سَترُ العُيوبِ وَالتَّحذِيرُ الشَّرعِيُّ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ لَهُ النِّعمَةُ ولَهُ الفَضلُ ولَهُ الثَّناءُ الحَسَنُ صَلَواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحيمِ والملائِكَةِ المُقَرَّبينَ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ أَشرَفِ الْمُرسَلينَ وعلى إِخوانِهِ الأَنبِياءِ والمُرسَلينَ وسَلامُ اللهِ عَلَيهِم أَجمَعينَ.
أمّا بَعدُ فَقَد رُوِيَ بِالإِسنادِ الْمُتَّصِلِ الصَّحيحِ في كِتابِ المُستدِرَكِ للحاكِمِ أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: "مَن رَأى عَورَةً فَسَتَرَهَا كانَ كَمَن أَحيا مَوؤودَةً مِن قَبرِهَا". هذا الحديثُ الصَّحيحُ يُخبِرُنا بِأنَّ مَن رأى عَورَةً أي لمسلِمٍ فَسَتَرَها أَي لم يَبُثَّها بَينَ النّاسِ بَل أَخفاها فَلَهُ أَجْرٌ شَبيهٌ بِأَجْرِ مَن أَحيا مَوؤودَةً، أَي أَنقَذَ بِنتًا مَولودَةً دُفِنَت وهِي حيَّةٌ كما كانَ جاهِلِيَّةُ العَرَبِ يَفعَلونَ، فَأَنقَذَها قَبلَ أَن تموتَ. هذا لَهُ أَجرٌ عَظيمٌ، وهذا الأَمرُ كانَ في جاهِلِيَّةِ العَرَبِ أَي قَبلَ أَن يُبعَثَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِمُدَّةٍ، كانَ هذا الشَّىءُ مَعروفًا عِندَ العَرَبِ، لَكِنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ ما فَعَلَ هذا، هذا كَذِبٌ مُفترى عَلَيهِ أَنَّهُ كانَ قَبلَ أَن يُسلِمَ وَأَدَ بِنتًا لَهُ، إِنَّما بَعضُ النّاسِ فَعَلوا حتَّى بَعضُ أَصحابِ رَسولِ اللهِ كانَ فِيهِم رَجُلٌ مَعروفٌ بِالكَرَمِ والحِلمِ، لَكِن حَدَثَتْ لَهُ حادِثَةٌ فَفَعَلَ هذا، ثمَّ بَعدَ أَن أَسلَمَ عَمِلَ حَسَناتٍ كَثيرَةً حَتَّى تَنغَمِرَ تِلكَ المعصِيَةُ التي فَعَلَها قَبلَ أَن يُسلِمَ مِن وَأدِ بَناتٍ لَهُ، هذا الرَّجُلُ سَبَبُ إِقدامِهِ على دَفنِ بَناتٍ لَهُ ثمانٍ أَنَّهُ كانَت أَغارَتْ قَبيلَةٌ مِنَ العَرَبِ على قَبيلَتِهِ فَسَبَت لَهُ بِنتًا، ثمَّ حَصَلَ صُلحٌ بَينَ القَبيلَتينِ فَهذِهِ البِنتُ كانَ واحِدٌ مِن تِلكَ القَبيلَةِ التي أَسَرَتْها مالَ إِليها تَعَلَّقَ بِها وهِيَ تَعَلَّقَت بِهِ فَخُيِّرَت وقِيلَ لها تَرجِعينَ إِلى أَبيكِ أَم تَبقَينَ هنا مَع هذا الرَّجُلِ، قَالَت: أَنا أَختارُ هذا الرَّجُلَ، اختارَت على أَبيها هذا الرَّجُلَ مَع أَنَّ أَباها وَجيهٌ في قَومِهِ وكَريمٌ وسَخِيٌّ وحَليمٌ ومَعروفٌ بِالذِّكرِ الحَسَنِ عِندَ النّاسِ، هُنا غَضِبَ قالَ: كَيفَ تُفَضِّلُ عَليَّ هذا الشَّخصَ؟ فَحَلَفَ أَنَّهُ إِن جاءَتْهُ بَناتٌ بَعدَ هذا يَدفِنُهُنَّ وهُنَّ حَيَّاتٌ فَدَفَنَ بَعدَ ذَلِكَ ثمانِ بَناتٍ وهُنَّ حَيَّاتٌ، كُلَّما وُلِدَت لَهُ واحِدَةٌ يَدفِنُها إِلى أَن كَملَ عَدَدُ ثمانٍ، ثمَّ بَعدَ أَن أَسلَمَ نَدِمَ على ما فَعَلَ نَدامَةً شَديدةً فَقالَ لِرَسولِ اللهِ: يا رَسولَ اللهِ ماذا أَفعَلُ؟ أَنا وَأَدتُ ثَمَانِ بَناتٍ في الجاهلية أي قبل أن أسلم دفنت ثمان بنات فَماذا أَفعَلُ، قالَ لَهُ: "أَعتِقْ رِقابًا" أَي أُنَاسًا مَملوكينَ حَرِّرْهُم، قالَ: أَنا صاحِبُ إِبِلٍ، مَعناهُ عِندي إِبِلٌ كَثيرٌ أَمّا الرَّقيقُ ما عِندي رَقيقٌ، فَتَصَدَّقَ بِنَحوِ مائةِ إِبِلٍ حتّى يُغَطّيَ ما سَبَقَ لَهُ مِن وَأدِ بَناتِهِ الثَّمانِ، واللهُ تَبارَكَ وتَعالى ذَكَرَ في القُرءانِ الكَريمِ تَقبيحَ وَأدِ البَناتِ قالَ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَإِذَا المَوْءُوْدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ سورة التكوير/ءاية 8-9، هذا فِعْلٌ شَنيعٌ مِن أَشنَعِ الجرائِمِ.
الحاصِلُ أَنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شَبَّهَ هذا الذي يَرى عَورَةً لمسلِمٍ أَي ما يُعابُ عَلَيهِ ويُستَحَى مِنهُ أَن يَطَّلِعَ عَلَيهِ النّاسُ إِن رَءاها فَسَتَرَها بِأَجرِ هذا الإِنسانِ الذي رأى مَوؤودَةً فَأَنقَذَها قَبلَ أَن تَموتَ بِالتُّرابِ، وفي ذَلِكَ أَجرٌ عَظيمٌ، كَذَلِكَ هذا فيهِ أَجرٌ عَظيمٌ الذي يَرى عَورَةً على مُسلِمٍ فَيَستُرُها، ثمَّ هُناكَ قِصَّةٌ تُشبِهُ هذِهِ حَصَلَت في خِلافَةِ عُمَرَ حَيثُ جاءَ رَجُلٌ إِلى عُمَرَ بنِ الخطّابِ أَميرِ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ لَهُ: "يا أمَيرَ المؤمنينَ إِنّي كُنتُ وَأَدتُ بِنتًا لي في الجاهِليَّةِ ثمَّ أَخرَجتُها قَبلَ أَن تَموتَ ثمَّ أَدرَكْنَا الإِسلامَ فَأَسلَمَت ونحنُ أَسلَمنا ثمَّ ارتَكَبَت حَدًّا مِن حُدودِ اللهِ، مَعناهُ زَنَت قَبلَ أَن تَتَزَوَّجَ، فَأَخَذَت شَفرَةً لِتذَبَحَ نَفَسهَا أَي مِن عُظمِ ما وَقَعَت فيهِ مِنَ الفَضيحَةِ، أَخَذَت شَفرَةً لِتَنتَحِرَ فَأدرَكناها وقَد قَطَعَت بَعضَ أَوْداجِها، فَداويناها، ثمَّ تابَت تَوبَةً حَسَنةً، ثمَّ خُطِبَت إِلَينا مِن قَومٍ فَأَخبَرْتُ بِبِعض ما جَرى لها، على زَعمِهِ لِئَلاّ يَغُشَّهُم، قالَ لهم بِنتي هذِهِ كانَ سَبَقَ لها كذا وكذا حتَّى يُقدِمُوا على إِتمامِ خِطبَتِها أَو يَفسَخُوا، أو يَترُكوها، على زَعمِهِ أَنَّهُ يَنصَحُ الذي يخطِبُها لأَنَّ بِنتَهُ سَبَقَ لها كذا ممّا هو عارٌ وعَيبٌ، فقالَ عُمَرُ: أَنتَ تَبُثُّ ما سَتَرَهُ اللهُ تعالى، لَئِن أَخبَرتَ بِذَلِكَ أَحدًا لأَجعَلنَّكَ نَكَالاً يَتَحَدَّثُ بِهِ أَهلُ الأَمصارِ، مَعناهُ لَئِن عُدتَ بَعدَ هذا إِلى إِفشاءِ هذِهِ العَورَةِ التي سَبَقَت لابنَتِكَ، إِن تَحَدَّثْتَ بها بَعدَ هذا لأَجعَلَنَّك نَكالاً أَي عِبرَةً لِلنّاسِ بِعُقوبَةٍ أُنَزِّلُهَا بِكَ يَتَحَدَّثُ بها أَهلُ الأَمصارِ أَي أَهلُ الْمُدُنِ، هذِهِ الحادِثِةُ يُؤخَذُ مِنها حُكمانِ شَرعِيّانِ، يُؤخَذُ مِنها أَنَّ الإِنسانَ بَعدَ أَن يَتوبَ لا يَجوزُ ذِكرُهُ بِالعارِ والعَيبِ الذي سَبَقَ لَهُ، المسلِمُ إِذا سَبَقَ لَهُ عارٌ مَهما كانَ ذَلِكَ العارُ ومَهما كانَت تِلكَ العَورةُ لا يَجوزُ أَن تُفشى بَعدَ أَن يَتوبَ ذَلِكَ المسلِمُ أو المسلِمَةُ، حتّى في مِثلِ هذِهِ الحالةِ، مَثَلاً بَعدَ أَن تابَ ذَلِكَ الشَّخصُ المسلِمُ أَرادَ إِنسانٌ مُصاهَرَتَهُ لا يَجوزُ أَن نَكشِفَ ذَلِكَ العَيبَ الذي سَبَقَ.
وءاخِرُ دَعوانا أَن الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين وَصَلَّى اللهُ على سَيِّدِنا محمَّدٍ أَشرَفِ المُرسَلينَ.