العبد يسأل يوم القيامة عن الأعمال التي يعملها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله الطيبين الطاهرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى قال: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ ذكر في هذه الآية العبد المكلف وهو البالغ العاقل وأنه يسأل عما يعمله بسمعه أي عمل سمعه وعن عمل بصره وعن عمل قلبه والقلب هو الفؤاد.

فذكره تعالى لهؤلاء الثلاث السمع والبصر والفؤاد ليس لأن الإنسان لا يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة، بل دلنا بذكر هؤلاء الثلاثة على أنه أي العبد يسأل عن عمل سائر جوارحه كاللسان والشم الذي هو محله الأنف واللمس باليد وعمل الرجل بخطاها أو غير ذلك. والعبد يسأل يوم القيامة عن أعماله التي يعملها بهذه الجوارح وما يعمله بقلبه، ليس العبد مسئولاً عن قلبه فقط بل يسأل عن هذه المذكورات كلها.
أما السمع فإن له أعمالاً حسنة وأعمالاً محرمة، أما أعماله الحسنة كاستماع العلم، علم الدين، وأما أعماله السيئة كاستماع ما حرّم الله من الأصوات وكذلك صوت الملاهي أي الآلات المطربة بمفردها. وكل ءالة تطرب بمفردها الاستماع إليها حرام كالعود فإنه يستحق العقاب على استماعه، والاستماع المحرم هو الذي يفعله العبد عن قصد كاستماع ءالات الملاهي المحرمة. أما مجرد السماع بلا قصد فليس حرامًا فإذا كان إنسان بمكان يُسمع فيه أصوات الملاهي المحرمة ولا يستمعها قصدًا إنما أذنه تسمع وهو كاره لهذا الفعل فليس عليه ذنب بهذا السماع الذي يحصل له بدون قصد لكنه إن ترك النهي وهو قادر على النهي فإن عليه إثْم، تَرَك إنكار المنكر لأنه لو كان هو لا يحب ولا يقصد الاستماع لهذه الأصوات المحرمة فإن عليه أن ينكر على من يفعله، هذا إذا كان يستطيع أن يغير هذا المنكر أي هؤلاء الذين يفعلون الأصوات المحرمة. وأما إن كان لا يستطيع وهو كاره بقلبه فتسمع أذنه فليس عليه ذنب، فمن كان يسمع في بيته أصوات الملاهي التي تكون عند بعض جيرانه وهو يكره ذلك ولا يستمعه إنما أذنه تسمع فليس عليه ذنب من سماعه لأنه لم يسمع عن قصد إنما يسمع بأذنه بدون قصد فليس عليه ذنب. لكنه إن كان يستطيع أن ينهي أولئك الذين يأتي هذا الصوت من عندهم وجب عليه، فإن لم يكن يستطيع فليس عليه ذنب.
أما الآلات التي لا تطرب بمفردها كالدف فإنها غير محرمة لذلك سمح رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الدف. وقد روينا في صحيح ابن حبان أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب بالدف بين يديك إن ردك الله سالِماً، فقال: "إن نذرت فأوفِ بنذرك وإلا فلا". فإنما سمح رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بذلك لأنه جائز، والضرب بالدف والاستماع إليه جائز لأنه ليس مطربًا بمفرده وإن كان يحصل شىء من الفرح به والاستئناس إليه لكنه لا يطرب كسائر ءالات الملاهي التي تطرب بمفردها كالعود.
ثم اختلف العلماء هل الضرب بهذه الآلات كبيرة أم صغيرة، فالقول الراجح المعتمد أن الاستماع لهذه الآلات من الصغائر. ومما يحرم استماعه مما هو من معاصي السمع الاستماع إلى حديث قوم يكرهون أن يستمع لحديثهم فإنه من الكبائر لأنه يحصل من ذلك إيذاء شديد فلذلك عدّه العلماء من الكبائر. رويناه في الصحيح "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة" والآنك هو الرصاص المذاب. فهذا ورد فيه وعيد شديد فهو من الكبائر هذا في غير الحال الذي يكون هذا الحديث لمكيدة المسلمين أي لمكيدة شخص مسلم أي لتدبير مكيدة لظلمه فإنه عندئذ يجوز أن يستمع لهذا الحديث بنية إنقاذ ذلك المسلم إن كان فردًا أم جماعة هذا إن علم أن هؤلاء الذين يتحدثون حديثهم لتدبير مكيدة لمسلم لكونهم عرفوا بالشر والظلم والمكر والخيانة كالجواسيس الذين يتجسسون لضر المسلمين.

وأما البصر فله أعمال حسنة وله أعمال سيئة فعمل البصر الذي هو حسنة يثاب عليه العبد يوم القيامة وذلك كالنظر في خلق الله تعالى من الأرض والسموات وما فيهما من العجائب التي هي دلالات على قدرة الله وحكمته وعلمه. فقد ورد في الحثّ على التفكر في خلق الله تعالى خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذم لمن لا يتفكر في خلق الله. الرسول صلى الله عليه وسلم مدح الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض وذم الذين لا يتفكرون.

وأما العمل المحرم من أعمال البصر فكثيرة منها كبائر ومنها صغائر، أما الكبائر من أعمال البصر فكأن ينظر إلى مسلم بعين الاحتقار ومن ينظر إلى المسلم الفقير أو المبتلى بعاهة في جسمه نظر الاحتقار فقد وقع في ذنب كبير. وأما الصغائر من أعمال البصر فكأن ينظر إلى أجنبية بشهوة أي للتلذذ فإن ذلك من المحرمات لكنه من الصغائر ليس من الكبائر. فمن رأى من أخيه المسلم هفوة بالنظر إلى امرأة بالنظر إلى النساء فلا ينبغي أن يُهشِمه لذلك لا ينبغي أن يشهره بين الناس. مثلاً رجل معروف بالخير والصلاح حصلت منه هذه الهفوة فمن علم منه لا ينبغي أن يهشمه، لا ينبغي أن يقول بين الناس فلان تصبب على النساء لا ينبغي هذا، هذا التهشيم من أجل معصية صغيرة التي لا يخلو منها إنسان إلا الأنبياء وبعضًا من الصالحين.

الأنبياء يعيشون من غير أن تحصل منهم هفوة كهذه، هذا في حق الأنبياء. أما غير الأنبياء فلا يستبعد من ولي من أولياء الله أن يحصل منه ذلك مرات ومرات. وقد يؤدي ببعض الناس الجهل بمراكب الظنون إلى أن يستعظم ذلك فيجعله كالكفر بمثابة الكفر. إن كثيرًا من الجهال إذا رأوا من عالم أو من شخص معروف بالديانة والخير والفضل جعلوا ذلك كأنه نزل بالكفر فيهشمونه تهشيمًا ويلحقون به لعنة الله.

فالذي يهشم إنسانًا مسلمًا ديِّنًا من أجل أنه رأى منه مثل هذه الهفوة فإنه يستحق لعنة الله لأن هذه ليست من المعاصي الكبيرة التي تثبت الفسق على فاعلها. فقد رُوينا بالصحيح للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتته امرأة في حجة الوداع وهو بمنى امرأة خثعمية شابة وضيئة أي جميلة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة من مسائل الحج وكان ابن عم الرسول أحد أولاد عمه العباس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على البعير فجعل ينظر إلى هذه المرأة أعجبه حسنها وجعلت تنظر إليه أعجبها حسنه فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن صرف وجه ابن عمه إلى الشطر الآخر. لم يهشّمه ولا هشّمها ولا قال لها أنتما حاجَّان فكيف يحصل منكما النظر لشهوة. ثم سأله عمه العباس فقال يا رسول الله: لِم لويت عنق ابن عمك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت شابًا وشابة وخشيت عليهما من الشيطان" الحديث رواه البخاري والترمذي، الترمذي رواه أطول مِما رواه البخاري. فبهذا الحديث الصحيح دليل على أن النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة ليس مِما يفسد الأعمال حتى لو حصل من الحاج في أثناء حجه ذلك فليس بِمفسد لحجه ولا ينبغي أن يهشَّم لذلك تهشيمًا كما يفعل بعض الجهال في هذا العصر إذا رأوا عالِماً أو إنسانًا دينًا يهفو هفوات كهذه بالنظر إلى النساء، يجعلون ذلك عليه مهمزًا كبيرًا يهشمونه تهشيمًا كأنه ارتكب أكبر الكبائر وهذا من نتائج الجهل بمراتب الأحكام الشرعية. وإنّما علينا أن نعرف الكبائر والصغائر ولا نجعل الصغائر بمرتبة الكبائر مع أنه يجب إنكار كل من الكبائر والصغائر ولا نجعل الصغائر بمرتبة الكبائر.
في هذا الحديث دليل أيضًا على أن وجه المرأة ليس عورة لأنه لو كان عورة يجب ستره ما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقول لها أنت شابة جميلة كيف تكشفين في هذا المشهد العظيم لأن منى من أكبر المشاهد التي تحصل فيها الزحمة.
وأما قول بعض الناس أن سكوته للمرأة لأنها كانت في الحج والنساء في الحج يجب عليهن ألا يسترن وجوههن فهذا جواب صحيح لأنه لو كان ستر وجه المرأة عبادة واجبة لتأكد وجوبها في الحج، لازداد وجوبًا في حال الحج.
أما أمهات المؤمنين اللآتي فرض الله عليهن خاصة ستر وجوههن بعد نزول ءاية الحجاب فكن إذا خرجن للحج إذا حاذين الركب سدلن على وجوههن، أما إذا جاوزن الركب رفعنا السدل عن وجوههن، هذا خاص بأمهات المؤمنين كما قال أبو داود رحمه الله في سننه. وأما قول بعض إنه في الزمان الأول كانت الفتنة قليلة والتقوى في المسلمين كثيرة ولم يكن واجبًا على النساء إذا خرجن ستر وجوههن أما بعد أن كثرت الفتنة فقد صار واجبًا فهذا ليس بدليل، لا.
المحققون والفقهاء من شافعية ومالكية قالوا لا يجب عليهن تغطية وجوههن وعلى الرجال غض البصر وهذا هو القول الصحيح العدل.

وأما القلب فمن معاصيه الكبيرة الرياء وهو أن يعمل العبد العمل الصالح في قراءة أو صدقة أو حج أو غير ذلك ليحمده الناس أو لينظروا إليه بعين الإجلال فهذا من الكبائر هذا أشد أعمال القلوب ذنبًا بعد الكفر. الرياء هو أشد أعمال القلوب ذنبًا، فمن ذلك ترك السنة أي ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاعتقاد ومن حاد عن عقيدة رسول الله التي كان عليها هو وصحابته فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا كأن يعتقد أن مرتكب الكبيرة لا ينظر الله له إذا مات ولم يتب فإن ذلك مخالف لعقيدة أصحاب رسول الله. أصحاب رسول الله ما كانوا يكفّرون مسلمًا بذنب ولا يرون مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة مخلدًا في النار بل ولا واجبًا دخوله النار بل يعتقدون أن الله تبارك وتعالى يغفر لمن يشاء منهم ويعذب من يشاء منهم. ومن عذبّه منهم فلا بد أن يخرجه ويدخل الجنة، كانوا على هذا المعتقد بلا خلاف بينهم.

وكذلك لا يجوز مخالفة اعتقاد أن الله تعالى يراه المؤمنون بعد أن يدخلوا الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة ولا حيز ولا مكان، فهذا أيضًا كان معتقد الصحابة فمن خالفهم في ذلك فاعتقد أنه لا يرى المؤمنون ربهم في الآخرة كما لا يرونه في الدنيا لقد خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشد من هذا اعتقاد أن الله تعالى جسم نوراني، هذا ضلال وكفر ومن وقع في ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.