خطب الجمعة المجموعة الثالثة
 رحلة العمر

رحلة العمر

خطب الجمعة المجموعة الثالثة

إنَّ الحَمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ، ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرَّةَ أعينِنَا محمّدًا عبدهُ ورسولهُ وصفيُّه وحبيبُه صلّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أرسلَهُ.
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ، فإنّي أوصيكُمْ ونفسي بتقوَى اللهِ. ونقف اليوم عند ما حصل مع سيدنا إبراهيم عليه السلام بَعْدَ أنِ انْتَهى مِنْ بِناءِ الكعبةِ، فقد أَمَرَهُ اللهُ تعالى بِأَنْ يُنادِي في الحجّ، قالَ تَعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *﴾ [سورة الحج] . فقالَ إبراهيمُ: «يا ربّ كيفَ أُسْمِعُهُم» فقال اللهُ لهُ: «عليَّ البلاغ» أيْ أنا أُسْمِعُهُم، (وكلامُ اللهِ ليسَ ككلامِنَا فليسَ صَوتًا ولا حَرْفًا ولا لُغَةً) فنَادَى سيّدُنا إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ في مكانِهِ: «يا أيُّها النّاسُ إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحجَّ» فَسَمِعَ كلُّ روحٍ يَحُجُّ إلى يومِ القيامةِ صوتَ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ(2).
ها هوَ موسِمُ الحجّ قدْ أقبلَ فاخْتَلَجَتْ لهُ القلوبُ في صدورِ المؤمنينَ، وتَهيّأ منْ تَيَسَّرَ لَهُمُ الأمْرُ لِرِحْلَةِ العُمْرِ لأداءِ هذهِ الفريضةِ المُعَظَّمَةِ، وزيارةِ تلكَ الرّحَابِ المقدّسَةِ التي كانَ فيها سيّدُ المرسلينَ وخيرُ النبيينَ سيّدُنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم.
وبَقِيَتْ قلوبٌ يَغْمُرُهَا الشَّوْقُ والحنينُ بُغْيَةَ السَّفَرِ لأداءِ هذِهِ الفريضةِ العظيمةِ في عامٍ قادمٍ لا ندري أَيُقْبِلُ ونحنُ أحياءٌ أمْ نَكونُ تحتَ أطباقِ الثَّرَى.
ويَشُدُّ المؤمنونَ الرّحالَ فلا يَسْتَبْعِدونَ مِنْ حبّهِمْ بعيدًا، عَرَفُوا قَدْرَ الآخِرَةِ فَهانَ عليهِمُ التَّعَبُ وطَوَّعُوا أَنْفُسَهُم، خَافُوا الوَعيدَ فَقَرُبَ عَلَيْهِمُ البعيدُ.
عبادَ اللهِ، ثَمَّةَ رجالٌ قَصَدُوا الحجَّ مَشْيًا على الأقدامِ، مِنْهُمْ رجُلٌ يُقالُ لهُ إبراهيمُ بنُ أدهمَ الذي رءاهُ رجلٌ كان راكبًا ناقته فقالَ لَهُ: إلى أينَ يا إبراهيمُ؟ قالَ إبراهيمُ: أريدُ الحَجَّ. فقالَ الرَّجُلُ: ولكنَّ الطريقَ بعيدٌ أينَ الرّاحِلَةُ؟ فقالَ إبراهيمُ: لي مَراكِبُ كثيرةٌ ولكنَّكَ لا تَراها. فقالَ الرَّجُلُ: أينَ هِيَ؟ فقالَ إبراهيمُ: إذا نَزَلَتْ فيَّ مُصيبَةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الصَّبْرِ، وإذا نَزَلَتْ بي نِعْمَةٌ رَكِبْتُ مركَبَ الشُّكْرِ، وإذا نَزَلَ القَضاءُ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الرّضا، وإذا دَعَتْنِي نَفْسي إلى شىءٍ عَلِمْتُ أنَّهُ ما بَقِيَ مِنَ الأَجَلِ إلا قليلٌ. فقالَ الرجلُ: سِرْ بإذنِ اللهِ فواللهِ أنْتَ الرّاكِبُ وأنا الماشِي.
هناكَ تَنالُ النُّفوسُ مَطْلَبَها، وتَجِدُ الأَرواحُ المُشْتَاقَةُ تِرياقَهَا وبَلْسَمَهَا، هناكَ يطوفُ النَّاسُ بالبيتِ العَتيقِ، يطوفونَ بِبَيْتِ اللهِ الحرامِ ولِسانُ حالِهِمْ يقولُ: يا ربُّ مَهْمَا دُرْنا واستَدَرْنا لا مَلْجَأَ لنا إلا إِليْكَ. هناكَ عندَمَا تَسْتَلِمُ الحجرَ الأسودَ وتُقَبّلُهُ تَسْتَحْضِرُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ مَسَّتْ شَفَتَاهُ هذا الحجَرَ.
هناكَ إذا صلّيتَ أمامَ الكعبةِ ورفعْتَ رأْسَكَ مِنَ السُّجودِ فَطالَعَتْكَ أنوارُ الكعبةِ، وتَنَسَّمْتَ عَبْقَ شَذاهَا، سَتَجِدُ مَرَّةً أخرى شاهِدًا بأنَّكَ عَبْدٌ لِرَبّ هذا البيتِ.
هناكَ عندما تَسْعَى بينَ الصَّفَا والمرْوَةِ تَسْتَحْضِرُ قِصَّةَ سيّدَتِنا هاجَرَ وولَدِهَا إسماعيلَ لَمَّا تَرَكَهُمَا إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ وكانَ المكانُ قَفْرًا صحراءَ، وقد سألته: «يا إبراهيمُ أينَ تَتْرُكُنَا في هذا المكانِ الذي ليسَ فيهِ سَميرٌ ولا أنيسٌ» وكانَ سيدنا إبراهيم يريدُ أنْ يُطيعَ الله فيمَا أَمَرَهُ، قالَتْ لَهُ: اللهُ أَمَرَكَ بِهذا؟ فقالَ: نَعَمْ. فقالَتْ لهُ بِلِسانِ اليقينِ: «إذًا لا يُضيّعُنا» وأَظْهَرَ اللهُ لَها الماءَ السَّلْسَبيلَ العَذْبَ ماءَ زَمْزَم.
وبِثِيابِ الإحرامِ البيْضاءِ يَزْدَحِمُ النَّاسُ في عَرَفات، يَدْعونَ اللهَ ويَبْتَهِلونَ لَه فإنَّهُ يومُ عَرَفَةَ، وقد قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما رُؤِيَ الشَّيْطانُ أَصْغَرَ ولا أَحْقَرَ ولا أَدْحَرَ ولا أَغْيَظَ مِنْهُ في يَوْمِ عَرَفَةَ وما ذاكَ إلاّ أنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ فيهِ فَيُتَجاوَزُ عَنِ الذُّنوبِ العِظامِ» .
وبعدَ ذلكَ كلّهِ تحط الرحالُ في المدينةِ المُنَوَّرَةِ التي هيَ أفضلُ بلادِ الله بعدَ مكَّةَ المكرَّمَةَ، إنَّها المدينةُ التي كانَ يَقولُ فيهَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإيمانَ لَيَأْرِزُ إلى المدينةِ كمَا تَأْرِزُ الحيَّةُ إلى جُحْرِهَا» .
إنَّها المدينةُ التي لا يَدْخُلُهَا الأعوَرُ الدَّجَّالُ بَلْ يكونُ علَى مَداخِلِهَا ملائِكَةٌ يَمْنَعونَهُ مِنْ دُخولِهَا.
إنّها المدينةُ المباركَةُ لِحَديثِ البُخَارِيّ: «اللهمَّ اجْعَلْ بِالمَدينَةِ ضِعْفَيْ ما جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ» .
وفي المدينةِ المنورةِ رَوْضَةٌ منْ رِياضِ الجَنَّةِ بَيْنَ قَبْر وَمِنْبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. إنهَّا المدينةُ التي ضَمَّتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَهْفُو إليْها قلوبُ الموحّدينَ وتَرْحَلُ إليها قَوافِلُ المؤمنينَ شوْقًا إلى حبيبِ ربّ العالمينَ.

سلامُ الله يا بدرَ البدورِ ***** عليكُمْ صاحب القدرِ الكبيرِ
سلامُ الله يا هادي فؤادي ***** سلامُ الله من قلبٍ كسيرِ
على نوقٍ من الأشواقِ أحْدو ***** ألا يا نوقُ للمختارِ سيري
لربعِ مدينةٍ ضاءتْ وفاحتْ ***** بها الأطيابُ من أحلى عبيرِ
نزورُ اليومَ خيرَ الناس طُرًّا ***** فأَرفعَ منه قدرًا لنْ تزوري

كيفَ لا تكونُ هذهِ الرّحْلَةُ هيَ رِحْلَةَ العُمْر وراحَةَ العُشّاقِ، يسيرُ الرَّكْبُ يَحْدوهُ الهُيامُ، وتجري دموعُ الحبّ بانْسِجامٍ لِبَيْتِ اللهِ الحَرامِ، لِمُحَمَّدٍ خَيْرِ الأنَامِ بَدْرِ التَّمَامِ.
هذا وأسْتَغْفِرُ الله لي ولَكُم.

الخطبةُ الثانيةُ:
إنَّ الحَمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هاديَ له، والصلاةُ والسَّلامُ على مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ وعلى كلّ رسولٍ أرسلَهُ.
عبادَ اللهِ، أوصيكُمْ ونفسي بتقوَى اللهِ وأُنَبّهُكُمْ مِنْ أمورٍ يفعَلُهَا أو يظنها البعضُ في موسم الحج. كما هو معلوم فإن أمَّةَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أُمِرت بِرَمْيِ الجمراتِ إحياءً لسُنَّةِ نَبِيّ اللهِ إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ حيث ظهرَ لهُ الشَّيطانُ لَعَنَهُ اللهُ، وليسَ معْنَى الرَّجْمِ كما يعتقدُ بعضُ الناسِ أنَّ الشَّيطانَ يسكُنُ هناكَ.
ومن هذه الأمور أنَّهُ لا يَصِحُّ التَّوكِيلُ بِرَمْيِ الجمراتِ للمستطيعِ، وأنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ لا بُدَّ أنْ يكونَ بعدَ مُنْتَصَفِ ليلَةِ العيدِ ولا يَصِحُّ قَبْلَها. ومن هذه الأمور قولُ بعضِ الناسِ «إنَّهُ إن صادفَ الوقوفُ بِعرفَةَ يومَ الجمعةِ تكونُ الحَجّةُ بِسبعينَ» فهذا غيرُ صحيحٍ وأمّا الحجُّ الأكبَرُ فهوَ يومُ العيدِ وليسَ هذا.
ومِمّا يجبُ التحذيرُ منهُ ما يَفْعَلُهُ كثيرٌ مِنَ الناسِ في الطَّوافِ وغيرِهِ مِنْ قولِهِمْ عندَ التَّهْليلِ: لا إلـهَ ولا يُكْمِلونها إلا بعدَ أنْ يُرَدّدَ المسلمونَ خَلْفَهُمْ فإنَّ ذلكَ لا يجوزُ ولأنَّ قولَ «لا إلـه» وَحْدَها فيهِ نَفْيٌ لأُلوهِيَّةِ اللهِ وَمَنْ فَهِمَ هذا المعْنَى فإنَّهُ يَكْفُرُ.

واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *﴾ . اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم، وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *﴾ ، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنَا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ، واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.