لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله وغفر له ولوالديه : الحمدُ لله ربّ العالمين لهُ النّعمةُ ولهُ الفَضل وله الثّناءُ الحسَن، صَلواتُ الله البرّ الرحيم والملائكةِ المقرّبين على سيّدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانِه الأنبياء والمرسلين وسلامُه عليهم أجمعين.
أمّا بعد فإنّ الله تبارك وتعالى جعَل عبادَه المؤمنين على درَجات في الفَضل عندَه، فأعلَى المؤمنينَ عندَ الله درجةً بينَ أفراد البشَر هم الأنبياء. أوّلُ نَبيّ هو ءادمُ عليه السلام وهو أوّلُ البَشر ثم خُتِموا بمحمّد صلّى الله عليه وعلى جميع إخوانه الأنبياء، فلا يَأتي بعدَ محمّد صلى الله عليه وسلم نبيّ لأنّ الله تعالى شاءَ في الأزل وعلِمَ في الأزل أن يكونَ محمّد ءاخرَ الأنبياء. بحسَب الوجود الخارجيّ لم يكن قبلَ ءادم عليه السلام نبيّ، فأوّل أنبياءِ الله هوَ أوّلُ فَرد منَ النّوع الإنسانيّ وهوَ ءادم عليهِ السّلام، ءادمُ عليه السلام خَلقٌ مِن خَلقِ الله مُشرّفٌ مُكرّم عندَ الله لذلك أسجَد الملائكةَ له، الله تعالى أسجَد ملائكتَه المكرمين إكرامًا لآدم عليه السلام، أي أمرَهُم بالسّجُود لهُ تحيّةً وإكرامًا وتَعظيمًا لآدمَ عليه السلام لا عِبادةً لهُ لأنّ الله لا يأمُر بعبادةِ غيرِه. وفي ذلكَ إعْلامٌ للملائكةِ بأنّ هذا الخَلقَ الجديد الذي خُلِقَ بعدَهم وبَعدَ الجِنّ عندَ الله لهُ شأنٌ عظيم، عندَ الله لهُ فَضلٌ عظيم. ثم اللهُ تَبارك وتعالى أكرَم ءادمَ عليه السلام بأن علّمَه بعد أنْ خَرج مِنَ الجنّة أصولَ المعيشة، هو الذي علّمَ الناس كيف يُبذَر البَذْر حتى تُخرج الأرضُ نبَاتًا يتّخذَه الإنسان قوتًا، وهو الذي ضَرب الدّراهمَ والدنانير، ضرَب العُملتَين عملةَ الذّهَب وعُملَة الفضة بتَعليمٍ مِنَ الله تعالى. بعدَ أن نزلَت عليه النبوّةُ كانَ يأتيه الوحيُ، فالله تعالى علّمَه كيف شاءَ، أشياءَ تعَلّمَها مِنَ الملَك بأمر الله وأشياءَ تعَلّمَها بإفاضةٍ على قلبِه. اللّغات علّمَه الله تعالى مِن غير أن يُعلّمَه أحَدٌ، لا ملَك مِن الملائكة ولا جِنّ ثم علَّم أولادَه. رزقَه الله تعالى نحوَ ثمانينَ ولدًا ما بينَ ذكُورٍ وإناث وزوّجَ بعضَهم مِن بَعض ولم يُزوّج واحِدًا منهُم مِن جِنّية ولا مِن حُوريّةٍ مِن الحُور العِين. فمَن قال إنّ ءادمَ عليه السلام كانَ يُزوّج بعضَ بنِيْه منَ الحُوريّات فهو كذِبٌ، إنما كانَ يُزوّج بعضَ أولادِه ببَعض، الذّكور بالإناث، لكن ْكانَ حَرامًا علَيهم أن يتَزوّج هذا مِن توأمته. كانت حَوّاء تلِدُ توأمًا كلّ مَرّة، قيلَ إلا مرّة واحِدة فإنها ولَدَت ذكَرًا واحِدًا ليسَ له توأمه. أمّا تزَوّج أحدِهم مِنَ الأنثى التي هي توأمتُه كانَ حرامًا، كانَ زنًا، ما كانَ الإنسانُ مُهمَلاً كوحشٍ مِنَ الوحُوش كما يقولُ كثيرٌ منَ الناس.
وجاءَ في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال "إنّ ءادمَ كانَ طُولُه ستّين ذراعًا" رواه أحمد والطبراني. ليسَ الذّراع الحديديّ بل الذّراع اليَدويّة، كانَ طولُه ستّين ذراعًا وعَرضُه سبعةُ أذرع، أهلُ الجنّة يوم القيامةِ القَصير والمتوسّط والنّحيف كلٌّ يكونونَ عندَ دخُول الجنة على صورةِ ءادم عليه السلام، يحَوّلهم الله إلى صُورة ءادم عليه السلام. والأنبياءُ كلُّهم كانوا ذَوي الحُسْن والجمَال وكلُّهم كانوا أذكياءَ فُطَناء حتى موسى عليه السلام الذي تأثّر لسانُه بالجمرة التي تَناولها ووضعَها في فمِه حين كانَ طفلاً أمامَ فِرعون لحكمةٍ، ما تركَت تلكَ الجمرةُ في لِسانه أن يكونَ كلامُه غيرَ مُفهِم للناس. بل كانَ كلامُه مفهِمًا لا يُبدِلُ حَرفًا بحرف بل يتكلّم على الصّواب، لكن ْكانَ فيه عُقدَةٌ خَفيفةٌ مِن أثَرِ تِلك "الجمرة" ثم دعَا الله لَما نزَل عليه الوحي قال: ﴿واحْلُل عُقدةً مِن لِساني يَفقَهُوا قَولي﴾ فأذهبَها الله عنه. الحاصلُ أنّ أنبياءَ الله كلّهم أصحاب خِلقةٍ سَويّة، لم يكن فيهم ذو عاهةٍ في خِلقتِه ولم يكن فيهم أعرج ولا كسيح ولا أعمى. إنما يعقوبُ عليه السلام مِن شِدّةِ بكائه على يوسف عليه السلام ابيَضّت عَيناه مِن شِدّة الحُزن، ثم ردَّ الله تعالى عليه بصَرهُ لَما أرسَل يوسفُ عليه السلام بقميصِه مِن مِصر إلى مَدينَ البلدةِ التي فيها أبوه. مِن ريح يوسفَ عليه السلام، الله تعالى جعلَه يَشَمّ ريح يوسف عليه السلام فارتَدّ بصيرًا. هو لم يكن أعمى مِن أصل الخِلقة ولا كان بها عمى قبلَ هذه المصيبة التي أصابته بفقد ابنِه يوسف عليه السلام.
فمَن يقول أنّ ءادم عليه السلام كانَ متوحّشًا قصيرَ القامة شبيهًا بالقِرد فهو كافر، البشرُ الله تعالى خلقَهم في أحسن تقويم - أي في أحسن صورة - كما قال تبارك وتعالى في سورة التين : ﴿والتين والزيتون وطُورِ سِينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ القِردُ ليسَ أحسَنَ تقويم بل مِن أقبح الشكل القرد بدليل أن الله تعالى مَسخ قومًا مِن بني إسرائيل عصَوا ربّهم وءاذوا نبيَّهم، فمسَخهم الله قردةً. نصَحُوهم بعضُ المؤمنين، وبعضُ الناسِ سكَتُوا. فكانَ الناسُ في أمر هؤلاء الذينَ مُسِخوا قِردة على ثلاثةِ أصناف، صِنفٌ نهَوهم قالوا لهم اتّقُوا الله، وفرقة تنحت ولم تنه، وفرقة عصت وصادت. الله تعالى ليَبتلِيَهُم حرّم علَيهم أن يَصطادوا الصيدَ يوم السّبت، ثم عمِلوا هم احتِيالا، كانوا يَصطَادُون يوم السّبت ويبقونها في الماء مربوطة أو محجوزة مغلَقا عليها ثم يخرجونها في اليوم التالي لأكلها. ثم لَما مُسِخوا قردةً الناسُ كانوا يُريدون أن يرَوهُم ويَطّلعوا عليهم فتَسوّر بعضُ الناس السّور، سورَ البلَد فنَزل ففتَح الباب فأَقبَلوا هؤلاء الذينَ مُسِخوا قردة، هُم لا يعرفون أنّ هذا قَريبَهم وأنّ هذه قَريبَتهُم لا يميّزون بينهم، هيَ القِردة تأتي تَقترب مِن هذا ومِن هذا، القِردَة تَعرف أنّ هذا قريبَها الفلاني وأنّ هذه قريبتَها الفلانيّة يَبكُون، يتَمسّحون بهم فيَبكُون، الذين غضِبَ الله علَيهم مسَخهُم قردةً، قال الله تعالى ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة البقرة 65-66]. لو كانَ أصلُ البشر قِردةً لمسخَهُم إلى شَكلٍ ءاخَر، وهؤلاء علماؤهم كانوا يَنهَونهم، قالوا لهم الله حَرّم علَيكم أن تَصطادوا السّمك يومَ السّبت كُفّوا عن هذا ينصحونهم فلا يَنتَصحون. أهلكَهُمُ الله تعالى بسبب عِصيانهم لربهم بارتكابِ ما نُهوا عنه.
الله تعالى ينتَقم مِن عباده في الدنيا ببَعض ذنُوبهِم ومِن جملة هذه الذّنوب تركُ إنكار المنكر، الناسُ إذا رأَوا الناسَ الذين يعصُونَ الله وفي استطاعتِهم أن ينهَوهُم ثم لا ينهَوهم هذا يجلب لهم للّذين سكَتُوا العقوبةَ في الدّنيا، البلايا تَكثُر علينا في هذا الزمن لهذا، جزاءً على ترك النهي عن المنكر.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا وانصرنا على من عادانا، اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا. الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين.