وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى قال: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، الله تبارك وتعالى أنعم على عباده نعمتين ظاهرة وباطنة.

فمن النعم الظاهرة صحة الجسد من الحواس الخمس وغيرها فسلامة الجسد نعمة كبيرة يجب على العباد أن يشكروا الله تعالى عليها.

الثانية هي نعمة باطنة هي نعمة الإيمان بالله ويتبع ذلك من التسليم لله تعالى ومحبته والشوق إليه ومحبة أوليائه والعلم الذي محله القلب مع صحة الدماغ، فالعلم يتوقف على أمرين صحة القلب والدماغ فهما كنور الشمس مع العين لأن العين تحتاج إلى نور والانتفاع بالشمس من حيث الرؤية والنظر تتوقف على صحة العين وكذلك القلب والدماغ.
وأعظم هاتين النعمتين هي النعمة الباطنة التي هي الإيمان والإخلاص يتبع الإيمان، وإنما ذكر الله تعالى النعمة الظاهرة قبل الباطنة لأن النعمة الظاهرة هي التي يعرفها أكثر الناس. ومن الأدلة على أفضلية النعمة الباطنة على النعمة الظاهرة ما أخرجه الإمام أحمد بالسند الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يعطي الدنيا لِمن يحب ولِمن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا لِمن يحب"، وما رواه البخاري والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة كان بلاؤه على حسب ذلك، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض لقد حطت عنه خطاياه.

ثم النعم الدنيوية كنعمة المال فإنها قسمان: أحدهما محمودة العاقبة والأخرى عاقبتها وبال على العبد كالنعم التي أنعم الله بها على الكفار، فإنهم وإن تنعموا بها في الدنيا لكنها في الآخرة وبال عليهم لأنهم يسألون عنها. يسألون عن الشكر عليها وهم لَم يشكروا عليها حتى إنهم يسألون لِم لَم يسلموا فيزكوا، فإنهم لو أسلموا في الدنيا وزكَّوا وعملوا فيها من الصالحات لوجه الله تعالى كان لهم ذلك ذخرًا كبيرًا فيعاقبون على أنهم تركوا ذلك أي لَم يؤدوا حق الله الذي هو الزكاة بشرطه الذي أمر الله به وهو الإسلام والنية لأن صور الأعمال لا تعتبر عند الله، إنما الذي يعتبر عند الله ما عمله العبد على وفاق تعاليم الأنبياء والإسلام، والنية بلا إسلام لاغية.

فلما كان الكفار فاتهم هذا العمل فيما رزقهم الله من الأموال كانت نهاية تلك الأموال في الآخرة حسرة عليهم وندامة، فيتمنون أن لو كانوا مسلمين وفعلوا كما يفعل المسلمون فنالوا ثواب ذلك العمل. فإنهم يعاقبون ويعذبون حيث إنهم لَم يشكروا الله، وإن شكر الله الذي افترضه على عباده وهو صرف المال حيث أمر الله أن ينفق فيه بإيمان وإخلاص بالنية لله تعالى كما أُمر المسلمون.

ومن الدليل على ذلك ما جاء في صحيح مسلم أن عائشة رضي الله عنها سألته قالت: يا رسول الله إن ابن عمي عبد الله بن جدعان كان يكرم الضيف ويصل الرحم فهل ينفعه ذلك؟ قال: "لا إنه لم يقل يومًا ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين" أي أنه لم يكن على الإيمان وكل أعمال ذلك الرجل التي كان ألف بها والإحسان إلى الأقارب والأرحام وإكرام الغريب كل ذلك ضائع، هذا مع احتمال هذا الرجل عبد الله ابن جدعان مع احتمال أنه كان من أهل الفترة الذين لم يسمعوا بدعوة الرسل فيعفون من العذاب وليس له ثواب على أعماله تلك.

ثم إن الله تعالى بعث الرسل ليقتدي بهم العباد ومن لم يقتد بهم وشق طريقًا لنفسه برأيه فهو غير مقبول عند الله فلا يلومن إلا نفسه، أما من تدارك نفسه منهم بالإسلام فإنه من مات على الإسلام فلا بد أن تناله رحمة الله ويدخل الجنة. وكل ما عمله قبل إسلامه من الكفر والمعاصي هدمه الإسلام، ومن جدّ منهم بعد دخوله في الإسلام بالعمل الصالح فأدى الواجبات واجتنب المحرمات كان من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.