الزهدُ في الدنيا وتركُ التَّنعُّمِِ

سلسلة الذهب - الجزء الأول

سلسلة_الذهب الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ لهُ النّعمةُ وله الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسنُ صلواتُ اللهِ البرّ الرّحيمِ والملائكةِ المقرَّبينَ على سيدِنا محمَّدٍ أشرفِ المرسلينَ وعلى جميعِ إخوانِهِ من النَّبيينَ وءالِه الطيبينَ الطاهرينَ.
أما بعدُ،فقدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لمـُعاذِ بنِ جبَلٍ حينَ وجَّهَهُ إلى اليَمَنِ: "إيَّاكَ والتَّنعُمَ، فإنَّ عبادَ اللهِ ليسوا بالمُتَنعّمِينَ" رواهُ أحمدُ في كتابِ الزُّهدِ.
التنعُّمُ هو التّوسُّعُ في الملذاتِ في المآكلِ وفي المشاربِ وفي الملابسِ ونحوِ ذلكَ، هذا يقالَ لهُ التنعُمُ، التنعُّمُ على قِسمَينِ:
قِسْمٌ جائزٌ ليسَ فيه معصيةٌ، وقسمٌ محرمٌ.
التَّنَعُمُ الجائزُ هوَ التَّنَعُّمُ بالمالِ الحلالِ لغيرِ الفخرِ والبطرِ، أي لا يَقصِدُ صاحبُهُ البطرَ والفخرَ، إنَّما يَقصِدُ التَّبَسُّطَ في الملذاتِ، ما كانَ على هذا الوجهِ أيْ ما كانَ منَ المالِ الحلالِ ولم يكنِ القصدُ منهُ الفخرَ والبطرَ فهو جائزٌ ليسَ على فاعلِهِ معصيةٌ.
أمَّا التَّنَعُّمُ المحرَّمُ فهوَ التنعُّمُ بالمالِ الحرامِ، أو بقصدِ الفخرِ معَ كونِ المالِ حلالا، ومعْ هذا الرَّسولُ صلى الله عليهِ وسلَّم يقولُ: "إنَّ عبادَ اللهِ ليسوا بالمُتَنَعّمينَ"، أي أحبابَ اللهِ وأولياءَهُ لا يتنعمونَ، هذا معنى الحديثِ "إيَّاكَ والتنعُّمَ فإنَّ عبادَ اللهِ ليسوا بالمُتَنَعّمينَ".
ترْكُ التنعُّمِ هو حالُ الأنبياءِ وحالُ الأولياءِ، عيسى عليهِ السلامُ كانَ يلبَسُ الشعَرَ ويأكلُ الشجَرَ، معنى يلبَسُ الشعَرَ أي يلبَسُ ما يطلُعُ من الثيابِ من الغنمِ أي منَ الخشِنِ ليسَ الصوفَ الناعمَ.
وأمَّا معنى ويأكلُ الشجَرَ أنهُ كانَ يتَقَوَّتُ منْ بَقْلِ الأرضِ، أيْ ما كانَ مثلَ المـُلوخيةِ والهندباءِ ونحوِ ذلكَ منَ الحشائشِ كانَ هذا قوتُهُ بدونِ طبخٍ، وكانَ ينامُ ويبيتُ حيثُ أدركَهُ المساءُ، إن أدركَهُ في مسجدٍ يبيتُ في مسجدٍ، كانَ عندهُمْ مساجدُ، عندَ الذينَ ءامنوا به كانَ يوجدُ مساجدُ، لكنْ كانتْ تسمَّى باللغةِ السُّريانيَّةِ بغيرِ لفظِ المسجدِ، المسجدُ لغةٌ عربيةٌ لكنْ معناهُ كانَ موجودًا في أيَّامِ أتباعِ عيسى وأتباعِ موسى وقبلَ ذلك أيضًا كانَ.
سيّدُنا محمّدٌ عليهِ السَّلامُ كانَ لا يتنعَّمُ، كانَ يُمضي الشهرَ في بيتِهِ لا يوقدُ نارًا، كانَ قوتُهمُ الماءُ والتمرُ.
سليمانُ عليه السَّلامُ الذي أعطاهُ اللهُ ذلك المـُلكَ الذي لا ينبغي لأحدٍ منْ بعدِهِ كانَ لا يتنعَّمُ، كانَ يأكلُ خبزَ الشعيرِ، كانَ قوتُهُ خبزَ الشَّعيرِ بدلَ الأرُزّ والقمحِ والذُّرةِ، وكانَ عليهِ السَّلامُ سخَّرَ اللهُ لهُ الشياطينَ، معَ كفرِهِمْ كانوا مُسَخَّرينَ له مُنْقادينَ ومُطيعينَ لهُ، لأنَّ اللهَ تعالى كانَ يُنزِلُ بهم نِقمتَهُ إذا خالفوا أمرَه في الأمورِ التي يوجّهُهُمْ إليها منَ الخدَماتِ الدُّنيويةِ، كانَ يكلّفُهمُ الخدماتِ الدنيويةَ مثلَ بناءِ الصُّخورِ الكِبارِ وإخراجِ الجواهرِ منَ البِحارِ، كانَ على يمينِه في مجلسِه وعلى يسارِه ستُّمائةِ ألفِ كُرْسيٍ، قسمٌ منهُ يجلسُ عليهِ الإنسُ وقسمٌ يجلسُ عليهِ الجنُّ، الإنسُ يجلِسونَ عنْ يمينِهِ والجنُّ كانوا يجلِسونَ عنْ يسارِهِ هذا كانَ حالُ الأنبياءِ.
أمَّا الأولياءُ فهمْ مقتدونَ بالأنبياءِ، لكنَّهُ ليسَ معنى تركِ التنعمِ أنَّ الإنسانَ لا يستعملُ في عمرِهِ شيئًا منَ الأشياءِ اللذيذةِ كالعسلِ واللحمِ، لا، بل يستعملونَ لحفظِ الصّحةِ في بعضِ الأوقاتِ، لأنَّ الصحةَ البدنيةَ تحتاجُ إلى استعمالِ أشياءَ لها مذاقٌ خاصٌّ، ولا ينافي هذا ما كانَ منْ حالِ بعضِ الأنبياءِ منْ إكثارِ النّساءِ، سليمانُ عليهِ السلامُ اللهُ تعالى أحلَّ لهُ أنْ يجمعَ بينَ أكثرَ منْ أربعٍ من الحرائرِ وأحلَّ لهُ السُّرّياتِ أي ملكَ اليمينِ.
المؤرخونَ يقولون إنه كانَ عندَهُ ثلاثُمائةِ امرأةٍ منَ الحرائرِ وسبعُمائةٍ منَ الإماءِ المملوكاتِ السُّرّياتِ، لمْ يكنْ قصدُهُ بذلكَ إشباعَ نفسهِ والشهوةَ، إنَّما كانَ قصدُهُ منْ ذلكَ أنْ يُخرجَ اللهُ منْ نسْلِهِ عددًا يقاتلونَ في سبيلِ اللهِ كثيرينَ، أنْ يطلُعَ من نَسْلهِ منْ صُلبِهِ عددٌ كبيرٌ منَ الشَّبابِ يجاهدونَ في سبيلِ اللهِ يقاتلونَ الكفَّارَ، هذا كانَ قصدُه، إلى جانبِ ذلكَ أيضًا له مقصِدٌ دينيٌ غيرُ ذلِك كنشرِ أحكامِ الشريعةِ للنساءِ بطريقِ النساءِ كما كانَ مهتمًّا بنشرِ الشريعةِ من طريقِ الرجالِ إلى الرجالِ.
كما كانَ سيدُنا محمّدٌ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، اللهُ أباحَ لهُ أنْ يجمعَ بينَ أكثرَ منْ أربعٍ في ءانٍ واحدٍ وحرَّمَ ذلكَ على أمَّتهِ، لحكمةٍ منها نشرُ الشريعةِ بطريقِ النساءِ، وإلَّا فهوَ لمْ يكنْ متعلقَ القلبِ بالنّساءِ، بدليلِ أنهُ كانَ لمـَّا يأتي دورُ عائشةَ يتركُها على الفراشِ ويخرجُ إلى الجبَّانةِ ليلا يدعو اللهَ لأهلِ الجبَّانةِ، لأهلِ البقيعِ، جبَّانةِ المدينةِ، يقضي هناكَ في الجبانةِ وقتًا.
أيضًا من الدلائلِ على ذلكَ أنَّ رجلا قالَ لهُ: يا رسولَ اللهِ إنَّ لي بنتًا جميلةً أريدُ أنْ تتزوجَها، ذكرَ له أنها في صِحةٍ تامّةٍ ما مسَّها صداعٌ قطُ، قالَ: "لا حاجةَ لي فيها"، لماذا قال له ذلك معْ أنها وُصِفتْ له بالجمالِ؟ لأنَّ الذي لا يُصابُ بالمصائبِ في هذهِ الدنيا قليلُ الحظّ في الآخرةِ، المؤمنُ الذي هو محبوبٌ عندَ اللهِ تكثُرُ عليهِ المصائبُ في الدنيا منْ أمراضٍ وأذى الناسِ إلى غيرِ ذلكَ، هذا أيضًا منَ الدليلِ على أن رسولَ اللهِ عليهِ السلامُ لم يكن متعلقَ القلبِ بالنّسَاء، إنما أكثرَ منَ النساءِ لغرضٍ دينيّ، يَعلمُ ذلكَ منْ يعلمُ ويجهلُ ذلكَ منْ لا حظَّ لهُ في الفهمِ الصَّحيحِ.
فإنْ قيلَ: كيفَ أزواجُه يتَركُهنَّ منْ دونِ أنْ يعطيهنَّ النفقةَ بالمعروفِ أي على حسبِ ما عرِفَ بين الناسِ من إدامٍ وخبزٍ أو نحوِهِ.
فالجوابُ: أنهنَّ كنَّ يختـرنَ الآخرةَ فما يعطيهنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نفقةً كنَّ يُقدّمنَهُ للآخرةِ، يوزّعنَهُ ويكْتفينَ لأنفسِهِنَّ بالتمرِ والماءِ ونحوِ ذلكَ، هذا منْ شدةِ تعلُّقِ القلبِ بالآخرةِ. الذي يكونُ قلبُه متعلّقًا بالآخرةِ لا يحوّلُ قلبَه على التفنُّنِ في الملذَّاتِ، اليومَ ءاكُلُ كذا، ثمَّ يأتي الغدُ فيقولُ ءاكلُ كذا اليومَ، ثمَّ يأتي اليومُ الذي بعدَهُ يفكّرُ فيما يأكلُ، كلَّما مضتْ مدةٌ يفكّرُ في التفنّنِ في الأكلِ، هذا لا يصدرُ إلا من القلبِ الذي هو متعلقٌ بالدنيا.
أما القلبُ الذي هو متعلّقٌ بالآخرةِ لا يتفننُ في ذلكَ، لكنَّه بعضَ الأحيانِ بعضُ أولياءِ اللهِ يلبسونَ اللباسَ الفاخرَ من أجلِ غرضٍ شرعيٍ، إذا اجتمعوا بالناسِ حتى يصيرَ من الناسِ إقبالٌ عليهمْ، لأنَّ الناسَ أكثرَهم لا يعرفونَ إلا المظاهرَ.
وقدْ قالَ رسولُ اللهِ عليهِ السلامُ ما يؤيّدُ هذا المعنى قالَ عليهِ السلامُ: "ليسَ الغِنى بكثرةِ العَرَضِ، وإنَّما الغِنى غِنى القلبِ" رواهُ البخاريُّ وأحمدُ وغيـرُهما.
مرادُهُ بالعَرَضِ متاعُ الدنيا، أي ليسَ الغنى المشكورُ المحمودُ العاقبةِ غِنى العرَضِ أي غِنى المتاعِ، وإنَّما الغِنى غنى القلبِ أي قناعةِ النفسِ باليسيرِ منَ الرزقِ، قالَ الإمامُ الحافظُ أبو زرعةَ وليُّ الدينِ العراقيُّ وهو من علماءِ القرنِ الثامنِ الهجريّ في الحثّ على تركِ الفُضولِ، والفضولُ معناهُ الزوائدُ منْ هذهِ الدنيا في المــَأكلِ والمشربِ والملبسِ ونحوِ ذلكَ قالَ "وإياكَ والفُضولَ، فقدْ رأينا أُناسًا من أهلِ العلمِ يتَتَبعونَ الفضولَ من المالِ ساءتْ أفكارُهُمْ فصارَتْ هِمَمُهُم خبيثةٌ".
قالَ: "وعليكَ بالقناعةِ باليسيرِ من الرزقِ". القناعةُ باليسيرِ عونٌ للإنسانِ على سلامةِ دينِهِ ودنياهُ، وهذا المعنى يحتاجُ إلى بيانِ كيفَ تكونُ القناعةُ باليسيرِ عونًا في السَّلامةِ في الدّين والدّنيا.
بيانُ ذلكَ أنَّ الإنسانَ إذا لم يقنعْ باليسيرِ منَ الرزقِ، نفسُهُ تأمرُه بتحصيلِ المالِ من الحرامِ فيهْلِكُ وقدْ يكونُ هلاكُهُ في الدّنيا والآخرةِ.
أمَا تسمعونَ أنَّ كثيرًا منَ الناسِ يشتغلونَ بالأشياءِ التي هي خسيسةٌ ثمَّ يُقبضُ عليهمْ فيُسْجنونَ، ويعذبونَ سنينَ ويقضونَ سنينَ في السُّجونِ، هؤلاءِ الطمعُ في الكثيرِ منَ الرّزقِ وعدمِ القناعةِ في اليسيرِ منَ الرزقِ أوصلَهمْ إلى هذهِ المهالِكِ في الدُّنيا ومهالكُهُمْ في الآخرةِ أشدُّ.
عليكمْ بالقناعةِ باليسيرِ منَ الرزقِ، فإنَّ القناعةَ باليسيرِ عونٌ على سلامةِ الدينِ والدنيا أي أنه ينفعُ في الدنيا والآخرةِ، الرضا بالقليلِ منَ الرزقِ ينفعُ في الدنيا والآخرةِ، فإذا كانَ الأمرُ هكذا فعليكمْ بالعملِ بهذه النصيحةِ القناعةُ باليسيرِ من الرّزقِ، لا تَتَطَلَّعوا إلى الذي عندَ أكثرِ الناسِ من أهلِ الدنيا، لا تنظروا إلى أحوالِهم بلِ انظروا إلى من أشدَّ منكم قلةً في المالِ. الرسولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أدَّبنا أحسنَ تأديبٍ قالَ: "إذا نظرَ أحدُكمْ إلى من فُضّلَ عليهِ في المال والخَلقِ فلينظرْ إلى منْ هو أسفلَ منهُ" رواهُ البخاريُّ.
المعنى لا يُفكّرُ المؤمنُ في أنْ يكونَ مثلَ منْ هوَ فوقَه في أمورِ الدّنيا في المالِ، بل ينبغي أنْ ينظرَ إلى منْ هو أقلُّ منه حظًا في الدنيا، أي مَنْ هوَ أفقرُ منه، من ْكانَ فقيرًا فلينظُرْ إلى مَنْ هو أفقرُ منهُ ولا ينظُرُ إلى الأغنياءِ الذينَ فضَّلَهُمُ اللهُ تعالى في الدنيا بكثرةِ الرزقِ أو بقوةِ الجسمِ ودوامِ الصّحةِ، إذا رأى إنسانًا لا يمرضُ في غالبِ الأوقاتِ وعندَه من الرزقِ الشىءَ الكثيرَ الكثيرَ لا يفكّرُ في هذا، بلْ ليفكرْ في أهلِ البلاءِ أهلِ المصائبِ وأهلِ الفقرِ، ذلك يعينُهُ أي في ءاخرتِه، يكونُ مترقّيًا في الخيراتِ والكمالاتِ والدرجاتِ العاليةِ، وأما الذي ينظرُ إلى من هو فوقَهُ في أمورِ الدنيا فإنه لا يترقَّى بلْ يكونُ في انحطاطٍ.
والحمدُ للهِ ربّ العالمينَ.