المقصودُ مِنَ المعراجِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ لَهُ النِّعمَةُ ولَهُ الفَضلُ ولَهُ الثَّناءُ الحسَنُ صَلواتُ اللهِ البَّرِ الرَّحيمِ والملائِكَةِ المقَرَّبينَ على سَيِّدنا محمَّدٍ أَشرَفِ المرسَلينَ وعلى جميعِ إِخوانِهِ النّبيّينَ والمرسلينَ وسَلامُ اللهِ عَلَيهِم أَجمعينَ، إِذا صَلَّينا على سَيِّدِنا محمَّدٍ مَطلوبٌ أَن نُسَلِّمَ عَلَيهِ وإِذا سَلَّمنا عَلَيهِ مَطلوبٌ مِنّا أَن نُصَلِّيَ عَلَيهِ أَيضًا، وإِذا بَدأنا بَعدَ الرَّسولِ بِآدَمَ، إِذا أَرَدنا التَّفصيلَ نَقولُ "اللَّهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آدَمَ وشيثٍ وإِدريسَ ونوحٍ" ثمَّ إِن شِئنا نختَصِرُ نَقولُ "وسائِرِ النَّبيّينَ"، فَبِهذِهِ العِبارَةِ نَكونُ صَلَّينا على جميعِ النَّبيّينَ.
أمّا بَعدُ، فَقد قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى في حقِّ جِبريلَ عَلَيهِ السَّلامُ: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى﴾ عَلَّمَهُ مَعناهُ عَلَّمَ محمَّدًا شديدُ القُوَى أَي جِبريلُ ذو مِرَّةٍ، قالَ تَعالى: ﴿ذو مِرَّةٍ﴾ في وَصفِ جِبريلَ، أَي ذو شِدَّةٍ في خَلقِهِ ﴿فاستوى وهو بالأفق الأعلى﴾ (سورة النجم ) اللهُ تَعالى وَصَفَ جِبريلَ بِأَنَّهُ ذو قُوّةٍ وذَلِكَ لأَنَّهُ قَلَبَ بِالقُوَّةِ التي أَعطاهُ اللهُ إِيّاها قُرى قَومِ لوطٍ أَربَعُ مُدُنٍ أَو خمسُ مُدُنٍ قَلَبَها، أَمَرَهُ اللهُ بِإِهلاكِهِم لأَنَّهُم كَذَّبوا نَبِيَّهُم وفَعَلوا تِلكَ الفِعلَةَ الخبيثَةَ، فَأَمَرَ اللهُ تَعالى جِبريلَ بِأَن يِقلِبَ عَلَيهِم أَرضَهُم، قَلَعَ أَرضَهُم ورَفَعَها إِلى السَّماءِ بجَناحِهِ، رَفَعَ تِلكَ المدُنَ الأَربَعَ أَو الخَمسَ إِلى السَّماءِ ثمَّ قَلَبَها فماتوا ولم تُرَ جُثَثُهُم على وَجهِ الأَرضِ لأَنَّهُم نَزَلوا إِلى أَسفَلَ، لهذا اللهُ تَعالى قالَ فيهِ ﴿ذو مِرَّةٍ﴾ أَي خِلقَتُهُ شَديدَةٌ، هو جِبريلُ عَلَيهِ السَّلامُ بمُفرَدِهِ لَو أَمَرَهُ اللهُ تَعالى أَن يُزيحَ جِبالَ الدُّنيا هذِهِ كُلَّها لأَزاحَها، هذِهِ الرِّيحُ التي لَيسَ لها روحٌ إِذا سَلَّطَها اللهُ تَعالى على قومٍ مِن عِبادِهِ تهلِكُهُم، قَومُ عادٍ كانوا قَبلَ لوطٍ. ولوطٌ هو ابنُ أَخي إِبراهيمَ عَليهِما السَّلامُ، قَبلَ ذَلِكَ أَيَّامَ هودٍ، لَمَّا كَذَّبَتِ الكُفّارُ هودًا اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أَنزَلَ عَلَيهِم بَأسَهُ ونِقمَتَهُ وسَلَّطَ عَلَيهِم الرِّيحَ العَقيمَ هذِهِ الرِّيحُ أَخَذَتهم إِلى الهواءِ ثمَّ رَدَّتهم فَصاروا كالنَّخلِ الْمُنقَعِر - المقطوعِ مِن أَصلِهِ - ماتوا، هَلَكوا (مِن هذِهِ الرِّيحِ)، والرِّيحُ لَيسَ لها روحٌ لَكِنَّ اللهَ تَعالى جَعَلَ فيها قُوَّةً فَكَيفَ جِبريلُ الذي لَهُ روحٌ وكَذَلِكَ غَيرُهُ مِنَ الملائِكَةِ، ثمَّ أَخبرَنا اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عَن جِبريلَ بِأَنَّهُ استوى بِالأُفُقِ أَي أَنَّهُ ظَهَرَ لِسَيِّدِنا محمَّدٍ بِصورَتِهِ الأَصلِيَّةِ. صورةُ جِبريلَ الأَصلِيَّةُ صورةٌ مَلَكيَّةٌ ذاتُ ستِّمائةِ جَناحٍ لَيسَت كَجَناحِ الطُّيورِ التي نَعهَدُها، جَناحُهُ يَسُدُّ ما بَينَ السَّماءِ والأَرضِ مِن عُظمِ خِلقَتِهِ لَمَّا يَكونُ على صورَتِهِ الأَصلِيَّةِ، ظَهَرَ لَهُ بِصورَتِهِ الأَصلِيَّةِ وكانَ الرَّسولُ طَلَبَ مِنهُ أَن يَراهُ في صورَتِهِ الأَصلِيَّةِ لأَنَّهُ قَبلَ ذَلِكَ ما كانَ يَراهُ بِصورَتِهِ الأَصلِيَّةِ، كانَ يَأتيهِ يَقرأُ عَلَيهِ القُرءانَ أَو يُكَلِّمُهُ بِالوحي الذي هُو غيرُ القُرءانِ فَيسمَعُ عَنهُ، فَيَحفَظُ الرَّسولُ ما قَرَأَ عَلَيهِ مِن دونِ أَن يَكونَ على صورَتهِ الأَصلِيَّةِ، ثمَّ طَلَبَ مِنهُ ذاتَ يومٍ لَمّا كانَ بمَكَّةَ قَبلَ الهِجرَةِ وقَبلَ لَيلَةِ المعراجِ أَن يَراهُ بِصورَتِهِ الأَصلِيَّةِ، قالَ لَهُ جِبريلُ سَلْ رَبَّكَ، فَدعا اللهَ رَسولُ اللهِ، أَن يُرِيَهُ جِبريلَ في صورَتِهِ الأَصلِيَّةِ، فَظَهَرَ لَهُ بِتِلكَ الصورَةِ التي لها ستُّمائةِ جَناحٍ فغُشِيَ على رَسولِ اللهِ لأَنَّ مَنظَرَهُ شىءٌ هائِلٌ ثمَّ أَفاقَ وهذا كانَ بمَكَّةَ، ثمَّ بَعدَ ذَلِكَ أَيضًا لَيلَةَ المعراجِ رَءاهُ بِتِلكَ الصّورَةِ لَكِنَّهُ في المرَّةِ الثّانيةِ لم يُغْشَ عَلَيهِ بَل ثَبَتَ على حالَتِهِ الطَّبيعِيَّةِ، ثمَّ كانَ ذَلِكَ أَي رؤيَتُهُ لجِبريلَ في السَّماءِ عِندَ سِدرَةِ المنتَهى، هذِهِ سِدرَةُ المنتَهى شَجَرَةٌ، والسِّدرُ مَوجودٌ في الأَرضِ لَكِن فَرقٌ كَبيرٌ بَينَ السِّدرِ الذي في الأَرضِ عِندَنا وبَينَ تِلكَ السِّدرَةِ، مِن حَيثُ عُظمُ الخِلقَةِ ومِن حَيثُ جمالُ المنظَرِ، الرَّسولُ عَلَيهِ الصّلاةُ والسَّلامُ قالَ: " فما أَحَدٌ مِن خَلقِ اللهِ يَستطيعُ أَن يَصِفَها" مَعناهُ شىءٌ يُبهَرُ الأَنظارَ مِن حُسنِها، مِن الصِّفاتِ التي خَلَقها اللهُ تَعالى عَلَيها، هي سِدرَةٌ، هُنا في الدُّنيا مَوجودٌ، لَكِن هذِهِ حَبُّها كَحَبَّةِ البُندُقِ، صَغيرٌ حَبُّها وعَلَيها لحمٌ يُؤكَلُ ونواها قاسٍ مُستَديرٌ صُلبٌ مُستديرٌ نَواها، أَمّا تِلكَ التي في الجنَّةِ وَرَقُها الرَّسولُ قالَ عَنهُ: "كآذانِ الفِيَلَةِ، أَمّا هذِهِ التي في الدُّنيا عِندَنا وَرَقُها صَغيرٌ - بِالنِّسبَةِ لِتِلكَ - وأَمّا ثمرُها حَبُّها الذي يُؤكَلُ قالَ عَنهُ: كالقِلالِ، القِلالُ هي الجِرارُ، كالجِرارِ في عُظمِها، أَهلُ الجنَّةِ عندما يَكونونَ في الجنَّةِ، أَجسامُهُم لَيسَت كحالِها اليومَ، يَكونُ أَحدُهُم ستينَ ذِراعًا طولاً وسَبعةً عَرضًا، على هذِهِ النِّسبَةِ بمُناسَبَةِ الجسَدِ أَكُفُّهُم تَكونُ كَبيرةً وأَقدامُهُم تَكونُ كَبيرةً، على ما يُناسِبُ طولَ الجِسمِ، اللهُ تَبارَكَ وتَعالى امتَنَّ على سَيِّدِنا محمَّدٍ بِالمِعراجِ أَي العُروجِ إِلى سِدرَةِ المنتَهى ثمَّ إِلى ما فوقَ ذَلِكَ، إِلى حيثُ شاءَ اللهُ، وَذَلِكَ لِيُرِيَهُ عَجائِبَ الملَكوتِ الأَعلى حتى يَزدادَ يقينًا بِرَبِّهِ وإِجلالاً وتَعظيمًا، لأَنَّه لَمّا يرى تِلكَ العَجائِبَ يَزدادُ تَعظيمًا للهِ، هذا المقصودُ مِنَ المِعراجِ، وزادَهُ تَشريفًا بِأَن أَسمَعَهُ كلامَهُ الذي لا يُشبِهُ كلامَ الخَلقِ الذي لَيسَ حَرفًا ولا صوتًا بَعدَ أَن تجاوَزَ سِدرَةَ المنتهى، وأَراهُ ذاتَهُ لَكِن رؤيتُهُ ذاتَ اللهِ وسماعُه كَلامَهُ لم يكونا في ءانٍ واحِدٍ بَل الرُّؤيَةُ في ءانٍ أَي وَقتٍ وسَماعُهُ كلامَه تَعالى في وَقتٍ، فَذَلِكَ المكانُ الذي كانَ وَصَلَ إِليهِ الرَّسولُ هو مَكانُ الرَّسولِ في ذَلِكَ الوَقتِ، هو الرَّسولُ كانَ مُتحيِّزًا هُناكَ أَمّا اللهُ تَبارَكَ وتَعالى فَهو مَوجودٌ بِلا مَكانٍ لا يجوزُ عَلَيهِ أَن يَكونَ لَهُ حيِّزٌ ولا يجوزُ عَلَيهِ أَن يَكونَ لَهُ حَدٌّ. كما هو مَذكورٌ في كِتابِ أَبي جَعفَرٍ الطّحّاويّ: تَعالى عَن الحُدودِ والغاياتِ والأَركانِ والأَعضاءِ والأَدواتِ، لا تحويهِ الجِهاتُ السِتُّ كَسائِرِ المبتَدَعاتِ. اللهُ تَبارَك وتَعالى لا يجوزُ عَلَيهِ أَن يَكونَ لَهُ مِساحَةٌ، كُلُّ شَىءٍ مِنَ الأَجرامِ أَي مِنَ الأَجسامِ لَهُ مِساحةٌ، الإِنسانُ لَهُ مِساحةٌ، مِساحَةُ الإِنسانِ أَربَعةُ أَذرُعٍ (بِذِراعِ يَدِهِ).
والنَّملَةُ لها مِساحَةٌ على حَسَبِ حالِها، والبَقّةُ كَذَلِكَ لها مِساحَةٌ إِنَّما اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى هو الذي لا مِساحَةَ لَهُ لا تجوزُ عَلَيهِ المِساحَةُ، لا يَدخُلُ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى الحدُّ والمِقدارُ، لأَنَّ الشَّىءَ الذي يَدخُلُهُ الحدُّ والمِقدارُ لا بُدَّ أَن يَكونَ مُحتاجًا لِمَن جَعَلَهُ على هذا الحدِّ والمِقدارِ، فإِن قالَ قائِلٌ هو جَعَلَ نَفسَهُ هَكَذا، هُو أَوجَدَ نَفسَهُ على مِساحَةٍ قَدرَ العَرشِ أَو تَزيدُ على العَرشِ ضِعفًا أَو ضِعفَينِ أَو ألفًا أو ءالافًا عَديدَةً يُقالُ لَهُ كَيفَ يَخلُقُ الشَّىءُ نَفسَهَ، على قَولِكَ اللهُ تَصَرَّفَ في ذاتِهِ هُو أَوجَدَ نَفسَهُ في جِرمٍ يَكونُ على هذِهِ المِساحة، هذا العَقلُ لا يَقبَلُهُ، الشَّىءُ لا يخلُقُ نَفسَهَ فَاللهُ تَبارَكَ وتَعالى يجِبُ أَن يَكونَ مُنَزَّهًا عَن المِساحَةِ لأَنَّ الذي لَهُ مِساحَةٌ يَكونُ مَخلوقًا لأَنَّهُ مُحتاجٌ إِلى مَن جَعَلَهُ على تِلكَ المِساحَةِ. المِساحَةُ مَعناها الكَمِّيَةُ ،كَمِّيَةُ الامتدادِ يُقالُ لَهُ المِساحَةُ كَما يُقالُ مِساحَةُ هذِهِ الأَرضِ كَذا، كَذَلِكَ كُلُّ الأَجرامِ مَهما صَغُرَت لها كَمِّيةٌ، كلُّ الأَجرامِ كِبارُها وصِغارُها، العَرشُ لَهُ حدٌّ يَعلَمُهُ اللهُ وإِن كانَ لَيسَ في مُستطاعِ البَشَرِ أَن يَمسَحوهُ مِن أَوّلِهِ إِلى ءاخِرِهِ، مَن بَدئِهِ إِلى انتِهائِهِ، البَشَرُ لا يَستَطيعونَ، وكَذَلِكَ الملَكُ مِنَ الملائِكَةِ لا يَستَطيعُ كَهؤلاءِ الذينَ أَجسامُهُمُ مُمتَدَّةٌ امتِدادًا عظيمًا بِحيثُ إِنَّ بَعضَ الملائِكَةِ أَرجُلُهُم في الأَرضِ السُّفلى في الأَرضِ السّابِعةِ، وأَكتافُهُم عِندَ العَرشِ، هؤلاءِ لهم أَعمارٌ طَويلَةٌ مُنذُ خُلِقُوا لا يَموتُ أَحَدُهُم إِنَّما يموتونَ بَعدَما يَفنى الجِنُّ والإنسُ أَي بَعدَ أَن لا يَبقى أَحَدٌ على وَجهِ الأَرضِ حَيًّا مِن إِنسٍ وَجِنٍّ بما فيهِم مِن مُؤمِنينَ وكافِرينَ، لو كانَ المؤمِنونَ مِنَ البَشَرِ يموتونَ قَبلَ ذَلِكَ الوَقتِ بمائةِ سَنَةٍ وذَلِكَ لأَنَّ القِيامَةَ لا تَقومُ إِلاّ على شِرارِ الخَلقِ، الكُفَّارُ هُم شِرارُ الخَلقِ أَمّا المسلِمُ مَهما كانَ عاصِيًا فهو خَيرٌ مِنَ الكُفَّارِ، المسلِمُ العاصي الذي هو غارِقٌ في المعاصي إِلى حَدٍّ بَعيدٍ خيرٌ عِندَ اللهِ مِنَ الكافِرِ الذي لَيسَ لَهُ ذَنبٌ سِوى كُفرِهِ وما يَتبَعُ كُفرَهُ، المؤمِنونَ يَفنونَ قَبلَ ذَلِكَ، ويُمكِنُ أَن يَكونَ مُؤمِنو الجِنِّ كَذَلِكَ أَي يحتَمِلُ أَن يَكونوا فَنَوا قَبلَ فَناءِ الكُفَّارِ مِنَ الإِنسِ والجِنِّ بمائةِ عامٍ، أَمّا الملائِكَةُ لا يَموتونَ إِلاّ بَعدَ هذا الوَقتِ، إِلاّ بَعدَ فَناءِ الجِنِّ والإِنسِ، فَرَبُّنا تَبارَكَ وتَعالى مَوجودٌ لا كَالموجوداتِ، الله موجود لا كالموجودات مَوجودٌ مَعناهُ لَيسَ مَعدومًا أَي هو مُتَّصِفٌ بِالوجودِ الأَزَليِّ الأَبَدِيِّ أَي الوجودِ الذي لا ابتِداءَ لَهُ، لم يَسبِقْهُ عَدَمٌ ولا يَلحَقُهُ عَدَمٌ، لا يُقالُ متى وُجِدَ اللهُ، الذي يَقولُ متى وُجِدَ اللهُ فَهو كافِرٌ لأَنَّهُ جَعَلَهُ مَخلوقًا، المخلوقُ يُقالُ فيهِ مَتى وُجِدَ أَمّا اللهُ تَعالى الذي لَيسَ لِوُجودِهِ ابتداءٌ لا يُقالُ متى وُجِدَ، لا إِلهَ إلاّ هو، الذي يَقولُ متى وُجِدَ جَعَلَ اللهَ مخلوقًا حادِثًا لأَنَّ هذِهِ المخلوقاتِ لم تَكُنْ، هذِهِ الأَرضُ التي تحمِلُنا ونَعيشُ عَلَيها لم تَكُن مَوجودَةً في الأَزَلِ كَذَلِكَ هذِهِ السَّمواتُ التي هي سَقفُ الأَرضِ، اللهُ تَعالى سَمّى السَّماءَ سَقفًا محفوظاً، السَّماءُ أَجرامٌ صُلبَةٌ كما أَنَّ أَرضَنا هذِهِ جِرمٌ صُلبٌ كَذَلِكَ السَّماءُ جِرمٌ صُلبٌ، اللهُ تَعالى خَلَقَ الكواكِبَ وخَلَقَ فوقَ الكواكِبِ السَّماءَ الأُولى ثمَّ الثّانيةَ ثمَّ الثَّالِثَةَ ثمَّ الرَّابِعَةَ ثمَّ الخامِسَةَ ثمَّ السّادِسَةَ ثمَّ السّابِعَةَ، هذِهِ الكواكِبُ النَّيِّراتُ الظّاهراتُ للبَشَرِ واللاتي هُنَّ خَفِيّاتٌ كُلُّ هذِهِ بِالنِّسبَةِ إِلى السَّماءِ جِرمٌ صَغيرٌ، هذِهِ السَّماءُ الأُولى التي بَعدَها سِتُّ سماواتٍ وبَينَ كُلِّ سَماءٍ وسَماءٍ مِسافَةٌ شاسِعةٌ بَعيدةٌ، هذِهِ الأُولى وَحدَها سِعَتُها شىءٌ لا يَعلَمُهُ إِلاّ اللهُ، امتِدادُها أَوسَعُ مِن أَرضِنا هذِهِ بمرّاتٍ عَديدَةٍ، هذِهِ السَّماءُ الأُولى فيها بابٌ خَلَقَهُ اللهُ تَعالى للتّوبَةِ أَي تَصعَدُ الملائِكَةُ مَلائِكَةُ الرَّحمةِ بِتوبَةِ التّائِبينَ، كُلَّما تابَ إِنسانٌ مِن الذُّنوبِ يَصعَدونَ بهذِهِ التَّوبَةِ مِن ذَلِكَ البابِ، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ عَن هذا البابِ بابِ التَّوبَةِ:"مَسيرَةُ عَرضِهِ سَبعونَ سَنَةً".
والقَمَرُ لَيسَ ضِمنَ السَّماءِ ولا الشَّمسُ ولا زُحَلُ ولا أَيُ كَوكَبٍ ولا أَيُ نَجمٍ داخِلَ السَّماءِ أَو فَوقَ السَّماءِ، إِنَّما هذا القَمَرُ والشَّمسُ والكَواكِبُ والنُّجومُ كُلُّها تحتَ السَّماءِ الأُولى التي فيها هذا البابُ وفَوقَ ذَلِكَ ما هو أَعظَمُ مِنها، السَّماءُ الثَّانِيةُ إِلى السَّابِعَةِ ثمَّ بَعدَ ذَلِكَ الكُرسيّ ثمَّ بَعدَ ذَلِكَ العَرشِ، كَذَلِكَ يوجَدُ تحتَ هذِهِ الأَرضِ سِتُّ أَراضٍ كُلُّ واحِدَةٍ مُنفَصِلَةٌ عَن الأُخرى واقِفَةٌ في الفَضاءِ بِقُدرَةِ اللهِ تَعالى، اللهُ تَعالى يُمسِكُها بِقُدرَتِهِ، اللهُ تَبارَكَ وتَعالى يَحفَظُ هذا العالَمَ مِن غَيرِ مُباشَرَةٍ أَي مِن غَيرِ مَسٍّ، اللهُ لا يَمَسُّ ولا يُمَسُّ خَلَقَ العالَمَ مِن غَيرِ مُعالجةٍ ومُباشَرَةٍ، لَيسَ مِثلَ العِبادِ، العِبادُ إِذا أَرادوا أَن يَعمَلوا شَيئًا يُمسِكونَ الشَّىءَ بِأَيديهِم يَتَحَرَّكونَ نَحوَهُ ويُمسِكونَهُ بِأَيديهِم أَو يُمسِكونَ الآلَةَ ثمَّ الآلةُ تَتَّصِلُ بِذَلِكَ الشَّىءِ الذي يَعمَلونَهُ، أَمّا اللهُ تَبارَكَ وتَعالى لَيسَ هَكذا، اللهُ تَعالى شاءَ في الأَزَلِ وعَلِمَ وقَدَّرَ ما حَدَثَ.
اللهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَن الكَيفِيَّةِ لا يوصَفُ بِصِفَةٍ مِن صِفاتِ البَشَرِ، قالَ الإِمامُ أَبو جَعفَرٍ الطّحّاويُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: "وَمن وَصَفَ اللهَ بمعنًى مِن معاني البَشَرِ فَقد كَفَرَ" مَعنى هذِهِ الجملَةِ أَمرٌ عَظيمٌ أَي أَنَّ الذي يَعتَقِدُ في اللهِ تَعالى أَنَّ فيهِ صِفَةً مِن صِفاتِ البَشَرِ فَهُو كافِرٌ، أَنَّ الذي يَعتَقِدُ في اللهِ صِفَةً مِن صِفاتِ البَشَرِ كالحرَكَةِ والسُّكونِ أو التَّطوُّرِ والتَّغيُّرِ، أَو الزِيادةِ أَو النُّقصانِ أَو التَّأثُّرِ أَو الانفِعالِ، الذي يَعتَقِدُ في اللهِ شيئًا مِن هذا فَهُو كافِرٌ، لَسنا نحنُ أَوَّلَ مَن قالَ هذا، هذا الإمامُ أَبو جَعفَرٍ الطّحّاويّ الذي قالَ هذا الكَلامَ مَضى عَلَيهِ بَعدَ أَن تُوفِّيَ أَلفٌ ومائةُ سَنَةٍ، لَيسَ شيئًا جديدًا، لَسنا نُعَلِّمُكُم شيئًا جديدًا، هؤلاءِ الجُهّالُ الذينَ ما تَعَلَّموا تَنْزيهَ اللهِ يَستَغرِبونَ يَقولونَ هذا شَىءٌ جَديدٌ، نحنُ نُعَلِّمُ ما سَبَقنا بِهِ أَئِمَّةُ الهدى الذينَ كانوا قَبلَ أَلفِ سنةٍ والذينَ بَعدَ ذَلِكَ إِلى عَصرِنا هذا، الذي يَصِفُ اللهَ بِصِفَةٍ مِن صِفاتِ البَشَرِ ما عَرَفَ اللهَ فلا يَظُنُّ نَفسَهُ أَنَّهُ مُؤمِنٌ مُسلِمٌ، هذا يجبُ عَلَيهِ أَن يُغَيِّرَ اعتقادَهُ فَيقولُ اللهُ تَعالى مَوجودٌ لا كالموجوداتِ، مُنَزَّهٌ عَن الكَيفِيَّةِ والكَمِيَّةِ والحرَكَةِ والسُّكونِ والتَّطَوُّرِ والتَّغَيُّرِ والانفِعالِ والتَّأَثُّرِ، اللهُ تَبارَكَ وتَعالى إِذا أَطاعَهُ عَبدُهُ لا يَنفَعِلُ كَما نحنُ نَنفَعِلُ إِذا رأينا مِن إِنسانٍ خِدمةً جَليلَةً، اللهُ تَعالى مَهما أَطاعَهُ المؤمنونَ لا يَنفَعِلُ لِطاعَتِهِم، كَذَلِكَ إِن عَصاهُ الكافِرونَ والعُصاةُ مِنَ المسلِمينَ لا يَنفَعِلُ، لا يَتَأَثَّرُ، إِنَّما لَهُ صِفاتٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ مِنها الرِّضى والغَضَبُ، لَيسَ انفِعالاً كَرِضانا، نحنُ رِضانا انفِعالٌ وغَضَبُنا انفِعالٌ أَمّا رِضى اللهِ فَلَيسَ انفِعالاً وغَضَبُهُ لَيسَ انفِعالاً.
ثمَّ إِذا رَأيتُم إِنسانًا يَتوَهَّمُ أَنَّ الرَّسولَ عُرِجَ بِهِ حتّى يَلقى اللهَ تَعالى بِمكانٍ هُو مَركَزُهُ وحَيِّزُهُ فَقولوا لَهُ هذا جَهلٌ بِاللهِ تَعالى، اللهُ تَعالى لَو كانَ لَهُ مَكانٌ لَكانَ لَهُ أَمثالٌ، ملائِكَةُ العَرشِ يَعيشونَ في العَرشِ، وَملائِكَةُ السَّماءِ الأُولى ومَلائِكَةُ السَّماءِ الثَّانِيةِ ومَلائِكَةُ السَّماءِ الثّالِثَةِ والرّابِعَةِ إِلى السّابِعَةِ يَعيشونَ في هذِهِ السَّماواتِ، مِن كَثرَتِهِم سَيِّدُنا محمَّدٌ قالَ: "ما في السَّمواتِ مَوضِعُ كَفٍّ ولا شِبرٍ ولا ذِراعٍ إِلاّ وفيهِ مَلَكٌ قائِمٌ أَو راكِعٌ أَو ساجِدٌ"، لَيسَت السَّمواتُ كَأَرضِنا هذِهِ، أَرضُنا هذِهِ القِسمُ الأَكبرُ مِنها فَراغٌ وبُحورٌ، البَشَرُ الذينَ يَعمَرونها والجِنُّ الذينَ يَعمَرونها ما أَخَذوا مِنَ الحَيِّزِ إلاّ أَقَلَّها، إِلاّ أقلَّ أَجزاءِ الأَرضِ أَمّا السَّمواتُ ما فيها مِوضِعُ شِبرٍ إِلاّ وفيهِ مَلَكٌ.
فَاللهُ تَبارَكَ وتَعالى لو كانَ لَهُ مَكانٌ لَكانَ مِثلَ هؤلاءِ الملائِكةِ وهُو تَبارَكَ وتَعالى قالَ: ﴿لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ﴾ نَفى عَن نَفسِهِ المشابهةَ مَعناهُ أَنَّهُ لا يُشبِهُ شَيئًا، أَي لا إنسانًا ولا جِنًّا ولا مَلائِكةً ولا شمسًا ولا قَمَرًا ولا غيرَهُما مِنَ النَيِّراتِ، ولا ماءً ولا هواءً ولا روحًا ولا شيئًا غيرَ ذَلِكَ، هُو أَخبرَنا بِذَلِكَ بِقولِهِ: ﴿ليسَ كَمثْلِهِ شَىءٌ﴾ لِذَلِكَ هؤلاءِ يجِبُ تَعليمُهُم أَنَّ ما يَظنّونَهُ أَنَّ الرَّسولَ عُرِجَ بِهِ إِلى السَّماءِ السَّابِعَةِ وما بَعدَها إِلى أَن وَصَلَ إِلى المكانِ الذي رأى اللهَ تَبارَكَ فيهِ، بَعدَما وَصَلَ إِليه وسَمِعَ كلامَهُ لأَنَّ اللهَ تَبارَكَ كانَ مَركَزُهُ هُناكَ، هذا جَهلٌ بِاللهِ وضَلالٍ هؤلاءِ يُعَلّمونَ وإِلاّ يموتونَ على غَيرِ الإِسلامِ، إِن ماتوا قَبلَ أَن يَعرِفوا تَنْزيهَ اللهِ وهُم على ذَلِكَ الاعتقادِ الفاسِدِ يموتونَ على غيرِ الإِسلامِ، تَعليمُهُم واجِبٌ، مِن شِدَّةِ الجهلِ قالَ بَعضُهُم سَيِّدُنا محمَّدٌ اقترَبَ مِنَ اللهِ بمِسافةٍ مِثلَ مِسافةِ ما بَينَ هذا الحاجِبِ وهذا الحاجِبِ والعِياذُ باللهِ، مِن أَينَ أَتَوا بهذا الكَلامِ الفاسِدِ؛ قالوا صارَ ما بينَهُما كما بينَ الحاجِبِ والحاجِبِ، هَكذا حَرَّفوا كِتابَ اللهِ تَعالى، اللهُ تَعالى أَليسَ قالَ في القُرءانِ: ﴿ثُمَّ دَنَاْ فَتَدَلّىْ فَكَاْنَ قَاْبَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَىْ﴾ هذا هُم فَسَّروهُ فَقالوا اللهُ نَزِلَ مِن أَعلى بالحرَكَةِ والانتِقالِ حتّى صارَ ما بينَهُ وبينَ سَيِّدِنا محمَّدٍ مِن المِسافَةِ كهذِهِ مِن هذِهِ، ما هذا الجَهلُ، شَبَّهوا اللهَ بِخَلقِهِ وكَذَلِكَ الذينَ يَقولونَ إِنَّ اللهَ جالِسٌ على الكُرسيّ أَو على العَرشِ وتَرَكَ لِسَيِّدِنا محمَّدٍ مَكانًا يُجلِسُهُ فيهِ يومَ القِيامَةِ وهَذا مِن أَجهَلِ الجَهلِ وهذا تَكذيبٌ للآيَةِ القُرءانِيَّةِ. فَمعنى ﴿ثُمَّ دَنَاْ فَتَدَلّىْ فَكَاْنَ قَاْبَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَىْ﴾ دَنا جِبريلُ مِن محمَّدٍ فَتَدَلّى أَي جِبريلُ واقتَرَبَ مِن محمَّدٍ حتّى صارَ ما بينَهُ وبينَ الرَّسولِ قَدرَ ذِراعينِ أَو أَقَلَّ.
فاجتَهِدوا بارَكَ اللهُ بِكُم فَإِنَّ تَبليغَ العِلمِ واجِبٌ ولا سِيَّما الأَقارِبُ، الأَهلُ، اللهُ تَعالى قالَ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ﴾ (سورة طه/ءاية132).