عقيدةُ السلفِ الصالحِ

سلسلة الذهب - الجزء الأول

سلسلة_الذهب الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على المصطفى الماحي المظلَّلِ بالغمامِ سيدِنا محمدٍ طهَ الأمينِ وعلى صحابتِه الشُمِّ الكرامِ الهداةِ المهتدينَ ومن تَبِعَهُم وسارَ على دربِهِم إلى يومِ الدينِ.
أما بعد، فإن السلفَ الصالحَ ومَن تبعهم من الخلفِ يعتقدون أنَّ اللهَ موجودٌ، ليس جسمًا لطيفًا وليس جسمًا كثيفًا، وأنه منزهٌ عن أن يكون في جهةٍ ومكانٍ، كان موجودًا قبل الأماكنِ والجهاتِ بلا مكانٍ، فكما كان موجودًا قبل خلقِ الأماكنِ والجهاتِ بلا مكانٍ فهو موجودٌ بلا مكانٍ بعد خلقِها، ودليلُهم قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى/11]، لأن الأشياءَ من أنواعِ العالمِ، واللهُ لا يشابهُ الجسمَ وصفاتِ الجسمِ. من هنا قال الإمامُ أبو جعفرٍ الطحاويُّ السلفيُّ في كتابه الذي سماهُ عقيدةَ أهلِ السنةِ والجماعةِ على أسلوبِ أبي حنيفةَ وصاحبَيه: "ومن وصفَ اللهَ بمعنًى من معاني البشر فقد كفرَ"، ومعاني البشرِ هي صفاتهُم: الحركةُ والسكونُ واللونُ والانفعالُ والتعبُ والتألمُ والتلذذُ والشمُّ والذوقُ وطروءُ الزيادةِ والنقصانِ والتحولِ من صفةٍ إلى صفةٍ وما أشبهَ ذلك من صفاتِ الجسْمِ، فاللهُ منزهٌ عن ذلك. وفي هذا بيانُ من اعتقدَ في اللهِ الجسميةَ أو صفةً من صفاتِ الجسميةِ فهو كافرٌ، وهذا معتقدُ كل الأئمةِ من السلفِ والخلفِ، وأبو حنيفةَ وصاحباه محمدُ بنُ الحسنِ وأبو يوسفَ القاضي، كلٌّ من الأئمةِ المجتهدين.
ولأبي حنيفةَ نصٌّ في كتابِه الفقهِ الأكبرِ بنفيِ الجهةِ عن اللهِ قالَ فيه: "ولقاءُ الله تعالى لأهلِ الجنةِ بلا تشبيهٍ ولا مكانٍ ولا جهةٍ حقٌّ"، وقال الإمامُ الشافعيُّ: "المجسمُ كافرٌ"، ذكرَ ذلك الحافظُ السيوطيُّ في كتابِهِ الأشباهُ والنظائرُ ، وقال الحافظُ النوويُّ: "التجسيمُ الصريحُ كفرٌ"، ونصَّ الشافعيُ رضي الله عنه على أن من اعتقد أن اللهَ جالسٌ على العرش كافر، ذكر ذلك صاحبُنجمِ المهتدي ورجمِ المــُعتدي ، وقد نقلَ ابنُ المعلّمِ القرشيُّ عن الشيخِ الإمامِ أقضى القضاةِ نجمِ الدينِ في كتابِه المسمّى ((كفايةُ النبيهِ في شرحِ التنبيهِ)) في كتابِه ((نجمُ المهتدي)) في قولِ الشيخِ أبي إسحاقَ رضيَ اللهُ عنه في بابِ صفةِ الأئمةِ: "ولا يجوزُ الصلاةُ خلفَ كافرٍ، لأنه لا صلاةَ لهُ، وكيف يقتدى به؟!" اهـ. قال: "وهذا مُنْتَظِمٌ مَنْ كفرُه مجمعٌ عليه ومَن كفَّرناه من أهلِ القبلةِ كالقائلينَ بخلقِ القرءانِ، وبأنه لا يعلمُ المعدوماتِ قبلَ وجودِها، ومن لا يؤمنُ بالقدرِ، وكذا من يعتقدُ أنَّ اللهَ جالسٌ على العرشِ، كما حكاهُ القاضي حسينٌ عن نصِّ الشافعيّ رضي الله عنه" اهـ. وذكرَ الحافظُ السبكيُّ وغيرُه: "أنَّ الأئمةَ الأربعةَ قالوا بتكفيرِ القائلِ بإثباتِ التحيزِ في الجهةِ للهِ".اهـ.
هذا دليلُ نفيِ التحيزِ في المكانِ والجهةِ عنِ اللهِ من حيثُ النقلُ، أما من حيثُ العقلُ فالعقلُ يحيلُ أنْ يكونَ خالقُ العالمِ جسمًا، لأنَّ الجسمَ حادثٌ، والحادثُ يحتاجُ إلى محدِثٍ، فلو كانَ اللهُ تعالى جسمًا لكان حادثًا، بهذا استدلَّ أهل النظرِ على أن الشمسَ مخلوقةٌ، لا تصلحُ أن تكونَ إلها خالقًا، لأنها جسمٌ لهُ حدٌّ ومقدارٌ، وتتحولُ منْ حالٍ إلى حالٍ، وكلُّ ما كانَ متحوِّلا من حالٍ إلى حالٍ لا يجوزُ عقلا أن يكونَ إلهًا، لأنَّ منْ شرط الإلهِ أن يكونَ قديمًا ليس لوجوده ابتداءٌ، فالشمسُ محتاجةٌ لمن خصَها بهذا الحجمِ وهذه الصفةِ صفةِ الحرارةِ وشكلِ الاستدارةِ، لأنه لا يصحُ في العقلِ أن تكونَ هي كوّنتْ نفسَها على هذه الصفةِ، فإذا كانتْ هذه الشمسُ التي هي جِرمٌ مشاهَدٌ مرئيٌّ كثيرُ النفعِ لا تصلُحُ أن تكونَ إلها كما يعتقدُ عُبّادُها، فكيفَ يصحُّ أن يكونَ الإلهُ جسمًا في جهةِ العرشِ جالسًا عليه؟! وقد استدلَّ نبيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه السلامُ على عدمِ صحةِ ربوبيةِ الشمسِ والقمرِ والكوكبِ بتحولِها من حالٍ إلى حالٍ، واللهُ تعالى أثنى على ذلك فقالَ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام/83].
ثمَّ إنَّ علماءَ أهلِ السنةِ من الأشاعرةِ والماتُريديةِ نصوا على أن اللهَ تعالى منزهٌ عن أن يكون كلامُه حرفًا وصوتًا، لأن الحرفَ والصوتَ مخلوقان، فقالوا: "القرءانُ وغيرُه من الكتب المنزلة عباراتٌ عن كلامِ الله"، وكلام الله ليس حرفًا ولا صوتًا، وهذه العباراتُ ليست عينَ كلامِه الذي هو متكلِمٌ به وذلك لأنَّ اللغاتِ مخلوقةٌ ما كانتْ موجودةً ثم أوجدها اللهُ.
وصفاتُه: علمُه وقدرتُه ومشيئتُه وسمعُه وبصرُه وحياتُه كلُّها أزليةٌ أبديةٌ، ليست حادثةً تحدثُ في ذاتِ اللهِ منْ وقتٍ إلى وقتٍ كما تقولُ المشبهةُ تبَعًا لابنِ تيميةَ الذي قال والعياذُ بالله: إنَّ اللهَ تحدثُ في ذاتِه إراداتٌ متعاقبةٌ، وجنسُ هذه الإرادةِ أزليٌّ، وقالوا أيضًا والعياذُ بالله: إنَّ اللهَ تحدثُ في ذاتِه حروفٌ وأصواتٌ متجدِدةٌ بمرورِ الأوقاتِ كما هو شأنُ كلامِ الناسِ، اعتمادًا على كلامِ ابنِ تيميةَ وكلامِ مَنْ سبقَه من مجسّمةِ الحنابلة، فخالفَ ابنُ تيميةَ الذي قلدَهُ المشبهةُ إجماعَ المسلمين، لأنه أثبتَ أزليًا قديمًا ليس لوجوده ابتداءٌ سوى اللهِ بقولِه: "إنَّ جنسَ العالمِ أزليٌ ليسَ لوجودِه ابتداءٌ" ساوى ابنُ تيميةَ جنسَ العالمِ باللهِ، فإنه يعتقدُ أنَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ العالم حادثٌ لكنَّ جنسَ العالمِ ليسَ حادثًا بل موجودٌ معَ اللهِ.
وقد تبعَ ابنُ تيميةَ في هذا الفلاسفةَ المـُحْدَثينَ، ثمَّ إن مشبهةَ العصر زادوا على ابنِ تيميةَ خلافَ ما اعتقدَه في بعض كتبه، وقد قال ابنُ تيميةَ في كتابِه المسمَّى الكلمُ الطيبُ. فصلٌ فيما يقولُ من خدرتْ رجلُه قال: "خدرتْ رجلُ ابنِ عمرَ فقال له بعضُ الناسِ: اذكرْ أحبَّ الناسِ إليك، فقال: يا محمدُ، فاستقامتْ رجلُه" اهـ. فاستحسنَ ابنُ تيميةَ في هذا الكتابِ الاستغاثةَ بالرسولِ، وهذا حقٌّ.
وقد ذكرَ إبراهيمُ الحربيُّ الذي كانَ حافظًا كبيرًا يُشَبّهُ بأحمدَ بن حنبلٍ، وكانَ من أصحابِ أحمدَ، ذكرَ هذه القصةَ، وذكرَ أنه جاءَ في روايةٍ أنه قيلَ لابنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ: "اُدعُ أحبَّ الناسِ إليكَ"، وذكرَ هذه القصةَ المحدثُ الحافظُ ابنُ السُّنيِّ في كتابِه "عملُ اليومِ والليلةِ"، وذكرها الحافظُ النوويُّ والحافظُ ابنُ الجزريِّ، وقد خالفَ مشبّهةُ العصرِ ابنَ تيميةَ في هذا فقالوا: الاستغاثةُ بالرسولِ بعدَ موتِه أو في حياتِه بغيرِ حضرتِه شركٌ، ووافقوهُ في هذه لأنَّ ابنَ تيميةَ قالَ في كتابِه التوسلُّ والوسيلةُ: لا يجوزُ التوسلُ بغيرِ الحيّ الحاضرِ. بذلكَ كفَّرتْ مشبهةُ العصرِ المسلمين المتوسلين بأي صيغةٍ، كأغثني يا رسول الله، أو المددَ يا رسولَ اللهِ، أو أتوسلُ بجاهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتابُ المسمى (الكلمُ الطيبُ) ثبتَ أنه من تأليفِ ابنِ تيميةَ، فقدْ ذكرَ الذينَ ترجموا ابنَ تيميةَ في النسخِ الخطّيةِ أنه من تأليفِه.
والله أعلم وأحكم.
وءاخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ.