إثبات جواز التأويل للنصوص الواردة
مما يوهم الجسميةَ والأعضاءَ

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما ما أملاه العلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري غفر الله له ولوالديه
اعلموا رحمكم الله بتوفيقه أنه ثبت بالنقل والعقل أنَّ الله تعالى لا يشبه الأجسام وسائر أنواع العالم بوجه من الوجوه. أما النقل فقولُه تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى]، فهذه الآية صريحة في وجوب تنزّه الله تعالى عن مشابهة ما سواه على الإطلاق، لأنَّ كلمة شىء نكرة وقعت في حيز النفي فهي للعموم أي أنه ينتفي عنه مشابهةُ شىء ما من العالم فلا يجوز أن يكون غير مشبِهٍ لشىء ومشبهًا لشىء من العالم. وهذه الآية من المحكمات ومحكم القرءان هو الأصل الذي يُرَدُّ إليه المتشابه. وكل ءاية أوهمت تشبيهًا أو جسمية يجب أن لا تحمل على ظاهرها. فبذلك نكون وفَقنا بين المحكم والمتشابه.
وأما العقل فلأنه تعالى لو كان مشبهًا لشىء من العالم لجازَ عليه ما يجوز على العالم ولو جاز عليه ما يجوز على العالم للزمَ حدوثه، والحدوث ينافي الألوهية، فوضحَ بطلانِ المشابهة وثبت المطلوب وهو تنزّهه تعالى عن المشابهة.
وما ورد من الأحاديث الصحيحة المشهورة في الصفات ليس فيها شىءٌ صريح في كون الله تعالى جسمًا ذا مساحةٍ وأبعاد ثلاثة أي طولٍ وعرض وعمق. فأما ما ورد مما هو صريح في ذلك فليس فيه ما يصح إسنادًا بالاتفاق.
فإذا عُرف ذلك قلنا الخبرُ أي الحديث الذي يناقض النص القرءانيَ أو الحديث المتواتر أو صريح العقل ولم يقبل تأويلاً قطعنا بأنه كذب على الرسول ولا ضرورة إلى تأويله، وما ورد بإسناد ضعيف أو كان في توثيق بعض رواته اختلاف لا يُحتج به لإثبات صفة لله، فمن ذلك حديث: «إن الله على عرشه ما يفضل منه مقدار أربع أصابع» فإنه من المقطوع ببطلانه، فقد أورده ابن تيمية مع الاعتراف بعدم صحته في كتابه «منهاج السنة»1 ، وما ثبت إسناده بطريق الآحاد فأوهم التجسيمَ والمكان فإنه يؤوَّل فقد ثبت التأويلُ عن مالك2 في حديث النزول أنه قال «نزول رحمة لا نزول نُقلة». والأولى أن يحمل على نزول الملَكِ بأمر الله فقد أخرج النسائي3 من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يُمهل حتى إذا مضى شطر الليل الأول أمر مناديًا فينادي هل من داع فيستجاب له» الحديثَ.
وهذا تفسير للرواية المشهورة4 : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَ ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخرِ يقول من يدعوني فأستجيبَ له» الحديثَ.
وقد تقرر عند أهل الحديث أن خير ما يفسر به الحديثُ الوارد كما قال العراقيَ في ألفيته، «وخيرُ ما فسرتَه بالواردِ».
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم5: «هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء: أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعضِ المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارفَ في حقنا غير مراد ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق؛ والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تتأوَّل على ما يليق بها بحسب مواطنها، فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما تأويل مالك بن أنس وغيره، معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته، كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف» اهـ.
ويُبطل ما ذهبت إليه المشبهة من اعتقاد نزول الله بذاته إلى السماء الدنيا أن بعض رواة البخاري6 ضبطوا كلمة (ينزل) بضم الياء وكسر الزاي، فيكون المعنى نزول المَلَك بأمر الله الذي صرّح به في حديث أبي هريرة وأبي سعيدٍ من أن الله يأمر ملكًا بأن ينزل فينادي، فتبين أن المشبهة ليس لها حجة في هذا الحديث.
قال القرطبي في تفسير سورة ءال عمران عند قوله تعالى : ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [سورة ءال عمران] بعد ذكره حديث النزول وما قيل فيه ما نصه7 : «وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرًا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزَّ وجلَّ يُمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا فيقول: هل من داع يُستجاب له، هل من مستغفر يُغفرُ له، هل من سائل يُعطى» صححه أبو محمد عبد الحق8 ، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال وأن الأول من باب حذف المضاف أي ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روي ينزل بضم الياء وهو يبين ما ذكرنا» اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه9 : «استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يُفضي إلى التحيّز تعالى الله عن ذلك، وقد اختُلفَ في معنى النزول على أقوال» اهـ، ثم قال: «وقد حكى أبو بكر بن فورك10 أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكًا، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغرّ عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما بلفظ: «إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديًا يقول: هل من داع فيستجاب له» الحديثَ، وفي حديث عثمان بن أبي العاص: «يُنادي منادٍ هل من داع يستجاب له» الحديث، قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال» اهـ.
قال بدر الدين بن جماعةَ في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل ما نصه11 : «اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه لوجوه:
الأول النزول من صفات الأجسام والمحدثات ويحتاج إلى ثلاثة أجسام: مُنتقَلٍ ومنتقل عنه ومنتقل إليه وذلك على الله تعالى محال.
الثاني لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله، وتنقلات كثيرة لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئًا فشيئًا، فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليلاً ونهارًا من قوم إلى قوم وعودُه إلى العرش في كل لحظة على قولهم ونزولُه فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لب وتحصيل.
الثالث أن القائل بأنه فوق العرش وأنه ملأه كيف تسعه سماءُ الدنيا، وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، فيلزم عليه أحد أمرين إما اتساع سماء الدنيا كل ساعة حتى تسعَه أو تضاؤلُ الذات المقدس عن ذلك حتى تسعَه، ونحن نقطع بانتفاء الأمرين» اهـ.
وقد ثبت عن الإمام أحمد بن حنبل أنه أوَّلَ روى ذلك البيهقي في كتابه «مناقب أحمد»12 يدفعُ فيه ما نَسَبَ إليه بعض أصحابه من الكلمات الموهمة. ومن جملة ما فيه نقلاً عن الإمام أبي الفضل التميمي13 رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها: «وأنكر - يعني أحمد - على من يقول بالجسم وقال إنّ الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسَمكٍ وتركيب وصورة وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله فلم يجز أن يسمى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل» انتهى بحروفه.
وقال البيهقي فيه أيضًا14: «وأنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت عمي أبا عبد الله يعني الإمام أحمد يقول «احتجوا عليَّ يومئذٍ - يعني يوم نُوظِرَ في دارِ أمير المؤمنين15 - فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك. فقلت لهم إنما هو الثواب قال الله تعالى ﴿وجآء ربك﴾[سورة الفجر] إنما تأتي16 قدرته وإنما القرءان أمثال ومواعظ» اهـ، وتأولها في موضع ءاخر بجاء ثوابه، قال البيهقي: «وهذا إسناد صحيح لا غبار عليه». ثم قال: «وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالاً من مكانٍ إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته فإنهم لما زعموا أنّ القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذٍ فعبَّر عن إظهاره إياها بمجيئه وهذا الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا الحُذاق من أهل العلم المنزِّهون عن التشبيه» انتهى ما ذكره البيهقي في «مناقب أحمد».
وقد ناقض ابن تيمية نفسه حيث جزم في بعض مؤلفاته بنفي التأويل عن السلف على الإطلاق وأثبت ذلك في الجملة في بعضها. وأما حديث الجارية السوداء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: «أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال «فمن أنا؟» فقالت: أنت رسول الله. فقال: «إنها مؤمنة» فمؤول بأنه سؤال عن المكانة لا عن المكان، وقولها في السماء معناه علو المنزلة والقدر أي أنه أعلى من كل شىء قدرًا. ومن لم يرض بذلك وأراد أن يحمله على ظاهره فأثبت المكان والحيّز لله تعالى محتجًّا بأنه لا يخرجُ عن الظاهر قيل له لقد خرجت عن الظاهر في حديث أصحَّ من هذا وهو حديث17 : «اربَعوا18 على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعًا قريبًا والذي تدعونه أقربُ إلى أحدكم من عُنُقِ راحلة أحدكم» فهذا لو حُملَ على ظاهره لكان إثبات تحيّزٍ لله بين الرجلِ وبين عنق راحلته وهذا ينقض معتقدكم أنه مستقر فوق العرشبمماسة أو بدون مماسة فماذا تفعلون؟
وهذا الحديث مخرجٌ في صحيح البخاري19 فليت شعري ماذا يفعلون؟! والحق الذي لا محيد عنه أن لا يحمل حديث الجارية على ظاهره بل يؤوَّلُ تأويلاً تفصيليًّا20 فيؤوَّلُ هذا الثاني أيضًا على أن المراد به القرب المعنوي ليس القرب الحسيَ، أو يؤول الأول تأويلاً إجماليًّا فيقال «إنه في السماء» أي بلا كيف وكذلك في الثاني يقال: «أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلة أحدكم» بلا كيف.
فإن أردتم الإنصافَ فاسلكوا هذا المسلك وإلا سلكتم مسلك التحكم، ثم يقال لكم ماذا تفعلون بقول الله تعالى:﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾  [سورة السجدة] فإن حملتموه على ظاهره كان المعنى أن المجرمين يكونون مع الله بالأرض ذلك اليوم فينتقض قولكم إنه على العرش. وإن حملتموه على غير ظاهره فقد تحكمتم فلا مفر من ترك حمل كلا النصّين على مقتضى ظاهره فيكون في ذلك سلامة من التناقض، والقرءان وحديث الرسول لا يناقض بعضه بعضًا، فوجب التوفيق بين النصوص وتجنب إلغاء واحدٍ منها ولا يمكن ذلك إلا بحمل ءايات الصفات على مقتضى المحكم الصريح كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى] ومقتضى البرهان العقلي القطعي على استحالة مشابهة الخالق المخلوق بالجسمية واللون والأعضاء والتحيز في المكان والحد والكمية. والعقل شاهد الشرع فلا يأتي الشرع إلا بمُجَوزات العقول لا يأتي بما يحيله العقل قال تعالى :﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [سورة الحشر] فيحتم العقل تنزُّهه عن الانفعال بالغضب والرضا والاتصاف بالذوق للمطعومات والمشمومات والروائح والشهوة والحزن والتأسّف والإشفاق والتمني والتندم فلا يتصف ذاته بقبول التغير والانتقال ومقارنة الزمن لأن الزمان إن فسّر بمرور الأيام والليالي أو مقارنة متجدد لمتجدد توقيتًا للمجهول بالمعلوم أو بحركات الأفلاك فهو حادث. فالله كان ولا زمان كما أنه كان ولا مكان. وقد قام البرهان العقلي على حدوث جميع ما سوى الله.
قال بعض أهل السنة كما أن الله يرى بلا أحداقٍ وأجفان ويسمع بلا أصمخة وءاذان فهو متكلم بكلام ليس حرفًا ولا صوتًا وهذا الذي يُفهم من قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ إلا عند من أقفل الله قلبه فإنه لا يفهم الفرق بين الصفات الحادثة التي لا تجوز على الله القديم الأزلي الأبدي ويجعلُه كخلقه محلاً للحوادث وجزى الله خيرًا أئمةَ أهل السنة الذين بينوا أن كل صفة من صفات الله كحياته وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وعلمه وكلامه صفةٌ واحدة، قدرتُه قدرة واحدة كحياته فحياتُه صفة واحدة أزلية أبدية ومشيئتُه كذلك وسمعُه صفةٌ واحدةٌ وبصره بصر واحد وسمعه واحد أزلي أبدي وبصره أزلي أبدي وكلامه واحد أزلي أبدي لا ينقطع، نقل الإجماع على وحدة كلامه الإمام العلامة أبو علي السكوني الإشبيلي المتوفى سنة سبعمائةٍ وسبعةَ عشرَ في كتابه «عيونِ المناظرات»21 وكتاب «التمييز»22الذي ألَّفه للرد على الزمخشري فيما أورده في تفسيره «الكشاف» من الزيْغ.
ثم هذه المقالةُ مقالةُ الطحاوي شاهدُها ءايةُ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى] وءايةُ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾[سورة الرعد] قال المحدث الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرح القاموس23 : «المقدار المقياس».
ومما يؤيد تكفيرَ من يعتقد أن الله جالس أو متحيز في جهة ءاية﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ﴾ [سورة الحديد] لأن الأول هو الذي لا ابتداء لوجوده والحديثُ الصحيح «كان الله ولم يكن شىء غيره» أي كان قبل الزمان والمكان وغيرهما من العالم. الآية والحديث دليلان صريحان على أن المكان لم يكن موجودًا ثم أوجده الله فصار موجودًا والله كان قبل المكان بلا مكان فمن اعتقد أن الله صار له مكان بعدما خلق العرش بعد أن لم يكن له مكان جعله منتقلاً من صفة إلى صفة والانتقال من صفة إلى صفة دليل الحدوث وهو ينافي الربوبية. فكما أن إبراهيم عليه السلام استدل على عدم صلاحية الكوكب والقمر والشمس للألوهية بأنها تتحول من صفة إلى صفة كذلك أهل الحق استدلوا على بطلان قول الوهابية وسلفهم بأن الله استقر على العرش بعد أن خلق العرش وبأن الله صار في مكان بِما في ذلك من إثبات التحول لله من صفة إلى صفة وهذا كفر. هذا من أقوى دلائل أهل السنة والجماعة المنـزهين لله تعالى عن التحيز في جهة فوق وغيرها والقعود على العرش. وقد أثنى الله تعالى على حجة إبراهيم هذه فقال  ﴾  وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ﴾ (83) [سورة الأنعام] .
ثم العجب منهم كيف خفي عليهم أن الجلوس صفة من صفات البشر والجن والملائكة والبهائم والحشرات كيف وصفوا خالقهم بهذه الصفة التي يشترك بها العقلاء والبهائم من خلق الله. ثم أعجب من ذلك اعتقاد الوهابية أن الجلوس على العرش مدح لله وتعظيم ولا حجة لهم في الآية ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه] لأن استوى ليس صريحًا في معنى جلس بل استوى في لغة العرب يأتي للغلبة والقهر قال الشاعر: [الطويل]
فلمَّا عَلَونا واستَوَينا عليهِمُ
                                                                جعلناهُمُ مرعًى لِنَسرٍ وكاسِرِ
فهل معنى قول هذا الشاعر «واستوينا عليهم» جلسنا عليهم. ولا حجة لهم في كلمة « ثم استوى على العرش» كما لا حجة لهم فيها في إثبات التحول من صفة إلى صفة لأن ثم تأتي للتأخر ولغير التأخر كما في ءاية ﴾  ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ [سورة يونس] فليس معناها دائمًا على التأخر عما بعدها24 على ما قبلها في الوجود قال الشاعر25: [من الخفيف]
إن من سادَ ثم سادَ أبوهُ
                                                  ثم قد سادَ قبل ذلك جَدُّهْ
والحمد لله الذي وفق أهل السنة المنزهين لله عن التحيز والمكان والجلوس.
وقد استدل البيهقي رحمه الله تعالى بالحديث الذي أخرجه مسلم وأبو داود26 ، فقد قال البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات» ما نصه27: «واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء» وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان» اهـ، وهذا دليل صريح في نفي المكان والجهة عن الله.
ومما يؤيد هذا ما ذكره البيهقيُ في الأسماء والصفات ونصه28 : «والله تعالى لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله تبارك وتعالى متعال عنهما ليس كمثله شىء» اهـ.
وقال البيهقي ما نصه29 : «المحبة والرضا والكراهية عند بعض أصحابنا من صفات الفعل فالمحبة عنده بمعنى المدح له بإكرام مكتسبه والبغض والكراهية بمعنى الذم له بإهانة مكتسبه، فإن كان المدح والذم بالقول فقوله كلامه وكلامه من صفات ذاته وهما عند أبي الحسن - يعني الأشعري - يرجعان إلى الإرادة فمحبة الله المؤمنينَ ترجع إلى إرادته إكرامَهُم وتوفيقَهم، وبغضُه غيرَهم أو مَن ذم فعلَه يَرجعُ إلى إرادته إهانتَهم وخِذلانَهم، ومحبتُه الخصالَ المحمودة يرجعُ إلى إرادته إكرامِ مكتسبِها وبغضُه الخصالَ المذمومة يرجعُ إلى إرادتِه إهانةَ مكتسبِها» اهـ.
وقال ما نصه30 : «الرضا والسخط عند بعض أصحابنا من صفات الفعلِ وهما عند أبي الحسن يرجعانِ إلى الإرادة فالرضا إرادته إكرامَ المؤمنين وإثابتَهم على التأبيد والسخطُ إرادتُه تعذيبَ الكفار وعقوبتَهم على التأبيد وإرادتُه تعذيب فساق المسلمين إلى ما شاء» اهـ.
ومن سخافة عقول المجسمة الوهابية تكفيرهم للسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه لأنهم علموا أنه أشعري ينزّه الله عن التحيز في الجهة والمكان. جعلوا تنزيه الله عن صفات الخلق شركًا. وكذلك كفَّروا السلاطين العثمانيين وقالوا إنَّهم علَّموا الناس عبادة القبور وهم بريئون من الشرك إنما هم يتبركون بقبور الصالحين كما كان السلف يتبركون فقد صحّ أن أبا أيوب الأنصاري ذهب إلى قبر النبي فوضع وجهه على القبر رواه الحاكم في المستدرك وصححه31 . ثم إن السلاطين العثمانيين32 لهم فضل نشروا الإسلام في أرض الله وأحدُهم الذي فتح القسطنطنية روى الإمام أحمد في حقِه في المسند عن بشرِ الغنويِ رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لتُفتَحَنَّ القُسطنطنيةُ ولنعمَ الأميرُ أميرها ولنعمَ الجيش ذلك الجيشُ» رواه أحمد والضياء المقدسي في المختارة33 . فهذه شهادةٌ من الرسول لهذا السلطان العثماني التركي محمدٍ الفاتح فإنه هو فتحها. الصحابة غزَوها ولم يفتحوها وكان الحظ لهذا السلطان المبارك الذي مدحه الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومدح جيشه رحمهم الله تعالى جميعًا. وما عليه من ذمِهم بعد مدحِ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السلطانَ وجيشه.
ثم الآياتُ القرءانية والأحاديث النبوية قسمٌ منها محكم وقسم متشابه. الآيات المحكمات هي أم القرءان والمتشابهاتُ تُردُ إليها. بيان ذلك أن بعض الآيات كآية ﴾  الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ظاهرها الجلوس على العرش وليس هذا مرادَ الله بالآية بل لها معنى ءاخرُ يوافق المحكمَ كآية ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وءاياتٌ أخرى غيرها من المتشابهات لا يجوز تفسيرها على المعنى الظاهر المتبادر لأنه إن فُسرت على الظاهر تناقِضُ معنى المحكمات ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (11) وأمثالَها لأن هذه المحكماتِ تدلُ على أن الله لا يشبه الخلقَ  بوجه من الوجوه، وهذه الآية ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾  المعنى المتبادَرُ منها مخالفٌ للآية المحكمةِ والقرءانُ لا يتناقض فإما أن تفسر ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بأن المراد منها القهر لأن القهر صفة كمال لله وأما الجلوس فصفة مشابهة للخلق لأن الجلوس صفة البشر والملائكة والجن والبهائم. ثم الجلوس لا يكون إلا من جسم مركب أو يقال ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ على المعنى الذي أرادهُ الله. فللعلماء هنا طريقان طريق التفسير بالتأويل بمعنى معيَّن كالقهر في ءاية  ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾  وتفسير المجيء في ءاية ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾ [سورة الفجر] بمجيءِ قدرتِه كما فسَّر الإمام أحمد بهذا، الطريق الثاني أن لا يفسَّر بتعيين معنى بل يقالُ بلا كيف فيقال: «استوى على العرش بلا كيف» أي من غير أن يكون صفةً من صفات الخلق وهذا معنى قول السلف بلا كيف34 ليس معناه أن له كيفيةً لكن نحن لا نعلمُها. والطريقُ الأولُ ثبت عن بعض الصحابة قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الساق المذكور35 في ءاية  ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ [سورة القلم] «الشدةُ في الأمر» ما فسرها بالساق الذي هو جزءٌ مركبٌ فيه عظم ومخ من الإنسان ونحوه لأن ذاك تشبيه لله بخلقه وقد ثبت هذا بطريقين عن عبد الله بن عباس، قال الحافظ ابن حجر36 : «وأسندَ البيهقيُ الأثر المذكورَ عن ابن عباسٍ بسندينِ كلٌ منهما حسن» اهـ.
وأما قول بعض الوهابية إن الآيات المتشابهات التي ظواهرُها أن الله في السماء لا تؤولُ وأما الآيات التي ظواهرُها أن اللهَ في الأرض أو أنه في جسم الإنسان كآية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سورة الحديد] وءايةِ ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[سورة ق] فتؤولُ فهذا تحكم منهم قولَ بلا دليلٍ، لم يقل هذا أحدٌ من السلف إلا الوهابية وسلفَهم من المشبهة وهم في الحنابلة أكثر لذلك دسوا على كتاب الشيخ عبد القادر الجيلاني «الغنيةِ»37 إن الله في جهة فوقٍ وإن حروف المعجم قديمة ليقووا بهذا الدس عقيدتهم لأن الشيخ عبد القادر له شهرة واسعة واعتقاد كبير في الناس لصلاحه وتقواه. هؤلاء الوهابية يزعمون أن حمل الآيات التي ظواهرها أن الله في جهة الأرض على الظاهر تنقيص لله وأما حمل الآيات التي ظواهرها أن الله في جهة فوق على الظاهر فتعظيم لله. والحق أنه لايجوز اعتقاد أن الله حال في جهة فوق أو في جهة تحت. فكما أن الحلول في جهة فوق مستحيل لأنه تشبيه بالخلق كذلك اعتقاد أن الله في جهة الأرض تشبيه لله بخلقه ومن سخافة عقول الوهابية أنهم ادعوا هذا. وما ذكرناه من تأويل الإمام أحمد بن حنبل لآية  ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [سورة الفجر] بمجيء القدرة أثبته البيهقي38 .
وليُحذر من كلام المتأخرين من الحنابلة من أهل القرن الخامس والسادس فإن أكثرهم مشبهة يفترون على الإمام أحمد وعلى ابنه عبد الله39 . وشن عليهم الغارة من مشاهير الحنابلة أبو الوفاء بن عقيل والحافظ عبد الرحمـن بن الجوزي فإنهما حنبليان منـزهان ليسا من المشبهة. ونحن نقيم عليهم الحجة أيضًا بحديث40 : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» فهذا الحديث ظاهره أن الساجد أقرب من الله من القائم لأن المسافة بين العرش والساجد أكثر من المسافة بين القائم والعرش فعلى موجب قولهم تكون المسافة بين الله وبين القائم أقرب والحديث ضد ذلك. الحديث صريح في أن الساجد أقرب إلى الله ولا يصح حمله على الظاهر أي بإثبات المسافة لله بالحلول على العرش بل لا معنى للحديث إلا القرب المعنوي فيكون الساجد أقرب إلى الله من حيث المعنى من القائم. وعلى اعتقادهم يكون القائم أقربَ إلى الله من الساجد فهم خالفوا الحديث على مقتضى كلامهم. وأما السني المنزه لله عن الحلول في جهة فوق أو غيرها فمعنى الحديث عنده لا إشكال فيه لأن القرب المذكور هنا القرب المعنوي والحديث رواه مسلم وغيره. وهذا الحديث حجة قوية في نقض عقيدتهم لأن الفضل عند الوهابية للجهة فما كان أقرب إلى العرش على زعمهم أفضل مما سواه على موجب قول الوهابية المذكور.
ثم إن الإمام أبا حنيفة وصاحبيه الإمامين أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ومحمد بن الحسن الشيباني والشافعي والإمام أحمد بن حنبل قالوا بكفر من يعتقد أن الله جسم. أما أبو حنيفة وصاحباه فقد نص الحافظ الطحاوي على أنهم ينزهون الله عن التحيز في الجهات وعن كل صفات البشر وذلك بقول الطحاوي في هذا الكتاب الذي سماه ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: «تعالى - يعني الله - عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات» و«لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات» وقال «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر» معاني البشر الجسمية، الحركات والسكنات واللون والانفعال والمقدار أي المقياس دلَّ على ذلك ءاية ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سورة الرعد] . قال الحافظ الزبيدي في شرح القاموس41 : «المقدار المقياس» اهـ فأخبرت الآية بأن كل أصناف الخلق له مقياس والخالق لا يكون له مقياس أي ليس حجمًا ولا كيفية حجم. قال صاحب القاموس42 نقلاً عن الفلاسفة في الهيولى إنه موجود لا كمية له ولا كيفية وهذا صفة الرب، جعلوا صفته للهيولى.
ثم إن الوهابية كالمشبهة الذين قبلهم يكفرون من يقول بخلاف عقيدتهم وهم الكافرون. ثم إن الوهابية زادت على المشبهة الذين قبلهم كالكرامية القول بتكفير من يقول «يا محمد» إلا أن يكون بحضرته في حياته وقول «يا محمد» عمل به السلف والخلف. روى البخاري في كتاب الأدب المفرد والحافظ ابن السني والحافظ الكبير إبراهيم الحربي43 الذي أرسل أحمد بن حنبل ابنه عبد الله يتعلم عنده وهؤلاء من السلف لأنهم من أهل المائة الثالثة والحافظُ النووي والحافظ شمس الدين بن الجزري44 وهما من الخلف كلهم أوردوا قصة عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه خدرت رجله فقيل له: «اذكر أحب الناس إليك» فقال: «يا محمد» فاستقامت رجله فقام.
أما البخاري فقال في كتاب «الأدب المفرد»
باب ما يقول الرجل إذا خَدِرَت رجله
حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الرحمـن بن سعد قال «خدرت رجل ابن عمر» فقال له رجل: «اذكر أحب الناس إليك» فقال: «يا محمد».
وأما إبراهيم الحربي فقد أوردها بإسنادين أحدهما:
حدثنا عفان قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عمن سمع ابن عمر أن ابن عمر خدرت رجله فقيل له: «اذكر أحب الناس إليك» فقال: «يا محمد».
والثاني قوله: حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قال جئت عبد الله بن عمر فخدرت رجله فقلت: «ما لرجلك» قال: «اجتمع عصبها» فقلت: «ادعُ أحب الناس إليك» قال: «يا محمد» فبسطها.
وأما ابن السني فقد قال:
باب ما يقول إذا خدرت رجله
حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي وعمرو بن الجنيد بن عيسى قالا حدثنا محمود بن خِداش قال حدثنا أبو بكر بن عياش قال حدثنا أبو إسحاق السَّبيعي عن أبي شعبة قال كنت أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فجلس فقال له رجل «اذكر أحب الناس إليك» فقال: «يا محمداه» فقام فمشى.
وقال حدثنا جعفر بن عيسى أبو أحمد قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن رَوْح قال حدثنا سلام بن سليمان قال حدثنا عثمان بن خُثيم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خدرت رِجلُ رجلٍ عند ابن عباس فقال ابن عباس «اذكر أحب الناس إليك» فقال «محمد صلى الله عليه وسلم» فذهب خدرُه.
قال حدثنا محمد بن خالد بن محمد البرذعي حدثنا حاجب بن سليمان حدثنا محمد بن مصعب بن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الهيثم بن حنش قال كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل «اذكر أحب الناس إليك» فقال: «يا محمد» فكأنما نشط من عِقَال.
وقال ابن السُّني رحمه الله: روى محمد بن زياد عن صدقة بن يزيد الجهني عن أبي بكر الهذلي قال دخلت على محمد بن سيرين وقد خدرت رجلاه فنقعهما في الماء وهو يقول: [الطويل]
إذا خدرت رجلي تذكرت قولَها
                           فناديت ابني باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني
                           لألقيت نفسي نحوها فقضيت فقلت يا أبا بكر تنشد مثل هذا الشعر فقال يا لُكَع45 وهل هو إلا كلام حَسَنُه كَحَسنِ الكلام وقبيحه كقبيحه.
أخبرني أحمد بن حسن الصوفي حدثنا علي بن جعد حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن عبد الرحمـن بن سعد أنه قال: كنت عند ابن عمر فخدرت رجله فقلت يا أبا عبد الرحمـن ما لرجلك قال اجتمع عصبها من ههنا قلت: «ادع أحب الناس إليك» فقال «يا محمد» فانبسطت.
وأورده ابن تيمية في كتابه «الكلم الطيب»46 وهو ثابت أنه من تأليفه كما ذكره صلاح الدين الصفدي في كتابه47 الذي ألفه في تراجم علماء العصر وكان معاصر ابن تيمية يحضر بعض دروسه وذكر له عشرات من مؤلفاته قال وله كتاب الكلم الطيب، فهؤلاء من العلماء ورواة الحديث أكثر من عشرة أنفس ووافقهم ابن تيمية الذي تسميه الوهابية شيخ الإسلام لأنه مشبه مثلهم فماذا تفعل الوهابية تكفر كلًّا أم تستثني ابن تيمية مع أنه يستحق التكفير لا لهذه الحكاية بل لأنه مجسم كالوهابية.
ثم إن الأمة المحمدية علماءهم وعوامَّهم ما أحد حرَّم هذا فضلاً عن التكفير. فماذا تفعل الوهابية تكفره لهذه القصة لأنه قال في كتابه فصل في الرِّجل إذا خدرت ثم ساق القصة بسندها الذي أورده؟! أم يقولون ابن تيمية ما كفر لإباحته نداء الرسول بعد موته أما غيره فيكفر! والحق الذي لا تردد فيه أن الأمة ما كَفَرَتْ ولكن الكافر من كفَّر الأمة السلف والخلف.
ومما يؤيد أن الصحابة وغيرهم كانوا يتوسلون بالرسول في حال الشدة ويقولون «يا محمداه» ما رواه الحافظ ابن جرير الطبري في تاريخه48 وابن كثير الذي هو تلميذ ابن تيمية في تاريخه49 أن الصحابة الذين حاربوا مسيلمة الكذاب في عهد أبي بكر كانوا يقولون في أثناء القتال «يا محمداه يا محمداه» فعلى قول الوهابية كل هؤلاء كفروا وكان قائد تلك المعركة خالد بن الوليد.
ومن فساد فهم الوهابية أنهم يحملون كلمة الدعاء على معنى العبادة فعلى قولهم ما رواه إبراهيم الحربي من أن عبد الرحمـن بن سعد قال لعبد الله بن عمر «ادع أحب الناس إليك» شرك أكبر وكأنهم لا يدرون أن كلمة «ادع» تأتي أحيانًا بمعنى اذكر وفي بعض الأماكن تأتي بمعنى اعبد. وقد ألف وهابي حبشي أروسي كتابًا سماه «الدعاء» ينحو فيه هذا النحو أي أن مجرد «ادع» معناه اعبد. وكلمة «ادع» عند اللغويين وعند علماء أهل السنة يجوز ذكرهافي الحي وفيمن قد مات فقد روى مسلم50 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس : «اذهب فادع لي معاوية» فذهب فعاد فقال إنه يأكل فقال: «اذهب فادع لي معاوية» فذهب فعاد فقال إنه يأكل فقال: «لا أشبع الله بطنه» لكن الوهابية حُبب إليهم تكفير المسلمين، بدون أدنى سبب للتكفير يكفرون المسلمين وقد رأيت في كتاب لعبد الرحمـن بن حسن حفيد محمد بن عبد الوهاب هذه العبارة51 : «أهل مصر كفار يعبدون أحمد البدوي وأهل الشام كفار يعبدون ابن عربي وأهل اليمن كفار يعبدون أحمد بن علوان» قال «وكذلك غيرهم» قرأت ذلك في طبعة لهذا الكتاب منذ نحو خمسين سنة على التقريب وكأنه طبع بعد ذلك بعبارة أخف من هذه. هذا فليعلم الناس من هم الوهابية. وهذه المقالة التي قالها عبد الرحمـن أوضح ما عندهم لأنه ما استثنى بلدة من بلاد الإسلام من التكفير.
وفي قول الطحاوي في تسميته عقيدته المشهورة «ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة» دليل على أن كل الأئمة المجتهدين يكفرون المجسم وذلك لقوله في هذا الكتاب: «تعالى - يعني الله - عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات». وقوله: «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر» فهذا أوضحُ الدليل على أنهم يكفرون من يقول بالتجسيم ومن يقول بوصف الله تعالى بوصف من أوصاف الخلق كالحركة والسكون والاتصال بشىء والانفصال عنه والحلول في مكان أو في كل مكان لأن هذه من أوصاف البشر وغيره من العوالم، بل اعتقاد هذا من سخافة العقل لأن الله تعالى لو كان جسمًا لاستحال أن يخلق الجسم ولو كان يصح في العقل أن يكون الخالق جسمًا لصحت الألوهية للشمس فماذا يقول هذا المجسم لله لو قيل له أنت تقول الله جسم والشمس جسم فكيف لا تصح على موجب قولك الألوهية للشمس مع أن الشمس جسم كبير حسن المنظر كثير النفع وبأي دليل عقلي يرد قول الذي يقول بألوهية الشمس ليس عنده دليل بل عابد الشمس يسكته يقول له عابد الشمس أنا أقول الشمس هي الإلـه لأنها جسم كبير مشاهد كثير النفع تنفع البشر والنبات والهواء أما معبودك الذي تزعم أنه خالق العالم وتزعم أنه جسم قاعد فوق العرش فليس مشاهدًا لك ولا لنا وليس له منفعة مشاهدة فكيف لا تستحق الشمس التي أنا أعبدها الألوهية ويستحقها الذي تقول إنه جسم قاعد على العرش، وليس عند المجسم الوهابي وغيره جواب فإن قال: قال الله في القرءان ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) 10)﴾ [سورة إبراهيم] ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شىءٍ (16)﴾ [سورة الرعد] قال عابد الشمس أنا لا أؤمن بكتابك أريد منك دليلاً عقليًّا على صحة ما تقوله وعلى بطلان ديني عبادة الشمس هنا ينقطع المجسم ليس له إلا السكوت. أما المنزه لله تعالى عن الجسمية والتحيز في المكان والمقدار والكمية والحجم وكل صفات الجسم فإنه يقول لعابد الشمس: أنا معبودي هو الذي تصح له الألوهية لأنه لا يشبه شيئًا ولا يجوز عليه التغيُّر الذي يجوز على الشمس، الشمس لها طلوع وغروب ويعتريها كسوف في بعض الأوقات فهي تحتاج إلى من يدبرها وإلى من خصصها بهذه الصفات التي فيها بدل غيرها لأنه لا يصح في العقل أن تكون هي خلقت نفسها ولا يصح أن تكون هي جعلت نفسها على هذا الشكل الخاص الذي هو الاستدارة ولا على صفة الحرارة التي هي عكس صفة القمر ولا على هذا الحجم والمقدار دون غيره، فالعقل لا يصحح وجود شىء من الأشياء إلا بإيجاد موجد ليس جسمًا وليس متحيزًا في جهة من الجهات، فذلك الموجود هو الذي يصح في العقل أن يكون خالقًا للعالم مدبرًا له للشمس وما سواها وذلك الموجود هو المسمى الله عرفنا وجوده بالعقل وعرفنا اسمه بطريق الأنبياء. فإذا تبين ذلك عُلم شدة سخافة عقل المجسم الذي يعتقد أن مكون العالم على اختلاف أنواعه من حيث صغر الحجم وكبره والحرارة والبرودة والألوان المختلفة جسم قاعد على العرش خلق هذا كله ودبره. يقال له أنت جسم فاخلق إن كنت تستطيع جسمًا ولو حبة خردل ولن يستطيع.

--------------------------------------