وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على أكرمِ المرسلينَ وعلى ءالهِ الطيبينَ وصحابتِه الكرامِ الميامينَ. أما بعدُ فقد قالَ اللهُ تعالى في كتابِهِ الكريمِ:﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾. وَرَوَيْنا في صحيحِ ابنِ حبانَ من حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ:" أبو بكرٍ في الجنَّةِ وعمرُ في الجنَّةِ وعثمانُ في الجنَّةِ وعليٌّ في الجنَّةِ وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللهِ في الجنَّةِ والزبيرُ بنُ العوامِ في الجنَّةِ وأبو عبيدةَ عامرُ بنُ الجرَّاحِ في الجنَّةِ وسعدُ بنُ أبي وقاصٍ في الجنَّةِ وسعيدُ بن زَيدٍ في الجنَّةِ وعبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ في الجنَّةِ".
يُستدلُّ من هذا الحديثِ أنَّ هؤلاءِ العشرةَ الذينَ هم في مقدمةِ الأولينَ من المهاجرينَ هم خيارُ أصحابِ رسولِ اللهِ لأنَّهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ عدَّهم في مجلسٍ واحدٍ وأخبرَ بأنَّهم من أهلِ الجنةِ ثم بعدَ هؤلاءِ العَشَرَةِ عددٌ كثيرٌ من المهاجرينَ الأولينَ كلُّهم مَرضيونَ عندَ اللهِ. اللهُ رَضِيَ عنِ الجميعِ وكلُّهم راضونَ عنهُ. اللهُ إذا أخبرَ في القرءانِ أنَّه راضٍ عن عبدٍ فلا يَسْخَطُ عليهِ أبدًا وكلُّ من رَضِيَ اللهُ عنهُ فلا يكونُ مسخوطًا عليهِ أبدًا فمنْ أساءَ الظنَّ بواحدٍ منهم واعتقدَ أنَّهُ صارَ مَسْخُوطًا عليهِ بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ فقد خالفَ القرءانَ. اللهُ تعالى عالمُ الغيبِ عالمٌ بما مضَى وعالمٌ بما سيأتِي فلو كان يحصلُ من هؤلاءِ الذينَ أخبرَ اللهُ تعالى عنهم ما يُوجِبُ السخطَ عندَ اللهِ لم يُخْبِرْ في القرءانِ بأنَّهُ رَضِيَ عنهم لكنَّهُ عَلِمَ أنَّهُ لن يحصُلَ منهم ما يُوجِبُ سخَطَ اللهِ عليهم فكلُّ هؤلاءِ من المهاجرينَ الأولينَ أولياءُ اللهِ وأحبابُه ومن رَضِيَ بذلكَ فلنفسِه ومن قالَ عنهم أنَّه صارَ مسْخُوطاً عليهم بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ فهو ملعونٌ بعيدٌ من الدرجاتِ العُلَى.
معنَى المهاجرينَ: هم الذين هاجَروا إلى المدينةِ حبًّا في اللهِ ورسولِه من أهلِ مكةَ، تركُوا مكةَ وذهبوا إلى دارِ الهجرةِ لأنَّهُ كانَ في أولِ الأمرِ الهجرةُ إلى المدينةِ بعدما هاجرَ رسولُ اللهِ على من استطاعَ فرضًا مؤكدًا فهؤلاءِ العشرةُ الذينَ هاجروا من مكةَ إلى المدينةِ امتثالاً لأمرِ اللهِ هم من المهاجرينَ الأولينَ الذين أثنَى اللهُ عليهم في القرءان ومنهم عمارُ بنُ ياسرٍ وبلالُ بنُ رباحٍ وأبو ذرٍ الغفاريُّ وخلقٌ كثيرٌ، كلُّ هؤلاءِ دخَلُوا في قولِ اللهِ تعالى فأثنَى اللهُ عليهم وأخبرَنا أنَّهُ راضٍ عنهم وأنَّهم راضون عنه.
وأما الأنصار فهم كانوا من أهل المدينة آمنوا بالرسول ونصروا دين الله فسُموا الأنصار، اسم الأنصار اسم إسلامي لم يكن قبل ذلك إنما أهل المدينة أغلبهم من قبيلتين: قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج فكانوا يُسمون الأوسيين والخزرجيين ولكن عندما نصروا رسول الله سمَّاهم الرسول بذلك الاسم. فالأنصار أيضاً من السابقين الأولين، الله تعالى رضي عنهم ولو حصلت منهم بعض المعاصي لا يسخط عليهم أبداً لأنه عالمٌ بما كان وبما سيكون. لو كان أحد من هؤلاء ينقلب كافراً بعد موت رسول الله ما أخبر الله أنه راضٍ عنهم فكل هؤلاء تجب محبتهم.
وأما معنى رضاهم عن الله فهو عبارة عن كونهم مؤمنين صادقين مسلِّمين لله تسليماً. فمن وصف هؤلاء بأنهم انقلبوا بعد وفاة رسول الله فخانوا أهل البيت فهو الخائن الخبيث المفتري على الله ورسوله. الله الذي خلق الخلق جميعاً وعالم في الأزل بأحوال الناس أخبر أنه راضٍ عنهم ومعنى ذلك أنهم يموتون على الإيمان والتقوى لا يخرجون عن ذلك، فهم كرماء على الله في الدنيا والآخرة ومبغضهم هو المخالف للقرءان فهل بعد بيان الله تعالى بيان؟ لا. المؤمن هو الذي يصدق بكل ما جاء به كتاب الله وأما الذي يصدق ببعض ولا يصدق ببعض فأمره معلوم. فبعد ثناء الله تعالى على أولئك فمن خونَّهم فلا يضرهم شيئاً من الدرجات العلى عند الله. ثم إن أهل البيت كانوا مع أولئك، عليٌ والعباس وأولاد العباس العشرة كل هؤلاء كانوا يُصلون وراء الخلفاء الثلاثة ما أحدٌ من أهل البيت أنِف أن يصلي خلف هؤلاء الثلاثة لولا أنهم كانوا يحبونهم محبة صادقة ما كانوا يصلون خلفهم. ثم زيادة على ذلك مما يدل على أن أهل البيت كانوا راضين ومحبين محبة صادقة لهؤلاء الثلاثة لا منافقة فيها أن علياً كان له أولادٌ سمى واحداً منهم أبا بكر وآخر عمر وآخر عثمان الأكبر وآخر عثمان الأصغر ثم الحسين بن علي كان له ولدٌ سماه أبا بكر قُتل مع أبيه الحسين في كربلاء لولا أنهم يحبون أبا بكر كانوا يسمون أبا بكر؟! ثم إن علياً زوَّج عمر بن الخطاب في زمن خلافته أم كلثوم بنت فاطمة أُخت الحسن والحسين من أجل التبرك بنسب فاطمة فولدت له ولداً سماه زيداً – كان يسمى زيدَ ابن عمر – ثم بعد وفاة عمر توفي زيد وأمه في آن واحد فصلي عليهما في آن واحد صلاة الجنازة، الولد وُضع في المقدمة وأمه وضِعت خلفَهُ. لو كان علي في نفسه حزازة من عمر ما كان زوَّجه من ابنته الصغيرة السن وعمر كان في سن بين الخمسين والستين. ألا يكفي هذا دليلاً على صدق محبة علي لعمر ولأبي بكر؟ ففي هذا التزويج دليل على أنه راضٍ على خلافة عمر وراضٍ عن الذي استخلفه أبوبكر، فمن حقق النظر في أحوال الصحابة عَلِمَ يقيناً بلا شك ولا ريب أن أهل البيت كانوا محبين لأهل السنة بل وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة. ثم إن من دلائل صدق محبة أهل البيت للخلفاء الراشدين الثلاثة أن امرأة تسمى أسماء بنت عُميس كانت من الصحابيات زوجة جعفر الطيار رضي الله عنه وعنها وقد سُمي بالطيار لأنه بعدما قُتِل في معركة تسمى غزوة مُؤْتَة جاء جعفر مع جبريل وميكائيل إلى النبي فسلموا عليه فردَّ عليهم السلام وكانت زوجة جعفر بالقرب من رسول الله فقال لها رسول الله: "يا أسماء هذا جعفر مع جبريل وميكائيل سلَّموا عليَّ فرددت عليهم السلام وأخبرني أنه أصيب في مقدم جسده بسبعين إصابة أو سبعين ونيِّف وأنه قُطعت يده اليمنى ثم يده اليسرى فلما قُطعت يداه عوَّضهما الله عليه بجناحين يطير بهما في الجنة هذا إخبار رسول الله كان بوحي من الله قبل أن يأتيه الخبر عن الجيش ثم جاء الخبر عن الجيش بما يوافق ما قاله رسول الله أنه قطعت يده اليمنى فحمل الراية بيده اليسرى ثم قطعت يده اليسرى فأخذها زيد بن حارثة ثم قتل فأخذها عبد الله بن رُوَاحة.
فأسماء زوجتُه وَلَدَت له ولداً سمته محمداً ثم زوَّجها رسول الله من أبي بكر الصديق في غزوة حنين فولدت من أبي بكر ابناً له سمته محمداً أيضاً ثم بعدما توفي أبو بكر رضي الله عنه تزوَّجها علي رضي الله عنه، وقد روى الشعبي بأن أسماء افتخر ولداها محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر فقال كلٌّ أنا خير وأكرم أباً بحضور عليٍ فقال علي: "اقضي بينهما" فقالت أسماء: "ما رأيت شاباً أكرم من جعفر وما رأيت شيخاً أكرم من أبي بكر" فقال عليٌّ: "ما أَبقَيتِ لنا؟" انظروا إلى صدق علي لأبي بكر حتى بعد مماته فكيف في حياته.
فهذه الحادثة تُكذب أولئك وتشهد أن علياً كان يحب أبا بكر محبة ليس فيها نفاق ولا رياء لأنه لو كان لا يُضمر محبته كان غضب عندما قالت أسماء: "وما رأيت شيخاً أكرم من أبي بكر" بل قال: "ما أبقيت لنا؟".
فلا يكون الإنسان عند الله تعالى مقبولاً تقياً مرضياً مهما عمل من الحسنات ما دام في قلبه بغض واعتراض على أحد من الخلفاء الثلاثة لا يكون عند الله تعالى من الأخيار ولا حتى قريباً منهم.