الإيمان بعذاب القبر وسؤاله

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى : ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سورة غافر].
وقال تعالى:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سورة طه].
فهاتان الآيتان واردتان في عذاب القبر للكفار وأما عصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة فهم صنفان صنف يعفيهم الله من عذاب القبر وصنف يعذبهم ثم ينقطع عنهم ويؤخر لهم بقية عذابهم إلى الآخرة، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن ابن عباس 1 مرَّ رسول الله على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يُعذبان في كبير إثم» ، قال: «بلى أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول» ، ثم دعا بعسيب رطبٍ فشقه اثنين فغرس على هذا واحدًا وعلى هذا واحدًا ثم قال: «لعله يُخفَّف عنهما».
وأما ما ورد في سعد بن معاذ رضي الله عنه أنه ضيق عليه قبره فاختلفت أضلاعه2 وما ورد3 من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «لو كان نجا أحد من ضغطة القبر لنجا هذا الصبي» وما روي في حق ابنته زينب أنها ضغط عليها القبر حتى صارت كشعرة فهو معارض لحديث أبي هريرة4 لأنه لم يذكر إلا الكافر أي المجاهر بالكفر والمنافق الذي يظهر الإسلام ويخفي كفره، وينافي أيضًا في حق سعد أنه شهيد5 فكيف يضغط على شهيد في قبره والذي ورد في الشهيد أن روحه فورًا يذهب إلى الجنة 6. أما المسلم الفاسق فلا يمتنع إلحاقه بالكافر في ضغطة القبر.
واعلم أنه ثبت في الأخبار الصحيحة عود الروح إلى الجسد في القبر كحديث البراء بن عازب الذي رواه الحاكم والبيهقي وأبو عوانة وصححه غير واحد 7 وحديث ابن عباس مرفوعًا «ما من أحدٍ يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» رواه ابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي وصححه8 ، فيستلزم ذلك رجوع الروح إلى البدن كله وذلك ظاهر الحديث أو إلى بعضه ويتأكد عود الحياة في القبر إلى الجسد في حق الأنبياء فإنه ورد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «الأنبياء أحياءٌ في قبورهم يصلّون» صححه البيهقي9 وأقره الحافظ10 ، وهذا ثابت لكل نبي11 .
وروى البخاري ومسلم عن أنس 12 عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا. وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين».
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتَّاني القبر فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتُرَدُّ علينا عقولنا يا رسول الله؟ قال: «نعم كهيئتكم اليوم» ، قال: فبفيه الحجر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبر الميت أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول. فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إلـه إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقولان له: إن كنا لنعلم أنك لتقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا13 ويُنوَّر له فيه فيقال له: نم، فينام كنوم العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك فإن كان منافقًا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فكنت أقوله، فيقولان له: إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ثم يقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال معذبًا حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ذلك».
والحديثان رواهما ابن حبان وصححهما14. ففي الأول منهما إثبات عود الروح إلى الجسد في القبر والإحساس. وفي الثاني إثبات استمرار الروح في القبر وإثبات النوم وذلك ما لم يَبْلَ الجسد.
وقد سُمّي الملكان منكرًا ونكيرًا لأنّ الذي يراهُمَا يفزعُ منهما، وهما اثنانِ أو يكون هناكَ جماعة كلُّ واحدٍ منهم يسمَّى منكرًا وجماعةٌ كلُّ واحدٍ منهم اسمه نكيرٌ فيأتي إلى كلّ ميّتٍ اثنان منهم أحدُهما من هذا الفريقِ والآخرُ من ذاك الفريق، ويحتَمِلُ أن يعطيَ الله لهؤلاءِ أشباحًا فيحضران إلى كلّ ميّتٍ بشبحينِ إمَّا بالشَّبحِ الأصليّ وإمَّا بالشَّبحِ الفرعيّ. قال الحليمي15 : إن الأشبه أن يكون ملائكة السؤال جماعة كثيرة يسمى بعضهم منكرًا وبعضهم نكيرًا فيبعث إلى كل ميت اثنان منهم اهـ، وكذلك عزرائيلُ يحتَمِلُ أنّه يتطوَّرُ إلى أشباحٍ كثيرةٍ ويقبضُ هذه الأرواحَ الكثيرةَ فلو أرادَ أن يقبِضَ مائة ألفِ نفسٍ في ساعة واحدة يستطيعُ أن يحضرَ ويقبضَ هؤلاءِ الأرواحَ، ثم يتناولُ منهُ الملائكةُ إمَّا ملائكةُ الرحمةِ وإمَّا ملائكةُ العذابِ16 ولا يتركونَ الروحَ في يدِ عزرائيلَ بعدما يقبضها طرفةَ عينٍ فيذهبونَ بها إلى السماءِ إن كانت الروحُ مؤمنةً، وإن كانت الروح كافرةً فإلى الأرضِ السّابعةِ بعد أن يرفعوها إلى الجوّ ويمروا بجمع من الملائكة فيجدوا لهذه الروح رائحة خبيثة فيقولون: روح من هذه؟ فيقولون: روح فلان ثم لا يفتح لها باب السماء فتطرح وتؤخذ إلى سجين17 .
وما جاء في الحديث أن منكرًا ونكيرًا يقولان للمقبورِ «ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ محمد» أي في محمّدٍ صلى الله عليه وسلم يسمّيان الرسولَ باسمه من غير أن يكون الرّسولُ شاهدًا حاضرًا للسؤالِ. بعضُ أهلِ الغُلو يدّعونَ أنَّ الرسولَ بذاتِهِ يحضُرُ يكون شاهدًا وهذا لا أساسَ له إنما هي إشارةٌ إلى المعهودِ ذِهنًا، فيقولُ الرّجلُ ما كانَ يقولُهُ قبلَ الموتِ، المسلمُ قبلَ الموتِ كانَ يقولُ «عبدُ الله ورسولُهُ» فيقولُ ذلكَ ويَقرِنُهُ بالشّهادةِ فيقول «أشهدُ أن لا إلـهَ إلا الله وأشهدُ أنّ محمّدًا رسولُ الله»، الله تعالى يلهمهُ ويقدرهُ على الجوابِ، كلُّ مسلمٍ يجيبُ بذلكَ إنّما الذي لا يستطيعُ الجوابَ هو الذي يُنكِرُ ويجزمُ بنفي رسالةِ سيّدنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أو مات على الشك فيها، الكافرُ المُعلِنُ والمنافِقُ كلاهما يقولانِ: كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ.
ثم إن المؤمنَ التقيَّ يوسَّعُ قبرُهُ سبعينَ ذراعًا طولاً في سبعين ذراعًا عرضًا وذلك بذراعِ اليد وهي شبران تقريبًا، وبعضُهُم أكثر من ذلكَ كما حَصَلَ للعلاء بن الحضرميّ الصحابيِ الجليلِ الذي كان من أكابرِ الأولياءِ فإنه اتسعَ قبرُهُ مدَّ البصرِ شاهدوا ذلكَ لما نبشوا القبرَ ليدفنوهُ في مكانٍ ءاخرَ لأن المكانَ الذي دفنوه به كثيرُ السباعِ18 . وينوَّرُ قبره أي المؤمن التقي ويفتَحُ لهُ في قبرِهِ بابٌ إلى الجنّةِ فيأتيه نَسيمُهَا، ويُملأ عليهِ خَضِرًا أي يوضَعُ في قبرِهِ من نباتِ الجنّةِ الأخضرِ وهذا كلُّهُ حقيقيٌّ ليسَ وهمًا لكنَّ الله يحجُبُ ذلكَ عن أبصارِ النّاسِ أي أكثرهم أمّا أهلُ الخصوصيَّةِ من عبادِ الله الكاملينَ فيشاهدونَ. والحكمةُ في إخفاءِ الله حقائق أمور القبرِ وأمورِ الآخرةِ ليكونَ إيمانُ العبادِ إيمانًا بالغيبِ فَيَعْظُمَ ثوابُهُ. ثمَّ إن المؤمنَ التَّقيَّ يُقال لهُ: نَم، فينامُ كنومِ العروسِ الذي لا يوقظهُ إلا أحبّ أهلِهِ إليهِ، أي لا يحسُّ بقلقٍ ولا وَحشةٍ.
وهذا النعيم للمؤمن التقي وهو الذي يؤدي الفرائض ويجتنب المعاصي وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «الدنيا سجن المؤمن وسَنَتُهُ فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسَّنةَ» حديث صحيح أخرجه ابن حبان19 ، يعني المؤمن الكامل.
فائدة. قال الحافظ اللغوي الفقيه محمد مرتضى الزبيدي بعد كلام 20 ما نصه: «ويقرب من ذلك ما رواه مالك في الموطأ وأحمد والنسائي21 بسند صحيح عن كعب بن مالك رفعه: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعث» ، وروى أحمد والطبراني 22 بسند حسن عن أم هانىء أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم «تكون النسم طيرًا تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها» اهـ.
ثم إذا بَلِيَ الجسد كله ولم يبق إلا عجْبُ الذنب يكون روح المؤمن التقي في الجنة وتكون أرواح عصاة المسلمين أهل الكبائر الذين ماتوا بلا توبة بعد بِلَى الجسد فيما بين السماء والأرض وبعضهم في السماء الأولى. وتكون أرواح الكفار بعد بِلَى الجسد في سجين وهو مكان في الأرض السفلى.
ومن جملةِ عذابِ القبرِ ضغطةُ القبرِ حتى تختَلِفَ الأضلاعُ وهذا للكفارِ وبعضِ أهلِ الكبائرِ من المسلمين كمن لا يتجنبُ التلوث بالبول وليست الضغطة لكل صغيرٍ وكبيرٍ كما قالَ به بعضُ العلماءِ. وأمّا المؤمنُ التّقيُّ فهو في نعيمٍ أينما دُفِنَ ولو دُفِنَ وسطَ الكفّارِ وقد يُسَخّرُ الله له من الملائكةِ من ينقلُهُ من المكانِ الذي هوَ فيه إلى المكانِ الذي يُحِبُّ أن يُدفَنَ فيهِ.

--------------------------------------