أهمية علم التوحيد - الجزء الثاني

قال الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابه الذي ألّفه في الدفاع عن الإمام الأشعري وبيّن فيه كذب من افترى عليه ما نصّه: "والكلامُ المذموم كلام أصحاب الأهوية وما يزخرفه أرباب البدع المُرْدية، فأما الكلام الموافق للكتاب والسنّة الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يعلمه، وقد كان الشافعي يحسنه ويفهمه، وقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع، وأقام الحجة عليه حتى انقطع". ا.هـ.

وقال الربيع بن سليمان: "حضرت الشافعي وحدَّثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان، فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتجّ عليه الشافعي، فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله غير مخلوق، وكفّر حفصًا الفرد قال الربيع: فلقيت حفصًا الفرد في المسجد بعدُ، فقال: أراد الشافعي قتلي".ا.هـ.

فإن قيل: قد ذمّ علم الكلام جماعةٌ من السلف، فروي عن الشعبي أنه قال: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب. وروي مثله عن الإمام مالك، والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة.

قلنا: أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله: "إنما يريدوا والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع، فإن في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنّة فقلَّما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد".ا.هـ.

قال ابن عساكر: "فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية، وناهيك بقائله أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدراية. وتحتمل وجهًا ءاخر وهو أن يكون المراد بها أن يقتصر على علم الكلام ويترك تعلّم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض العمل بما أُمِر بفعله من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من الأحكام. وقد بلغني عن حاتم الأصم وكان من أفاضل الزهّاد وأهل العلم أنه قال: الكلام أصل الدين، والفقه فرعه، والعمل ثمره، فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسّق، ومن تفنّن في الأبواب كلها تخلص" اهه. وقد روي مثل كلام حاتم عن أبي بكرٍ الورّاق.

قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء: "هذه المسائل التي تلقاها الإمامان الأشعري والماتريدي هي أصول الأئمة رحمهم الله تعالى، فالأشعري بنى كتبه على مسائل من مذهب الإمامين مالك والشافعي أخذ ذلك بوسائط فأيدها وهذبها، والماتريدي كذلك أخذها من نصوص الإمام أبي حنيفة" اهـ.

قلت: وللإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: (الفقه الأكبر) و(الرسالة) و(الفقه الأبسط) و(العالم والمتعلّم) و(الوصية)؛ أما الوصية فقد اختلف في نسبتها إلى الإمام كثيرًا، فمنهم من ينكر نسبتها للإمام مطلقًا ويزعم أنها ليست من عمله، ومنهم من ينسبها إلى محمد بن يوسف البخاري المكنى بأبي حنيفة، وهذا قول المعتزلة لما فيها من إبطال نصوصهم الزائغة وادعائهم كون الإمام منهم - أي في المعتقد - كما في المناقب الكردرية.

والإمام أبو حنيفة وصاحباه أول من تكلّم في أصول الدين بالتوسّع وأتقنها بقواطع البراهين على رأس المائة الأولى، وقد ذكر الأستاذ عبد القاهر البغدادي أن أول متكلمي أهل السنّة من الفقهاء أبو حنيفة والشافعي، ألفّ فيه الفقه الأكبر والرسالة في نصرة أهل السنّة إلى مقاتل ابن سليمان صاحب التفسير وكان مجسّمًا، وقد ناظر فرقة الخوارج والروافض والقدرية والدهرية وكانت دعاتهم بالبصرة فسافر إليها نيفًا وعشرين مرةً، وفضّهم بالأدلة الباهرة، وبلغ في الكلام - أي علم التوحيد - إلى أنه كان المشار إليه بين الأنام، واقتدى به تلامذته الأعلام.

وفي مناقب الكردري عن خالد بن زيد العمري أنه كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وحماد بن أبي حنيفة قد خَصَمُوا بالكلام الناس أي ألزموا المخالفين، وهم أئمة العلم. وعن الإمام أبي عبد الله الصيمري أن الإمام أبا حنيفة كان متكلم هذه الأمة في زمانه، وفقيههم في الحلال والحرام.

وهذه الكتب الخمسة ليست من جمع الإمام أبي حنيفة، بل الصحيح أن هذه المسائل المذكورة في هذه الكتب من أمالي الإمام التي أملاها على أصحابه كحمّاد وأبي يوسف وأبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسماعيل بن حمّاد ومحمد بن مقاتل الرازي ومحمّد بن سماعة ونصير بن يحيى البلخي وشداد بن الحكم وغيرهم، إلى أن وصلت بالإسناد الصحيح إلى الإمام أبي منصور الماتريدي، فمن عزاها إلى الإمام صح لكون تلك المسائل من إملائه إلى أبي مطيع البلخي وغيره، ومن عزاها إلى غيره ممن هو في طبقته أو ممن هو بعدهم صح لكونها من جمعه، ذكره الفقيه المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي.

وقال الفقيه الأصولي الزركشي في تشنيف المسامع: "إن الأئمة انتدبوا للرد على أهل البدع والضلال، وقد صنّف الشافعيّ كتاب (القياس) ردّ فيه على من قال بقدم العالم من الملحدين، وكتاب (الرد على البراهمة) وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب (العالم والمتعلّم) رد فيه على المخالفين، وكذلك مالك سئل عن مسائل هذا العلم فأجاب عنها بالطريق القويم، وكذلك الإمام أحمد".ا.هـ.

وقد صنّف سيد المحدّثين في زمانه محمّد بن إسمبعيل البخاري ه المتوفى سنة 256هـ - كتاب (خلق أفعال العباد)، وصنّف المحدث نعيم ابن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام - المتوفى في حبس الواثق سنة 228هـ - كتابًا في الردّ على الجهمية وغيرهم، وصنّف المحدّث محمّد بن أسلم الطوسي - المتوفى سنة 242هـ - وهو من أقران الإمام أحمد أيضًا في الردّ على الجهمية، وقد ردّ على المعتزلة فأجاد بالتأليف ثلاثة من علماء السنّة من أقران الإمام أحمد بن حنبل: الحارث المحاسبي، والحسين الكهرابيسهي، وعبد الله بن سعيد بن كُلاّب - المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل - ويمتاز الأول بإمامته أيضًا في التصوف.

وقد صنّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الردّ على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج المنقول والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي فلَّ بها حَدَّهم وقلل عددهم. وكانت وفاة الأشعري في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة للهجرة، وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة الأشعري بقليل.

وصنّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الردّ على المبتدعة والمخالفين للإسلام بالحجج الدامغة الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة، كما قطعوا غيرهم من المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجّمين، ورفعوا لواء مذهب الأشعري في الخافِقَيْن وأبرزهم في نشره ثلاثة: الأستاذ أبو بكر بن فُورَك، وأبو إسحبق الإسفراييني، والقاضي الإمام أبو بكر الباقلاني، فالأولان نشراه في المشرق، والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نزر من المعتزلة وشرذمة من المشبّهة وطائفة من الخوارج؛ فلا تجد عالمًا محقّقًا أو فقيهًا مدققًا إلا وهو أشعري أو ماتريدي.

وإن حال هؤلاء المنكرين لعلم الكلام لهو الموصوف بقول الشاعر فيهم: [البسيط]
عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم **** وما عليه إذا عابوه من ضررِ
ما ضرَّ شمسَ الضحى في الأفْقِ طالعة **** أنْ لا يَرى ضَوْءَها من ليس ذا بصرِ

فائدة مهمة: قال الشيخ الفقيه الأصولي الزركشي في كتابه تشنيف المسامع ما نصه: "قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي أعاد الله هذا الدين بعدما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الإستراباذي، وقال أبو إسحاق المَرْوَزي: سمعت المحاملي يقول في أبي الحسن الأشعري: لو أتى الله بقُراب الأرض ذنوبًا رجوت أن يغفر الله له لدفعه عن دينه، وقال ابن العربي: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجزهم في أقماع السماسم".ا.هـ.

ومثل هذا يقال في أبي منصور الماتريدي لأنه مثله قام بتقرير عقيدة السلف بالأدلة النقلية والعقلية بإيضاح واسع، فقد جمع هذان الإمامان الإثبات مع التنزيه فليسا على التشبيه ولا التعطيل ولعن الله من يسمي الأشعري أو الماتريدي معطلاً، فهل خالفا التنزيه الذي ذكره الله بقوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سورة الشورى/11] فإنهما نفيا عن الله الجسمية وما ينبني عليها، وهذا ذنبهما عند المشبهة كالوهابية ومن سبقهم من المشبهة. فإن المشبهة قاست الخالق بالمخلوق فنفت موجودًا ليس جسمًا، والإمامان ومن تبعهما وهم الأمة المحمدية قالوا إن الله لو كان جسمًا لكان له أمثال لا تحصى.

وهذا هو دين الله الذي كان عليه السلف الصالح وتلقاه عنهم الخلف الصالح، وطريقة الأشعري والماتريدي في أصول العقائد متحدة. فالمذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح هو ما عليه الأشعرية والماتريدية وهم مئات الملايين من المسلمين فكيف يكون هؤلاء السوادُ الأعظم على ضلال، وتكون شرذمة هي نحو ثلاثة ملايين على الحق، والصواب أن الرسول عليه السلام أخبر بأن جمهور أمته لا يضلون وذلك من خصائص هذه الأمة،ويدل على ذلك ما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" وعند ابن ماجه زيادة: "فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم"، ويقوي هذا الحديث الحديث الموقوف على أبي مسعود البدري: "وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة" قال الحافظ ابن حجر: "وإسناده حسن"، والحديث الموقوف على عبد الله بن مسعود وهو أيضًا ثابت عنه: "ما رءاه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رءاه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح"، قال الحافظ ابن حجر: "هذا موقوف حسن".

ولا ينافي ما قررناه من أن الجمهور معصومون من الضلالة ما صح مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". فإن هذا أريد به طائفة متمسكة من بينهم بالدين على الكمال ولا شك أن المتمسكين بالدين على الكمال هم أقل الأمة، وليس معنى ذلك أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام يكونون ضالين من حيث العقيدة خارجين عن الإسلام كما صرحت بذلك الوهابية ووافقهم أبو الأعلى المودودي، فعندهم جمهور المنتسبين للإسلام ليسوا على الهدى بل على الشرك، وقد صح أن أهل الجنة مائة وعشرون صفًا ثمانون من هذه الأمة، فلا يمكن أن يكون هؤلاء الثمانون هذه الشرذمة الوهابية، وهل كانت الوهابية قبل قرنين، فإن معتقدها منبثق من محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة مائتين وألف وست للهجرة وبعض معتقداتها مأخوذ من أحمد بن تيمية المتوفى سنة سبعمائة وثمان وعشرين للهجرة وهو شذ عن ما كان عليه من قبله من أهل الحق بقوله: إن جنس العالم ليس حادثًا إنما الحادث الأفراد أي الأشخاص المعينة فكل شخص وفرد عنده حادث ولكن إلى ما لا نهاية له ولا ابتداء، فجعل العرش أزليًّا بنوعه وجنسه بمعنى أن العرش لم يزل مع الله ولكن عينه ليس دائمًا بل يتجدد كل ءان بعد عدم، وقد نقل ذلك عنه الإمام جلال الدين الدَّواني وهو من ثقات العلماء كما وثقه الحافظ السخاوي في البدر اللامع في تراجم أهل القرن التاسع، ونسب إلى ابن تيمية ذلك الحافظان الجليلان المعاصران له وهما الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي والحافظ أبو سعيد العلائي.

وفيما ذهب إليه ابن تيمية تكذيب لقول الله تعالى ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ [سورة الحديد/3] لأن مراد الله تعالى بأوليته الأولية المطلقة ليست الأولية المقيدة النسبية، لأن ذلك ليس لله تعالى فيه خصوصية، إذ الماء والعرش لهما تلك الأولية النسبية، لأنهما أول ما خلق الله لم يخلق الله قبلهما شيئًا كما نطق بذلك الحديث الصحيح: "كان الله ولم يكن شىء غيره"، فثبت أن ابن تيمية كذّب هذا الحديث الصحيح كما كذّب الآية المذكورة وكذّب الإجماع لأنه لم يقل قبله أحد من المسلمين إن نوع العالم لم يزل مع الله أزليًّا وإنما قال بذلك متأخرو الفلاسفة الذين هم على خلاف رأي إرسطو. ولم يخش ابن تيمية من الله حيث افترى على أئمة أهل السنة والحديث بنسبته ذلك إليهم ولا يعرف واحد منهم قال ذلك، لكن ابن تيمية يربأ بنفسه عن أن يُنسب إلى موافقة رأي المُحْدَثين من الفلاسفة الذين وافقهم برأيهم القائلين بمثل مقالته، وليست هذه المسألة من المسائل التي يدخلها الاجتهاد بل من أخطأ فيها كفر بالإجماع، قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: "إعلم أن حكم الجواهر والأعراض كلها الحدوث فإذًا العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف في ذلك فهو كافر لمخالفة الإجماع القطعي"ا.هـ. ذكر ذلك المحدث الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين.

-2-