كُتِبتُ نبيًّا وءادَمُ بينَ الرّوحِ والجَسد

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله وغفر له ولوالديه : الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى ءاله الطيبين الطاهرين. أمّا بعدُ فإن كلمةَ الإنسانُ حَيوانٌ ناطِق معناهُ الإنسانُ شىءٌ ذو روح، هذا كلامٌ صحيح، الملائكةُ حيوانٌ ناطقٌ والجنّ حيوانٌ ناطقٌ كلُّ ذي روح يتَكلّم فهو حيَوانٌ ناطِقٌ، ومُقابلُ الحيَوان الجماد، فالأجرامُ قِسمان جِسمٌ جمادٌ أي لا يَنطِقُ ولا روحَ فيه وجِسمٌ حيوانٌ. ثم الجِسم الذي هو حَيوان ينقَسِم إلى قِسمَين ناطق وغيرُ ناطِق، والإنسانُ مِنَ الجِسم الذي هو ناطِق، حيوانٌ معناه "ذو الرّوح" والنّاطِق هو الذي ينطِق النّطق العاديّ الذي نحن نألَفُه ونعرفُه، فمن اعتقَد أنّ ءادم ليسَ بنَبيّ فهو كافِر ومَن اعتقَد أنّ قبلَ آدم كانَ نبيّ ظاهراً وباطنًا فهوَ كافر. أمّا ما ورد في الحديث في حقّ سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بأنّه قال : "كُتِبتُ نبيًّا وءادَمُ بينَ الرّوحِ والجَسد" رواه الطبراني. ذاكَ لا يُعبّر عن جسَدِه عن هَيكَلِه الجِسماني مع رُوحِه لا، ذاكَ تفسيره أنّ الرّسول كانَ لَما كانَ آدم بينَ الرّوح والجسَد أي لم تتِمّ خِلقته، ما صارَ إنسانًا تامًّا، أي قبلَ أن يركّب فيه الرّوح، قبلَ أن يركَّب في ءادم الرّوح كان سيّدنا محمّد نبيًّا أي كانَ مشتَهرًا بينَ الملائكة بوصف النبوّة والرسالة، كانوا يعرفونَ أنّه سيأتي نبيّ اسمُه محمّد. باعتِبار هذا الوصف كانَ الرسولُ نبيًّا بينَ الرّوح والجَسد لا بمعنى أنّ سيدّنا محمدًا كانَ مخلوقًا في ذلكَ الوقت، لم يكن الرسولُ مخلوقًا لَما كانَ ءادمُ طينًا لم يُركّب فيه الرّوح، لأنهُ ظَلّ طِينًا في الجنّة زمانًا ثم تحوَّلَ هذا الهيكلُ البشَريّ الذي هو طِينٌ يابس إلى لحم وعَظم ودم ثم ركّب فيه الرّوح. هذا معنى حديث الرّسول : " كنتُ نبيًّا وءادمُ بينَ الرّوح والجسد" رواه الطبراني. كِلا اللّفظين لهذا الحديث صحيح، وهذا الحديثُ له مُقدّمة رجُلٌ يُقال له مَيسَرةُ "الفَجر" قال: مَتى كُتِبتَ نَبيًّا يا رسولَ الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " كُتِبتُ نَبيًّا وآدَمُ بينَ الرّوح والجَسَد". وفي لفظٍ "متى كنتَ نَبيًّا يا رسولَ الله" قال عليه الصلاة والسلام: "كنتُ نبيًّا وءادمُ بينَ الرّوح والجسَد"، المعنى أنا كنت مشهوراً بوصف الرسالةِ في ذلكَ الوقت الذي لم يتمّ تَكوين هيكَل آدم. قبلَ أن يتمّ تكوينُ هيكل ءادم كانَ سيّدنا محمد مشهوراً بوَصف الرّسالة عندَ الملائكة، هذا المعنى ليسَ المعنى أن سيّدنا محمّداً صلى الله عليه وسلم كانَ مخلوقًا قبلَ ءادم. أمّا رُوحُه صلّى الله عليه وسلّم فيَجوز أن يكونَ خُلق قبلَ روح ءادم، أمّا هيكلُه المؤلّف مِن جسده ورُوحِه هذا بَعدَ ءادم بل بعدَ كلّ الأنبياء، بعدَ ارتفاع المسيح إلى السّماء بما يَقرُب مِن سِتّمائة سنة خُلِق سيّدنا محمد.
ءادم ما خُلِق دَفعة واحدة مركّبًا مِن رُوحٍ وجسَد في لحظةٍ واحِدة، بل قبَض الله تعالى تُربَة ءادَم مِن جميعِ أجزاءِ الأرض أي أمَرَ ملَكًا مِن ملائكته بأنْ يَقبِضَ تُربةً مِن جميع أجزاءِ الأرض مِن أسودِها وأبيضِها وسَهلِها وحَزْنها مِن جميع أنواع التّراب. هذا الملَك بأمرِ الله قبَض قَبضَةً ثم رفَعَها إلى الجنّة فعُجِنَت هناك، هذه القَبضة عُجِنَت بماءِ الجنّة فظَلّ ءادمُ طِينًا بُرهةً من الزمن لا يقلُّ عن أربعينَ يومًا ظَلّ طينًا ثم صارَ هذا الطّينُ يابسًا كالفَخّار ثم بَعدَ ذلكَ بمدّةٍ يَعلَمُها الله تحَوّل إلى لحم وعَظمٍ ودَم. ثم بعدَ ذلك نفخ اللهُ فيه روحَه أي أدخَل فيه روحَه أي الرّوحَ التي هو خلَقَها وشَرّفَها وكرّمَها، وعن ذلك قال الله تعالى : ﴿فإذا سوّيتُه ونَفخْتُ فيه مِن رُوحِي فقَعُوا لهُ ساجِدين﴾ اللهُ تعالى خاطَب الملائكةَ ﴿فإذا سوّيتُه﴾ أي هذا البَشر ﴿ونَفخْتُ فيه مِن رُوحِي﴾ أي الرّوحَ التي هي مِلْكٌ لي وخَلْقٌ لي مُشَرّفةٌ عندي ﴿فقَعُوا﴾ أيّها الملائكةُ لهُ أي لهذا البشَر ﴿ساجِدين﴾ أي تعظِيمًا وإكْرامًا.
قالَ العلماءُ مَن ادّعَى النّبوةَ أو صَدّق مَن ادّعَاها - أي بعدَ محمّد - فهوَ مُرتدّ كافر. المسيحُ كانَ مُنَبَّئًا قَبلَ محمّد بسِتّمائة سنةٍ تَقريبًا وسيَنزلُ كمَا أَخبَر سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام، ينزلُ المسِيح مِن السّماء إلى الأرض ويَحكُم بشَريعةِ محمّد لا بشَريعتِه لأنّ شَريعتَه انتَسَخت. كلّ شَرائع الأنبياء انتَسَخت، ما كانَ في بعض الشّرائع السّابقةِ أي قبلَ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم حَرامًا ثم أُحِلّ في شريعةِ محمّد فهو حلالٌ لأنّ شَرعَ محمّد نسَخ ما قَبلَه.
الله تعالى أوحَى إلى كلّ نبيّ بأنه يأتي محمّد فمَن أدركَ محمّدًا فلْيؤمِن به ولْيَنصُره، أخَذَ العَهد والميثاقَ على كلّ نبيّ، كلُّ نبيّ كانَ يَعرفُ محمّدًا، وهَذا مِن علُوّ مَقام سيّدنا محمّد عندَ الله، قال الله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
اللهُ تعالى يَعلَم أنّ محمّدًا لا يأتي إلا بعدَ ءالافٍ مِن الأنبياء يَسبقُونَه، لكن تَنويهًا لشَرف محمّد أوحَى إلى كلّ نَبيّ بأنّهُ سَيأتي محمّدٌ فمَن أدركَه فلْيؤمِن به ولْيَنصُرْه. فما مِن نَبيّ إلا وقَد علِم بالوَحْي مِن الله أنّ نبيًّا اسمُه محمّد سيأتي، وكذلك كلّ نبيّ أَخبَر أُمّتَه حتى الجِنّ كانوا يَعرفون، المؤمنون منهم، بعضُهم.
الجنّ طِوال الأعمار ليسُوا مثلَنا كانَ جِنيّ في زمَن المسيح يمكن أن يكون خُلِقَ قبلَ المسِيح بألفِ سنَة أو ألفَي سنة أو أكثَر عاشَ إلى زمَنِ خُلِق سيّدنا محمد ثم بُعِث، نزَل عليه الوحي، ثم أوّلَ ما ظهَرَ سيّدُنا محمّد في مكّة قبلَ أن يَنتَشرَ خبرُه كانَ عَلِم بخبر سيّدنا محمّد، أنّ هذا النبيّ المنتَظر المبشَّر بهِ ظهَر في مكّة ووجَد ركْبًا مجتَازينَ قاصِدينَ مكّة، هو كانَ بأرضٍ مِن أرضِ اليَمن وجَد ركْبًا مِن البشَر قاصدين إلى مكّةَ وهم كفّار مُشركون جاهليّة، هذا الجنيّ كان عندَه خَبر كانَ اجتَمع بالمسيح عيسى قبلَ أن يُرفَع إلى السّماء فسمِع كلامَه. ومِن جُملة ما سمِع أنّ محمدًا سيأتي فمَن أدركَه فلْيؤمن به، ثم هذا الرّكْب نزلُوا بأرضٍ بريّةٍ فنامُوا إلا واحِدًا منهُم يُقال له "الجَعدُ بنُ قَيس" مِن بني مُراد هذا سمِع صوتًا لا يرَى شَخصَه يُخاطِبُه بكلام شِعر أبياتٍ مَضمونها أنّه يُوصِي هؤلاء الرّكْب بأنهم إن وصلُوا إلى مكّة يبلغوا عنه. قال لهم:
ألا أيّها الركْبُ المعَرّس بلّغُوا *** إذا ما وقَفتُم بالحَطِيْمِ وزَمزمَا
محمّدًا المبعوثَ مِنّا تحيّةً *** تُشَيّعُه مِن حَيثُ سَارَ ويمّمَا
وقُولُوا لهُ إنّا لدِينِك شِيعَةٌ *** بذلكَ أوصَانا المسيحُ بنُ مَريمَا
وكانَ ذلكَ سبَبُ إسلام الجَعْد بنِ قَيسٍ المرادِيّ، لَما وصَلُوا إلى مَكّةَ سَألوا بعضَ أهلِ مَكّة عن محمّد، قبلَ ذلكَ ما كانُوا سمعوا لأنّ بين مكّةَ واليَمن مسَافةٌ بعيدَة.
الحاصلُ أنّ الأنبياء كلَّهُم كانَ عندَهم عِلْمٌ بمحَمّد، وذِكْرُ نَعْتِ محمّدٍ في التّوراة الأصليّة. وفي الإنجيل الأصليّ كانَ مذكوراً نَعتُ محمّدٍ ونَعتُ أُمّتِه، مدَحَ الله تعالى في التّوراة والإنجيل أمّةَ محمّد، الإنجيلُ باللّغة السُّريانية والتوراةُ باللّغة العِبْرية.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا والحمد لله رب العالمين وصل اللهم على النبي وءاله وسلم.