من إملاءات المحدّث الهرري كتاب سلسلة الذهب - الجزء الأول
 برُّ الوالدينِ وعقوقُهما

برُّ الوالدينِ وعقوقُهما

سلسلة الذهب - الجزء الأول

سلسلة_الذهب الحمدُ للهِ ربّ العالَمِينَ لهُ النّعمةُ ولهُ الفضلُ وله الثناءُ الحسنُ صلواتُ اللهِ البَـرّ الرّحيمِ والملائكةِ المقربينَ على سيدِنَا محمدٍ أشرفِ المرسلينَ وحبيبِ ربّ العالَمِينَ.

أمَّا بَعدُ فإنَّ من معاصِي البدنِ التي هي من الكبائرِ أي من المعاصِي التي لا تلزمُ جارحةً من الجوارحِ عقوقَ الوالدَينِ أو أحدِهِـمَا وإنْ علا ولو مع وجودِ أقربَ منهُ، قالَ بعضُ الشافعيةِ في ضبطِهِ: "هو ما يتأذَّى بهِ الوالدانِ أو أحدُهُـمَا تأذّيًا ليس بالْـهَيّنِ في العُرْفِ".

ومنْ عقوقِ الوالدَينِ الذي هو من الكبائِرِ تركُ الشخصِ النفقةَ الواجبةَ عليهِمَا إن كانَا فقيرينِ، أمَّا إنْ كانَا مكتَفِيَيْنِ فلا يَـجِبُ الإنفاقُ عليهِمَا، لكنْ يُنفِقُ عليهِمَا من بابِ البِـرّ والإحسانِ إليهِمَا، فيُسَنُّ لهُ أنْ يعطيَهُمَا ما يُـحِبَّانِهِ، بل يُسَنُّ أن يطيعَهُمَا في كلّ شىءٍ إلا في معصيةِ اللهِ، حتى في المكروهاتِ إذا أطاعَ أبويهِ يكونُ لهُ ذلكَ رفعةَ درجةٍ عندَ اللهِ إنْ نَوَى نيةً حسنةً.

قالَ الفقهاءُ: "إذَا أَمَرَ أحدُ الوالدَينِ الولدَ أنْ يأكُلَ طعامًا فيه شبْهةٌ أي ليسَ حرامًا مؤكّدًا، يأكلُ لأجلِ خاطرِهـِمَا ثم من غيرِ علمِهِمَا يتقايَؤُهُ، وقالُوا: "إذا أَمَرَ أحدُ الوالدَينِ ولدَهُ بفعلِ مباحٍ أو تركِهِ وكانَ يغتَمُّ قلبُ الوالدِ أو الوالدةِ إن خالفَهُمَا يَـجِبُ عليهِ أنْ يطيعَهُمَا في ذلكَ".
ومِنْ بِرّ الوَالِدَينِ أنْ يَبَرَّ مَنْ كانَ أبُوهُ يُـحِبُّهُ بعدَ وفاةِ أبيهِ بالزيارةِ والإحسانِ، كذلكَ من كانت تُـحِبُّهُ أمُّهُ بعدَ وفاتِـهَا أن يَصِلَهُم ويُـحْسِنَ إليهِم ويَزُورَهُم. قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: "إنَّ مِنْ أَبَرّ البرِ أنْ يَبَرَّ الرجلُ أهلَ وِدّ أبيهِ بعدَ أن يُوَلّـِيَ" أي بعدَ أنْ يَـمُوتَ.ومِنْ بِرّ الوَالِدَينِ زيارتُـهُمَا بعدَ موتِـهِمَا.ومن أرادَ أن يكونَ بارًا فعليهِ أن يطيعَهُمَا في كُلّ المباحاتِ أو أغلبِهَا.

قالَ أهلُ العلمِ: "من حيثُ المشروعيةُ يُطِيعُ الولدُ والدَيهِ في المباحِ والمكروهِ، لكنْ لا يَـجِبُ طاعتُهُمَا في كلِ مباحٍ بل يَـجِبُ أن يطيعَهُمَا في كُلّ ما في تركِهِ يَـحصُلُ لَـهُمَا غَمٌّ بسببِهِ وإلَّا لا يكونُ واجبًا.

فإذَا طَلَبَ أحدُ الوالدَينِ من الولدِ أن لا يسافِرَ وكانَ سفرُهُ بلا ضرورةٍ وَجَبَ عليهِ تركُ ذلكَ السفرِ إذا كانَا يغتَمَّانِ بسفرِهِ وإذَا أرادَ الأبُ أو الأمُّ منعَ ولدِهِـمَا من الخروجِ من البيتِ بدونِ إذنِهِ فإنْ كانَ خروجُهُ يُسبّبُ للأبِ غَمًّا شديدًا بحيثُ يحصلُ له انهيارٌ أو شبهُ ذلكَ عندئذٍ لا يَـجُوزُ لهُ الخروجُ بدونِ إذنِهِ بل يكونُ خروجُهُ من الكبائرِ إنْ كانَ الأذَى الذي يحصلُ شديدًا فدرجةُ المعصيةِ في ذلكَ على حسبِ الإيذاءِ الذي يحصلُ للوالدِ. وإذا طلبَ الأبُ أو الأمُّ من ابنِهما شيئًا مباحًا كغسلِ الصحونِ أو ترتيبِ الغرفةِ أو تسخينِ الطعامِ أو عَملِ الشايِ أَو ما أشبهَ ذلكَ ولَـمْ يَفْعَلْ فإنْ كانَ يَغتَمُّ قلبُ الوالدِ أو الوالدةِ إنْ لَـمْ يَفعَلْ حرامٌ عليهِ أن لا يَفْعَلَ.

قالَ اللهُ تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (سورة الإسراء ءاية 23-24). أَمَرَ اللهُ عبادَهُ أمرًا مقطوعًا بهِ بأنْ لا يَعبُدُوا إلّا إيَّاهُ وأَمَرَ بالإحسانِ للوالدَينِ، والإحسانُ هو البِـرُّ والإكرامُ، قال ابنُ عباسٍ: "لا تَنفُضْ ثوبَكَ فيصيبَهُمَا الغبارُ"، وقالَ عُروةُ: "لا تَـمتَنِعْ عن شىءٍ أحَبَّاهُ".

وقد نَـهَى اللهُ تعالى عبادَهُ في هذهِ الآيةِ عن قولِ "أفٍ" للوالدَينِ وهو صوتٌ يدلُ على التضجُّرِ، وأصلُهَا نفخُكَ الشىءَ الذي يسقُطُ عليكَ من ترابٍ ورمادٍ، وللمكانِ تريدُ إماطةَ الأذَى عنهُ فقِيْلَتْ لكُلّ مُسْتَثْقَلٍ.
﴿ولا تَنْهَرْهُـمَا﴾ : ولا تَزجُرْهُـمَا عما يتعاطيانِهِ مِـمَّا لا يُعجِبُكَ، والنَهيُ والنَهْرُ أخوانِ.
﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا﴾ : أي ليّنًا لَطِيفًا أحسنَ ما تجدُ كما يقتضيهِ حسنُ الأدبِ.
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ : أي أَلِنْ لَـهُمَا جانِبَكَ متذلّلًا لَـهُمَا من فرطِ رحمتِكَ إيّاهُـمَا وعطفِكَ عليهِمَا ولكبرِهِـمَا وافتقارهِـمَا اليومَ إلى مَنْ كانَ يفتقرُ إليهِمَا بالأمسِ، وخَفضُ الجناحِ عبارةٌ عن السّكونِ وتركِ التعصّبِ والإباءِ أي ارفُقْ بِـهِمَا ولا تغْلظْ عليهِمَا.

﴿وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ : أي مثلِ رحمتِهِمَا إيايَ في صِغَرِي حتى رَبَّيَانِـي، أي ولا تكتَفِ برحمتِكَ عليهِمَا التي لا بقاءَ لَـهَا، أو هُو أن يقولَ: يا أبتَاهُ يا أمَّاهُ ولا يدعوَهُمَا بأسمائِهِمَا فإنَّهُ من الجفاءِ وسوءِ الأدبِ معهُمَا.
وروى الحاكِمُ والطبرانِـيُّ والبيهقيُّ في شُعَبِهِ مرفوعًا "رِضَا اللهِ في رِضَا الوَالِدَينِ وسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا".
وعن بَـهزِ بنِ حَكِيمٍ عن أبيهِ عن جدّهِ رضيَ اللهُ عنهُم قالَ: "قلتُ يا رسولَ اللهِ: مَنْ أَبَرُّ؟ قالَ: أُمَّكَ، قلتُ: ثُـمَّ مَنْ؟ قال: أُمَّكَ، قلتُ: ثُـمَّ مَنْ؟ قالَ: أُمَّكَ، قلتُ: ثُـمَّ مَنْ؟ قال: أبَاكَ، ثُمَّ الأَقربَ فالأَقربَ". أخرجَهُ أبو داودَ والترمذيُّ وحسنَهُ.

فيُفهَمُ مِنْ هذا الحديثِ تقديمُ الأمّ على الأبِ في البِـّـرِ، فلو طَلَبَتِ الأمُّ مِنْ وَلَدِهَا شيئًا وطَلَبَ الأبُ خلافَهُ وكانَ بحيثُ لو أطَاعَ أحدَهُـمَا يَغضَبُ الآخَرُ يُقَدّمُ الأُمَّ على الأبِ في هذهِ الحالةِ.

وإِنَّـمَا حَضَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حديثِهِ هذا على بِرّ الأمّ ثلاثًا وعلى بِرّ الأبِ مرةً لعَنَائِهَا وشَفَقَتِهَا مع ما تقاسيهِ من حَـمْلٍ وطَلْقٍ وولادةٍ ورَضاعةٍ وسَهَرِ ليلٍ. وقد رأَى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رَضَيَ اللهُ عنهُمَا رجلًا يَـحمِلُ أُمَّهُ على ظهرِهِ وهو يطوفُ بِـهَا حولَ الكعبةِ فقالَ: "يا ابنَ عمرَ أتُرانِـي وَفَّيــتُهَا حَقَّها؟ قالَ: ولا بطَلْقَةٍ واحدةٍ من طَلْقاتِـهَا، ولَكِنْ قَدْ أَحسنْتَ، واللهُ يُثِيْبُكَ على القليلِ كثيرًا.

وقدْ قالَ العلماءُ بوجوبِ الاستغفارِ للأبوَينِ المسلمينَ في العمُرِ مرةً، ثم الزيادةُ على ذلكَ قربةٌ عظيمةٌ، وليسَ شرطًا أنْ يكونَ هذا الاستغفارُ بعدَ وفاتِـهِمَا. فالولدُ إن استغفرَ لوالديهِ بعدَ موتِـهِمَا ينتفعُ والداهُ بِـهذَا الاستغفارِ حتى إنَّـهُمَا يلحقُهُمَا ثوابٌ كبيرٌ فيَعْجَبَانِ مِنْ أَيّ شىءٍ جاءَهُـمَا هذا الثوابُ؟ فيقولُ لَـهُمَا الْمَلَكُ: هذا من استغفارِ وَلَدِكُمَا لكُمَا بَعدَكُمَا.

وقد صَحَّ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: "ثلاثةٌ لا يدخلونَ الجنةَ العاقُّ لوالدَيهِ والدَّيْوثُ ورَجُلَةُ النّساءِ" رواهُ ابنُ حبانَ. أي لا يدخُلُ هؤلاءِ الثلاثةُ الجَنّةَ مع الأوّلينَ إنْ لَـمْ يتوبُوا، وأمَّا إن تابُوا فقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "التائبُ من الذنبِ كَمَنْ لا ذَنبَ لهُ" رواهُ ابنُ ماجَهْ، والديوثُ هو الذي يَعرِفُ الزِنَـى في أهلِهِ ويَسكُتُ عليهِ مع مقدرتِهِ على منعِهِم، ورَجُلَةُ النّسَاءِ هي التي تَتَشبَهُ بالرّجَالِ.

وأخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "مِنَ الكبائِرِ شَتمُ الرَجُلِ وَالدَيهِ، قيلَ: وهل يَسُبُّ الرجلُ والدَيهِ؟ قال: نعم يَسُبُّ أبَا الرَّجلِ فيَسُبُّ الرجلُ أباهُ ويَسُبُّ أمَّهُ فيَسُبُّ أمَّهُ ".

ورَوَى الحاكمُ بإسنادٍ صحيحٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "كُلُّ الذنوبِ يُؤَخّـِرُ اللهُ منهَا ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلا عقوقَ الوالدَينِ فإنه يُعَجَّلُ لصاحبِهِ" يعنِي العقوبةَ في الدّنيَا قبلَ يومِ القيامةِ.

وقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "ثلاثُ دعَواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ دعوةُ المظلومِ ودعوةُ المسافرِ ودعوةُ الوالِدِ على وَلَدِهِ" رواهُ الترمذيُّ وأبُو داودَ وابنُ ماجَهْ وأحمدُ، وهذا معناهُ إن دَعَا عليهِ بِـحَـقّ أمَّا إنْ دَعَا عليهِ بغيرِ حَقٍ فلا يَضُرُّهُ ذلكَ، فمَنْ أرادَ النَّجَاحَ والفَلاحَ فليَبَـرَّ أبويهِ تكنْ عاقبتُهُ حميدةً، فبِـرُّ الوالدَينِ بركةٌ في الدنيَا والآخرةِ.وءاخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ.

لا ينبغِي التسرعُ، لا ينبغِي أنْ يَبْنِـيَ الشخصُ التحليلَ والتحريـمَ والتكفيرَ على حسبِ ما وَصَلَ إليهِ فَهمُهُ، يَنبَغِي أَنْ يَبْنِيَهُ على الاحتياطِ مع النَّظَرِ في حالِ المسئلةِ هَل هِيَ مُـجْمَعٌ عليهَا أم لا، ثُـمَّ هَلْ هِيَ معلومةٌ مِنَ الدينِ بالضرورةِ أم لا، بعدَ ذلكَ ينبغِي القولُ بتكفيرِ مُـخَالِفِهَا إنْ كانَ في مُـخَالَفَتِهِ تكذيبٌ لِمَا جاءَ في الشرعِ وعُلِمَ مِنَ الدينِ بالضرورةِ.
أمَّا فيمَا كانَ استخفافًا باللهِ أو رسولِهِ أو ملائكتِهِ أو دينِهِ أو شعائِرِ الإسلامِ أو مَا كانَ نوعًا من أنواعِ تشبيهِ اللهِ بالعالَـمِ أو كانَ نفيًا للصفاتِ الثلاثَ عشرةَ الواجبةِ للهِ فلا ينبغِي التوقّفُ في تكفيرِ المخالفِ فيهَا لأنَّ أهلَ الحقِّ من علماءِ الإسلامِ لَـمْ يَـختَلِفُوا في ذلكَ أي في تكفيرِ الْمُخَالِفِ في ذلكَ.
فالقائلُ والعياذُ باللهِ بأنَّ اللهَ جسمٌ لطيفٌ أو كثيفٌ لا يُتوقّفُ في تكفيرِهِ مَهْمَا كانَ غارقًا في الجهلِ؛ لأنَّ ثبوتَ الصفاتِ الثلاثَ عشرةَ للهِ تعالى يدلُ عليهِ العقلُ لو لَـمْ يَسمَعْ ذكرَهُ في علمِ الدينِ، مَنْ سَـمِعَ ومَنْ لَـمْ يَسمَعْ في هذا سواءٌ.
ولا يُنْظَرُ إلى كثرةِ الجَاهِلِينَ الْمُخَالِفِينَ لأهلِ الحقّ في أنَّ اللهَ تعالى منـزهٌ عن أضدادِ هذهِ الصفاتِ الثلاثَ عشْرةَ، لأنَّ مَنْ اعتقدَ أنَّ اللهَ جسمٌ فهو جاهِلٌ بِـخالقِهِ لَـمْ يَعْرِفْهُ، وكيفَ يُعَدُّ مُسلمًا وهو جاهلٌ بِـخَالِقِهِ! وقولُ "لا إلهَ إلا اللهُ" والعباداتُ لا تنفعُ إلا بعد معرفةِ الخالقِ. فالْمُشَبّهُ الذي يعتقدُ أنَّ اللهَ جسمٌ ملأَ العرشَ ليسَ عَابِدًا للهِ بل هو عابدٌ لشىءٍ غيرِ موجودٍ والحقُّ أَنَّهُ ليسَ على العرشِ جسمٌ مَلأَهُ بقَدرِ العرشِ أو مع الزيادةِ على مِساحةِ العرشِ.
وكذلكَ الذي يعتقدُ والعياذُ باللهِ أنَّ اللهَ جسمٌ حالٌّ في الفراغِ فوقَ العرشِ لأنَّهُ شَبَّهَ اللهَ بالشمسِ والقمرِ والنجومِ فإنَّ هؤلاءِ واقفاتٌ في الفراغِ فكِلا الفريقَينِ جاهلٌ بِـخالقِهِ كافرٌ.
ويكفِي دليلاً على أنَّ الذي يعتقدُ اللهَ جسمًا على بطلانِ عقيدتِهِ ءايةُ ﴿ليسَ كمثلِهِ شىءٌ﴾ لأنَّهُ لو كانَ اللهُ جِسمًا لكانَ لَهُ أمثالٌ كثيرٌ، لا فرقَ بينَ من يقولُ: "إنَّ اللهَ جسمٌ" وعابدِ الشمسِ، عابدُ الشمسِ يَعبُدُ جسمًا كَثيفًا مُـحقَّقَ الوجودِ. أمَّا هؤلاءِ الذينَ يعتقدُونَ أنَّ اللهَ جسمٌ مَلأَ العرشَ أو واقفٌ في الفراغِ فوقَ العرشِ أشدُّ سخافةَ عقلٍ من عابدِ الشمسِ؛ لأنَّ عابِدَ الشمسِ وإنْ كانَ كافرًا جَاهِلاً بِـخالقِهِ لكنَّهُ يعبدُ شيئًا موجودًا مشاهَدًا ومنفعتُهُ مُـحَـقَّقَةٌ مشاهَدةٌ، فإذَا كانَتِ الشّمسُ لا تَسْتَحِقُّ أنْ تُعبَدَ فكيفَ يَسْتَحِقُّ ذلكَ الجسمُ الْمُتَوَهَّمُ أنْ يُعبَدَ؟!
فتبينَ وظَهَرَ أنَّ هؤلاءِ الذين يقولونَ: إنَّ اللهَ قاعدٌ على العرشِ أو فوقَ العرشِ في الفراغِ أسخفُ عقلًا من عُبّادِ الشمسِ ولا ينفعُهُم احتجاجُهُم بآيةِ: ﴿الرَّحمَنُ على العَرشِ استوى﴾، حيثُ فَسَّرُوا استواءَ اللهِ بالجلوسِ، والجلوسُ صفةٌ مشتركةٌ بينَ البشرِ والملائكةِ والجنّ والبهائمِ، فليسَ مَدْحًا للهِ بل شَتمٌ للهِ، والجلوسُ لا يَكونُ إلا من جسمٍ مركّبٍ من نصفَينِ نصفٍ أعلَى ونصفٍ أسفلَ، أينَ غابَ عنهُم تفسيرُ الاستواءِ بالقهرِ؟! والقهرُ كمالٌ في حقّ اللهِ ومن أسمائِهِ القهارُ والقاهرُ.
فليسَ في هذا التفسيرِ أي تفسيرِ الاستواءِ بالقهرِ تشبيهٌ للهِ تعالى بِـخلقِهِ بل هذا هو الحقُّ. أمَّا تفسيرُ المشبهةِ لآيةِ: ﴿الرَّحمَنُ على العَرشِ استوى﴾ بِـجَلَسَ أو استَقَرَّ، هذا ضلالٌ مبينٌ حيثُ إنَّهُ تكذيبٌ لِمُحكَمِ القرءانِ قالَ تعالى: {ليسَ كمثلِهِ شىءٌ}. وقالَ: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾. وقالَ: ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾.
وقالَ: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.

 

 

سلسة الذهب
harariyy.org

قائمة سلسة الذهب