كلامُ اللهِ ذاتيٌّ أزليٌّ

سلسلة الذهب - الجزء الأول

سلسلة_الذهب الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على المصطفى الماحي المظلَّلِ بالغمامِ سيدِنا محمدٍ طهَ الأمينِ وعلى صحابتِه الشُمِّ الكرامِ الهداةِ المهتدينَ ومن تَبِعَهُم وسارَ على دربِهِم إلى يومِ الدينِ.
أما بعد، اتفق أهل الحق على أن كلامَ الله تعالى ليس حرفًا ولا صوتًا واستدلوا على ذلك بآياتٍ منها قوله تعالى ﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)﴾ [سورة الأنعام] وقالوا لو كانَ اللهُ تعالى يتكلمُ بحرفٍ وصوتٍ كخلقِه لجازَ عليه كلُّ صفاتِ الخلقِ من الحركةِ والسكونِ وغيرِ ذلكَ وذلِك محالٌ. فلذلكَ وجبَ أنْ يكونَ كلامُ الله غيرَ حرفٍ وصوتٍ يدلُّ على ذلِك قولُه تعالى ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ وذلك لأنَّ اللهَ يكلّمُ كلَّ إنسانٍ يومَ القيامةِ فيُسمِعُهُ كلامَه ويحاسبُ من يحاسبُه منهم فيفهمُ العبدُ من كلامِ الله السؤالَ عن أفعالِه وأقواله واعتقاداتِه، وينتهي اللهُ عزَّ وجلَّ من حسابِهمْ في لحظةٍ من موقفٍ من مواقفِ القيامةِ الخمسينَ، ويومُ القيامةِ كلُّه خمسونَ ألفَ سنةٍ.
فلو كان حسابُ الله لخلقِه من إنسٍ وجنٍّ بالحرف والصوتِ ما كانَ ينتهي من حسابـِهم في مائةِ ألفِ سنةٍ لأنَّ الخلقَ كثيرٌ، ويأجوجُ ومأجوجُ وحدَهم يومَ القيامةِ البشرُ كلُّهم بالنسبةِ لهم كواحدٍ من مائةٍ، وفي روايةٍ كواحدٍ من ألفٍ، وبعضُ الجنّ يعيشونَ ءالافًا من السنين، فلو كان حسابُ الخلق بالحرف والصوت لكان إبليسُ وحدَه يأخذُ حسابُه وقتًا كثيرًا، لأنَّ إبليسَ عاشَ نحوَ مائةِ ألفِ سنةٍ أو أكثرَ أو أقلَّ ولا يموت إلا يومَ النفخةِ، وحسابُ العبادِ ليسَ على القولِ فقطْ بل على القولِ والفعل والاعتقادِ.
وكذلكَ الإنسُ منهم من عاشَ ألفَي سنةٍ ومنهم من عاش ألفًا وزيادةً، ومنهم من عاشَ مئاتٍ من السنينَ فلو كانَ حسابُهم بالحرفِ والصوتِ لاستغرقَ حسابُهم زمانًا طويلا جدًا، ولم يكنِ اللهُ أسرعَ الحاسبينَ بل لكانَ أبطأَ الحاسبينَ، واللهُ تعالى يقول ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾.
الحروفُ تتعاقبُ، مهما كانتْ سريعةً تأخذُ شيئًا من الوقتِ، أمَّا اللهُ تعالى فكلامُه أزليٌّ أبديٌّ ليسَ حرفًا ولا صوتًا ولا يُبتدَأُ ولا يُختَتَمُ ولا يزيدُ ولا ينقصُ، فالقرءانُ كلامُ اللهِ ليسَ بمعنى أنَّ الله نطق به كما نحن نقرؤُه، إنما معناهُ أنه يدلُّ على كلامِ الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، على هذا المعنى نقول القرءان كلامُ الله.
جبريلُ عليه السلام قبل أن ينزلَ بالقرءانِ على سيدنا محمّدٍ، الله تعالى أسمعه كلامًا غيرَ كلامِه الأزليّ الذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا، أسمعه كلامًا هو صوتٌ وحروفٌ متقطعةٌ على ترتيبِ اللفظِ المنزَّل. اللهُ تعالى خلق صوتًا بحروف القرءانِ فأسمعَ جبريلَ ذلك الصوتَ وجبريلُ تلقَّاه ونزل بهِ على سيدنا محمد، وكذلك وجد جبريلُ هذا الصوتَ الذي سمِعه مكتوبًا في اللوحِ المحفوظ، جبريلُ أخذَه من هناكَ كما سمعَ هذا الصوتَ.
فيُفهَمُ من هذا أنَّ جبريلَ لم يسمعِ القرءانَ منْ كلامِ اللهِ الأزليّ الذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا.
وليسَ معنى ذلك أنَّ جبريلَ لا يسمعُ كلامَ اللهِ، بلْ جبريلُ هو من الملائكةِ الذين يسمعون كلامَ الله ويفهمون منه الأوامرَ، جبريلُ سمع كلامَ الله وفهم منه أن الله يأمره بأن يقرأ ذلك الصوتَ الذي سمعه مرتبًا بحروف القرءان على سيدنا محمد، فأنزله على سيدنا محمد مُفرَّقًا على حسب ما أمره الله.

اتفق أهل الحق أن كلام الله تعالى ليس حرفًا ولا صوتًا
أما الدليل على أنَّ العبادَ يسمعون كلامَ الله يوم القيامة فمأخوذ من حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمُه ربُّه يومَ القيامةِ منْ غيرِ تَرجُمانٍ ولا حاجبٍ".
فإن قالوا أي المشبهةُ دليلُنا على أنَّ كلامَ اللهِ بالحرفِ والصوتِ قولُه تعالى ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)﴾ [سورة يس] يقال لهم لو كان الأمر كما تدعون لتناقضت هذه الآيةُ مع تلك الآيةِ والقرءانُ يتعاضدُ ولا يتناقضُ.
وإنما معنى هذه الآيةِ أنَّ الله تعالى يُوجِدُ الأشياءَ بدونِ تعبٍ ومشقةٍ وبدون ممانعةِ أحدٍ لهُ، معناه أنه يخلق الأشياءَ التي شاء أن يخلقَها بلا تأخُّر عن الوقتِ الذي شاء وجودَها فيه. فمعنى ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ يدلُّ على سرعةِ الإيجادِ ليس معناه كلما أرادَ اللهُ خلْقَ شىءٍ يقول كن كن كن، وإلا لكان معنى ذلك أنَّ الله كل الوقتِ يقولُ كنْ كن كن وهذا محال لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يخلق في اللحظة الواحدة ما لا يدخلُ تحتَ الحصرِ.
ثم "كُنْ" لغةٌ عربيةٌ واللهُ تعالى كانَ قبلَ اللغاتِ كلِّها وقبل أصناف المخلوقاتِ فعلى قول المشبهةِ يلزمُ أن يكون اللهُ ساكتًا قبلُ ثم صارَ متكلمًا وهذا محال. وقد قال أهل الحق لو كان يجوز على الله أن يتكلم بالحرف والصوت لجاز عليه كلُّ الأعراض من الحركةِ والسكون، والبرودة واليبوسة، والألوان والروائح، والطعومِ وغيرِ ذلك، وهذا محالٌ. والله تعالى خلق بعضَ العالـَم متحركًا دائمًا وهي النجومُ وخلقَ بعضَ العالـَم ساكنًا دائمًا وهي السمواتُ وخلقَ بعضَ العالـمِ متحركًا في وقتٍ وساكنًا في وقتٍ وهمُ الإنسُ والجنُّ، وهو سبحانَه وتعالى لا يشبه شيئًا من هذه العوالـمِ كلِها.
وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.