الذي حالُهُ هذا أي يعمَلُ الـمعروفَ مع الذي يعرفُ لَهُ ومع الذي لا يعرفُ لَهُ، ويَكُفُّ أذاهُ عن الغيرِ ويَصبِرُ على أذَى الناسِ هذا لهُ عندَ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ فضلٌ كبيرٌ بحيثُ إنهُ يساوِي الرجلَ الذي يقومُ اللياليَ والنّاسُ نيامٌ ويصومُ النّهارَ أي يُكثِرُ صيامَ النفلِ يُكثِرُ من ذلكَ ويتهجَّدُ في الليلِ أي يقومُ في جوفِ الليلِ يصلِّي تطوعًا للهِ تعالى.
وهذا الـمؤمنُ الذي يُـحَسّنُ خلقَهُ في الدَّرجةِ سواءٌ، مع أنَّ هذا ليسَ مثلَ ذاكَ يقومُ اللياليَ ويتركُ لذيذَ الـمنامِ مـحتَسِبًا الأجرَ من اللهِ تعالى ويصومُ أكثرَ السَّنَةِ، هذا بِـحُسنِ خلُقِهِ يساوِي ذاكَ الذي يقومُ الليلَ ويصومُ النّهارَ بلا فتورٍ.
حسنُ الخلقِ يتطلّبُ تركَ الغضبِ، والغضبُ شرُّهُ كبيرٌ، كثيرٌ من الناسِ بسببِ الغضبِ يكفرُونَ، وكثيرٌ يقطعُونَ أرحامَهُم بسببِ الغضبِ وكثيرٌ من النّاسِ يُقْدِمُونَ على القتلِ ظلمًا وعدوانًا بسببِ الغضبِ، لذلكَ الرسولُ صلى اللهُ عليه وسلَّم أوصَى بتركِ الغضبِ قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ ما يُنْجِينِـي مِنْ غضبِ اللهِ، قال: "لا تغضَبْ". معنى الـحديثِ أَنَّكَ إنْ كنتَ تريدُ النجاةَ من غضبِ اللهِ فلا تغضبْ أي اتركِ الغضبَ. مساوئُ الغضبِ كثيرةٌ لا تُحصى، في الـماضِي القديـمِ كانَ منْ قومِ عادٍ رجلٌ يقالُ لَهُ "حمارُ بنُ مالِكٍ". هو من العربِ الذينَ هم مِنْ عادٍ، وهؤلاءِ قومُ عادٍ قبلَ سيدِنَا إبراهيمَ بزمانٍ طويلٍ. اللهُ أعلمُ كَمْ مضَى من السّنينِ منذُ عهْدِهِم لأنَّ تاريخَ الدُّنيَا غيرُ معلومٍ عندَ البشرِ، عِلْمُهُ عندَ اللهِ، والرّسولُ ما حَدَّدَ، ما قالَ إنَّهُ مضَى من الدّنيَا كذَا وكذَا مِنَ السنينِ، فهذا الرَّجلُ الذي يُسَمَّى "حمارَ بنَ مالكٍ" كانَ زعيمًا على وادٍ في الـجزيرةِ العربيةِ ويقالُ لذلكَ الوادِي "جوفٌ".
كانَ هذا الرجلُ عاشَ على الإسلامِ أربعينَ سنةً ثُـمَّ ابتلاهُ اللهُ تعالى ببلاءٍ عظيمٍ فلم يَصبِرْ، بل تَسَخَّطَ على ربّهِ والعياذُ باللهِ، اللهُ تعالى أرسلَ صاعقةً على أولادِهِ فقتلتْهُم فغَضِبَ غضبًا شديدًا وكَفَرَ كُفرًا كَبيرًا، قالَ: لا أعبُدُهُ أي لا أعبدُ اللهَ لأنَّهُ قَتَلَ أبنائِي، فبالغَ في الكفرِ لم يقتصِرْ على كفرِهِ لنفسِهِ بل صارَ إذا جاءَ إنسانٌ إلى هذا الوادِي يقولُ لهُ: تكفُرُ باللهِ وإلا قتلتُكَ فإنْ كَفَرَ تركَهُ وإلا قتلَهُ.
ثُـمَّ إنَّ اللهَ تعالى أرسلَ نارًا من أسفلِ الوادي فأحرقَتِ الوادِي، كانَ في هذا الوادِي شجرٌ كثيرٌ وماءٌ فصارَ هذا الوادِي أجردَ لم يبقَ فيهِ شجرٌ ونَضَبَ الـماءُ فيهِ. هذا الرجلُ لو صبرَ على هذا البلاءِ لنالَ أجرًا كبيرًا، لو ثبتَ على إسلامِهِ ولم يكفُرْ لنالَ أجرًا كبيرًا، وذلكَ لأنَّ الـمؤمنَ الذي يَفقِدُ مَن يُعِزُّ عليهِ كالولدِ والأبِ والأمّ والأخِ والأختِ إنْ صَبَرَ لوجهِ اللهِ تعالى فلَهُ الـجنّةُ، اللهُ تباركَ وتعالى قالَ في الـحديثِ القدسِيّ: "مَا لعبدِي الـمؤمِنِ إذا قَبَضْتُ صفيَّهُ من الدنيَا ثُـمَّ صَبَرَ عندِي جزاءٌ إلا الـجنةُ".
فهذا الرجلُ لو ثبتَ على إسلامِه ولم يَتَسَخَّطْ على اللهِ لنالَ هذا الأجرَ العظيمَ لكنَّهُ خَسِرَ في الدّنيَا والآخرةِ، لَـمْ يَنفعْهُ كفرُهُ بل زادَهُ اللهُ تعالى نِقمةً، أرسلَ في ذلكَ الوادِي نارًا أحرقَتْ ذلكَ الوادِي، وهذا الوادِي في الـجزيرةِ العربيّةِ.
من أجلِ هذا أَكَّدَ الرسولُ الأمرَ بتركِ الغضبِ وأوصانَا بذلكَ إيصاءً مُؤَكّدًا، فطوبَـى لِمَنْ تَـجَمَّلَ بِـهذَا الـحديثِ فكَفَّ نفسَهُ عندَ الغضبِ.
ثم رسولُ اللهِ عليهِ السلامُ قالَ: "ليسَ الشديدُ من غَلَبَ الناسَ ولَكِنَّ الشديدَ من غَلَبَ نفسَهُ"، وهذا الأمرُ أي تركُ الغضبِ يحتَاجُ إلى مخالفةِ النَّفْسِ، لأنَّ النَّفْسَ تُـحِبُّ أن تَعلُوَ على الغيرِ بحيثُ إذا إنسانٌ سبَّهُ يريدُ أن ينتقمَ منهُ بأكثرَ مما سبَّهُ، أو بدَلَ السبّ يَضرِبُ وقد يَقتُلُ.
وبعضُ مفاسدِ الغضبِ أشدُّ من بعضٍ، فقد يُهَوّنُ الغضبُ على الإنسانِ الكفرَ باللهِ، الرجلُ في حالِ رضاهُ يكونُ هادئًا يحفظُ لسانَهُ لكنْ حينَ يغضَبُ يَفُورُ وقد يكفُرُ أو يَبْطِشُ ظُلْمًا وعُدْوَانًا.
فهنيئًا لِمن عَمِلَ بهذا الـحديثِ الذي قالَهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للرجلِ الذي سألَهُ ما يُنْجِينِـي من غضبِ اللهِ قالَ لَهُ: "لا تغضبْ"، الـمعنى أنَّ الغضبَ يؤدِي إلى سخطِ اللهِ إمَّا إلى الكفرِ وإمَّا إلى ما دونَ ذلكَ.
ثُـمَّ إنَّهُ مطلوبٌ تقليلُ الكلامِ، تقليلُ الكلامِ يُساعِدُ على حفظِ الدينِ، الرجلُ الذي يُقَلّلُ الكلامَ بغيرِ طاعةِ اللهِ تعالى يَسلَمُ من كثيرٍ من الشرّ، قالَ بعضُ العلماءِ في التّحذيرِ من كثرةِ الكلامِ:
كَمْ في الـمقابرِ من قتيلِ لسانِهِ
معناهُ كثيرٌ من النّاسِ سببُ موتِـهِم الكلامُ الذي يخرُجُ من أفواهِهِم لأنَّـهُم يتكلَّمُون بما لا يَعنيهِم في الـملوكِ أو في غيرِهِم فيكونُ ذلكَ سببًا لقتلِهِم.
كثيرٌ من الكلامِ الـمُهلِكِ الـمُخـرِجِ من الـمِلّةِ سببُهُ انطلاقُ النَّفسِ مع هواهُ يتكلَّمُ بما يَـخطُرُ لَهُ من غيرِ أن يَزِنَهُ بشريعةِ اللهِ، هل يوافقُ شريعةَ اللهِ أم لا يُوافِقُ، من غيرِ تفكيرٍ في ذلكَ يَنطقُ بما يَخطُرُ لهُ فيكونُ في ذلكَ هلاكُهُ.
ومِن جملةِ ذلكَ ما يقولُهُ بعضُ النَّاسِ والعياذُ باللهِ إذا غَضِبُوا من إنسانٍ: "لو نَزَلَ اللهُ من السَّماءِ ما يُخَلّصُكَ مِنّي"، هذا كفرٌ، أَولا فيهِ نسبةُ التحيّزِ أي الاستقرارِ في مكانٍ إلى اللهِ، واللهُ تعالى كانَ قبلَ الـمكانِ بلا مكانٍ ثُـمَّ خَلَقَ الـمكانَ فهو موجودٌ بلا مكانٍ ليسَ متحيزًا في العرشِ ولا في سماءٍ من السَّمواتِ بلْ موجودٌ بلا مكانٍ، والأمرُ الثانِي في هذا الكلامِ الاستخفافُ باللهِ كأنَّهُ يقولُ: "اللهُ لا يَقْدِرُ أن يُـخَلّصَكَ منّي"، هذا كفرٌ ءاخرُ، هذهِ الكلمةُ فيهَا كفرانِ، ولو كانَ من قالَ هذا لا يدرِي أنَّ هذا يُـخرِجُهُ من الإسلامِ.
نسألُ اللهَ أن يجعلنَا من عبادِهِ الصابرينَ الذين يَـملكُونَ أنفسَهُم عندَ الغضبِ ونسألُهُ أنْ يُثَـبّـتَنَا على الإيمانِ في كلِ الأحوالِ، إنه سميعٌ مـجيبٌ. وءاخرُ دعوانَا أنِ الـحمدُ للهِ ربّ العالَمِينَ.