باب التوبة

باب التوبة

رياض الصالحين

riyaDouSsali7een قال العلماءُ: التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ كُلّ ذَنْبٍ، فَإنْ كانَتِ الْمَعصِيَةُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللهِ تَعالَى لا تَتَعَلَّقُ بِحقِّ ءادَمِيٍّ فَلَها ثَلاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. والثَّانِي: أَنْ يَنْدَمَ على فِعْلِها. والثَّالِثُ: أَنْ يَعْزِمَ أَنْ لا يَعُودَ إِلَيهَا أَبَدًا. فَإنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتَهُ. وإِنْ كانَتِ الْمَعصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بآدمِيٍّ فَشُروطُهَا أَرْبَعَةٌ: هَذِهِ الثَّلاثَةُ وأَنْ يَبْرَأَ مِنْ حَقّ صَاحِبِهَا، فَإنْ كَانَتْ مَالا أَو نَحْوَهُ رَدَّهُ إلَيْهِ، وإنْ كانَ حَدَّ قَذْفٍ وَنَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ أو طَلَبَ عَفْوَهُ، وإِنْ كانَتْ غِيبَةً اسْتَحَلَّهُ مِنْها. ويَجِبُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ جَميع الذُّنوبِ، فَإنْ تابَ مِنْ بَعْضِهَا صَحَّتْ تَوبَتُهُ عِنْدَ أَهْلِ الحَقّ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ البَاقِي. وقَدْ تَظاهَرَتْ دَلائِلُ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وإِجْمَاعِ الأُمَّةِ على وُجُوبِ التَّوْبَةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَتُوبُواْ إلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[سورة النور/31]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ [سورة هُود/3]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُواْ إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾ [سورة التحريم/8].
13- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم يَقُولُ: "واللهِ إِنّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ في الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً". رواهُ البُخاري.
14- وَعَن الأَغرّ بْنِ يَسارٍ الْمُزَنيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّم: "يا أَيُّها النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ فَإِنّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ". رَوَاهُ مسلمٌ.
15- وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مِالِكٍ الأَنْصَارِيُّ خَادِمِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّم: "لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّه فِي أَرْضٍ فَلاةٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيه.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا وقَد أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بها قَائمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ".
16- وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ الأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّم قَالَ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ مِنْ مَغْرِبِهَا". رَوَاهُ مُسلمٌ.
17- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّم: "مَن تابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها تابَ اللهُ عَلَيه". رَوَاهُ مُسلمٌ. 18- وَعَنْ أَبِي عبْدِ الرَحمَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيّ صلى اللهُ عليهِ وسلم قالَ: "إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِر". رواهُ التِرمذِيُّ وقال: حديثٌ حَسَنٌ.
19- وَعَنْ زِرّ بْنِ حُبَيْشٍ قالَ: أتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ رضيَ اللهُ عنهُ أَسْأَلُهُ عنِ الْمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فَقُلتُ: ابتِغَاءَ العِلْمِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَها لطالِبِ العِلمِ رِضاً بما يَطْلُبُ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ حَكَّ في صَدْرِي الْمَسْحُ على الخُفَّيْنِ بعدَ الغائِطِ والبَوْلِ، وكُنْتَ امْرَأً مِنْ أصحابِ النبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فجِئْتُ أَسأَلُكَ: هل سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ شيئاً؟ قالَ: نَعَمْ، كانَ يَأْمُرُنَا إذا كُنَّا سَفَراً – أو مُسَافِرِينَ – أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلا مِن جَنَابَةٍ، لَكِن مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ. فَقُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي الهَوَى شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلَّم فِي سَفَرٍ فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بصوتٍ لهُ جَهْوَرِيٍّ: يا مُحَمَّدُ، فأَجَابَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عليهِ وسَلَّم نَحْواً مِنْ صَوْتِهِ: "هَاؤُمُ" فقُلتُ لهُ: وَيْحَكَ، اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبِيّ صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلَّم، وَقَدْ نُهيتَ عَن هَذَا! فَقَالَ: وَاللهِ لا أَغْضُضُ. قَالَ الأَعْرَابيُّ: الْمَرْءُ يُحِبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عليهِ وسَلَّم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فَمَا زَالَ يُحَدّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَاباً مِنَ الْمَغْرِبِ مَسِيرَةُ عَرْضِهِ أَوْ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي عَرْضِهِ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ عَاماً. قَالَ سُفْيَانُ أَحَدُ الرُّوَاةِ: قِبَلَ الشَّامِ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْضَ مَفْتُوحاً لِلتَّوْبَةِ لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ". رَوَاهُ التّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ: حَدِيثُ حَسَنٌ صَحيحٌ.
20- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ سعدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الخُدْرِيّ رَضِيَ اللهُ عنهُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: "كانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.
فانْطَلَقَ حَتَّى إِذا نَصَفَ الطَّريقَ أَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ العَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً إلى اللهِ تَعَالَى، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ العَذَابِ: إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ، فَأَتَاهُم مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُم - أَي حَكَماً – فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيه.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي "الصَّحيحِ": "فَكَانَ إِلَى القَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِها". وَفِي رِوَايَةٍ فِي "الصَّحيحِ": "فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُما فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ". وَفِي رِوَايَةٍ: "فَنَأَى بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا".
21- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ كَعْبٌ: "لمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إلا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنّي قَدْ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعاتِبْ أحَداً تَخَلَّفَ عَنْهُ، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَالْمُسْلِمُونَ يُريدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوّهِم عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عليهِ وسلَّم لَيْلَةَ العَقَبَةِ حِينَ تواثَقْنَا على الإِسْلَامِ ومَا أُحِبُّ أنَّ لِي بِها مَشْهَدَ بدرٍ وَإِنْ كَانَتْ بدرٌ أَذْكَرَ في النَّاسِ مِنْها.
وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وَسَلَّم فِي غَزوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلَّفتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الغَزوَةِ، واللهِ ما جَمَعْتُ قَبْلَها رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلَّم يُريدُ غَزوَةً إلا وَرَّى بِغَيْرِها حتَّى كَانَتْ تِلْكَ الغَزْوَةُ، فَغَزَاها رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عليهِ وسلَّم فِي حَرّ شَدِيدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً، واسْتَقْبَلَ عَدَداً كَثِيراً، فَجَلّى لِلمُسْلِمِينَ أَمْرَهُم لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخبَرهُم بِوَجْهِهِمُ الَّذِي يُريدُ والْمُسلِمونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم كَثِيرٌ ولا يَجْمَعُهُم كِتَابٌ حَافِظٌ (يُريدُ بِذَلِكَ الدّيوانَ) قَالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُريدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلا ظَنَّ أنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى [لَه]، لَمْ يَنْزِلْ فيهِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَغَزَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم تِلكَ الْغَزوَةَ حِينَ طَابَتِ الثّمَارُ والظّلالُ فَأَنَا إليْهَا أَصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عليهِ وسلَّم والْمُسلِمُونَ مَعَهُ وطَفِقْتُ أَغْدُو لِكيْ أتَجَهَّزَ معَهُ فأَرجِعُ ولَمْ أَقْضِ شَيئاً وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إذا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى استَمَرَّ بالنَّاسِ الجِدُّ، فأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عليهِ وسلَّم غَادِياً والْمُسْلِمونَ مَعَهُ ولَم أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيئاً، ثُمَّ غَدَوْتُ فرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شيئاً، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُم فيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّر ذَلِكَ لي، فَكنتُ إِذا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَحزُنُني أَنّي لا أَرَى لِي أُسْوَةً إلا رَجُلاً مَغْمُوصاً عَلَيهِ في النّفَاقِ، أو رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبوكَ: "ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ"؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضيَ اللهُ عَنْه: بِئْسَ مَا قُلْتَ، واللهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلا خَيْراً، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فَبَيْنا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلاً مُبْيِضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم: "كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ"، فَإِذَا هُوَ أَبو خَيْثَمَةَ الأَنْصَارِيُّ، وهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصاعِ التَّمْرِ حينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَني أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قَدْ تَوَجَّهَ قافِلاً مِنْ تَبوكَ حَضَرَني بَثّي، فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ وَأَقُولُ بمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَداً؟ وأَسْتَعينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلّ ذي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قيلَ إنَّ رسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنّي البَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أنّي [لَنْ] أَنْجُ مِنْهُ بِشَيءٍ أبَدًا فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم قادِماً، وكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفونَ يَعْتَذِرونَ إِلَيهِ ويَحْلِفونَ لهُ، وكانوا بِضْعًا وثَمانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُم عَلَانِيَتَهُمْ وبايَعَهُمْ واستَغْفَرَ لَهُم وَوَكَلَ سَرائِرَهُم إلى اللهِ تعالى حَتَّى جِئتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قالَ: "تَعَالَ" فَجِئتُ أمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: "مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُن قَدِ ابتَعتَ ظَهْرَكَ؟" قالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي واللهِ لو جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أنّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، ولَقَد أُعْطِيتُ جَدَلا، ولَكِنَّنِي واللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَديثَ كَذِبٍ تَرضَى بِهِ عَنّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ يُسْخِطُكَ عَلَيَّ، وإنْ حَدَّثْتُكَ حَديثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فيهِ، إنّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، واللهِ ما كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ، واللهِ ما كُنْتُ قَطُّ أقْوى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
قال: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: "أَمَّا هَذا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتى يَقْضِيَ اللهُ فيكَ"، وَثارَ رِجالٌ مِنْ بَني سَلِمَةَ فاتْبَعُوني فَقَالُوا لي: واللهِ ما عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا، لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم بِما اعْتَذَرَ [بِهِ] إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَد كانَ كافِيكَ ذَنْبَكَ استِغْفارُ رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم لَكَ. قَالَ: فَوَاللهِ ما زالُوا يُؤَنّبُونَنِي حتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إلى رسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فَأُكَذّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُم: هَلْ لَقِيَ هَذا مَعِي مِنْ أحَدٍ؟ قالُوا: نَعَم لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ قالا مِثْلَ ما قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُما مِثْلَ ما قِيلَ لَكَ، قالَ: قُلْتُ مَنْ هُما؟ قالُوا: مُرارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ، وهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ. قالَ: فَذَكَروا لي رَجُلَيْنِ صالِحَينِ قَدْ شَهِدَا بَدْراً فِيهِمَا أُسْوَةٌ، قالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي. ونَهَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم عَنْ كَلامِنا أَيُّها الثَّلاثَة مِنْ بَينِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، قالَ: فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، أو قالَ: تَغَيَّرُوا لنا حتَّى تَنَكَّرَتْ لي في نَفْسِي الأَرضُ فَما هِيَ بِالأَرْضِ الَّتي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنا عَلى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً؛ فَأَمَّا صاحِبَايَ فاسْتَكانَا وقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أنا فَكُنْتُ أَشَبَّ القَومِ وأَجْلَدَهُم فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَلاةَ معَ المسلمين وأَطُوفُ في الأَسْوَاقِ ولا يُكَلّمُني أَحَدٌ، وآتِي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فَأُسَلّمُ عَلَيْهِ وهُوَ في مَجْلِسِهِ بَعدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ في نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السَّلامِ أَمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلّي قَريبًا مِنْهُ وأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإذَا أَقْبَلْتُ على صَلَاتِي نَظَرَ إلَيَّ وَإذا الْتَفَتُّ نَحوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إذا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمينَ مَشَيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَوَاللهِ ما رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يا أبا قَتادَةَ أنْشُدُكَ باللهِ هَلْ تَعْلَمُني أُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ صلى اللهُ عليهِ وسلم؟ فسَكَتَ، فَعُدْتُ فَناشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَناشَدْتُهُ فقالَ: اللهُ ورَسولُهُ أَعْلَمُ. فَفاضَتْ عَيْنايَ، وَتَوَلَّيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدارَ، فَبَيْنَا أنا أمشي في سُوق المَدينَةِ إذا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشِّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعامِ يَبيعُهُ بِالمدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلى كَعْبِ بنِ مالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتِباً، فَقَرَأْتُهُ فَإذا فيهِ: أمَّا بَعْدُ فَإنَّهُ قَد بَلَغَنا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدارِ هَوانٍ ولا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُها: وَهَذِهِ أَيْضاً مِنَ الْبَلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِها التَّنُورَ فَسَجَرْتُها، حتَّى إذا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الخَمْسِينَ واسْتَلْبَثَ الوَحْيُ إذَا رَسُولُ رسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم يَأْتِيني فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ فَقَالَ: لا بلْ اعْتَزِلْهَا فَلا تَقْرَبَنَّهَا، وَأَرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُم حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِي هَذا الأَمْرِ، فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فَقَالَتْ لَهُ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّ هِلالَ بنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: "لا، وَلكِنْ لا يَقْرَبَنَّكِ".
فَقَالَت: إنَّهُ وَاللهِ ما بِهِ حَرَكَةٌ إلى شَيءٍ، وَاللهِ ما زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كانَ مِنْ أَمْرِهِ ما كانَ إلى يَومِهِ هَذا. فَقَالِ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فِي امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لامْرَأَةِ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ؟ فَقُلْتُ: لا أَسْتَأْذِنُ فِيها رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، وَما يُدْرِينِي ماذا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم إذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيها وَأَنا رَجُلٌ شَابٌّ، فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلامِنَا.
ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ الفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنا فَبَيْنَا أَنا جَالِسٌ عَلَى الحَالِ الَّتي قَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعالَى عَنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرضُ بِما رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يا كَعْبُ بن مالِكٍ أَبْشِرْ، فَخَررتُ سَاجِداً وعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، فَآذَنَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشّرونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبيَّ مُبَشّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إلَيَّ فَرَساً وسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي وَأَوفى عَلَى الْجَبَلِ وَكانَ الصَّوتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُما إيَّاهُ بِبُشْرَاه، واللهِ ما أَمْلِكُ غَيْرَهُما يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُما وانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهَنّئُونَنِي بِالتَوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِي لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإذا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وهَنَّأَنِي، واللهِ ما قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرينَ غَيْرُهُ، فَكانَ كَعْبٌ لا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم قَالَ وهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ" فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يا رَسُولَ اللهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ الله؟ قالَ: "لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم إذا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَينَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلى اللهِ وإلى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" فَقُلْتُ: إنّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّ اللهَ تَعَالَى إنَّمَا أَنْجَانِي بِالصّدْقِ وَإنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أُحَدّثَ إلاّ صِدْقاً ما بَقِيتُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاهُ اللهُ تَعالى فِي صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلانِي اللهُ تَعَالى، واللهِ ما تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم إلَى يَوْمِي هَذَا وَإنّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ تَعَالى فِيمَا بَقِيَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: ﴿لَّقَدْ تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيّ وَالمُهَجِرينَ والأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ﴾ حتَّى بَلَغَ: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيْمٌ * وعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِيْنَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ حَتى بَلَغَ: ﴿اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [سورة التَوبة/117-119]، قالَ كَعْبٌ: واللهِ ما أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ إذْ هَدَانِي اللهُ للإسْلامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم أَنْ لا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرضَوْا عَنْهُمْ فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ﴾ [سورة التوبة/96-97].
قالَ كَعْبٌ: كُنَّا خُلَّفْنَا أَيُّها الثَّلاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَىذ اللهُ تَعَالَى فِيهِ بِذَلِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَّةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [سورة التوبة/118]، ولَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخَلُّفَنَا عَنِ الغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إيَّانَا وَإرْجَاؤُهُ أَمْرَنا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: "أنَّ النَّبِيَ صلى اللهُ عليهِ وسلم خَرَجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَكَانَ يُحِبُّ أنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الخَمِيسِ".
وَفِي رِوَايَةٍ: "كَانَ لا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إلاَّ نَهَاراً فِي الضُّحَى، فَإذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ".
22- وَعَنْ أَبِي نُجَيْدٍ – بِضَمِّ النُونِ وَفَتْحِ الجِيم – عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ الخُزَاعِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزّنَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَصَبْتُ حَدّاً فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم وَليَّها فَقَالَ: "أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإذا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بها" فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُها ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْها. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : تُصَلّي عَلَيْهَا يا رسُولَ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟". رَوَاهُ مُسْلِم.
23- وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ بْنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم قَالَ: "لَوْ أَنَّ لابْنِ ءادَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلاَّ التُرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
24- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم قَالَ: "يَضْحَكُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ، يُقاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى القَاتِلِ فَيُسْلِمُ فَيُسْتَشْهَدُ". مُتَّفَقٌ عليه.