إذَا سأَلتَ فاسْألِ اللهَ وإذا استَعنتَ فاستَعِن باللهِ - الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله وغفر له ولوالديه : الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين.
وبعد، فهناكَ أيضًا أثَرٌ يتَشبَّثُ هؤلاءِ بهِ لتَحريم التّوسلِ بالنبي بعدَ وفَاتِه، عندَهُم قاعِدةٌ ما أَنزَل الله بها مِن سُلطَان وهيَ قَولهُم: "لا يجُوزُ التّوسُّل إلا بالحيِّ الحاضِر" مَن وَضعَ لهم هذه القَاعِدة؟ ابنُ تَيمِية، ولم يَقُلهُ عَالم مسلِمٌ قَبلَ ذَلك، ما قالَ هذه الكلِمَةَ قَبلَ ابنِ تَيميةَ أحَدٌ مِن عُلماء الإسلام، قال:"لا يجُوز التّوسل إلا بالحيِّ الحاضِر"، ماذا يعني بهذا؟ يَعني بهذا أنّك إن توسَّلتَ بنَبيّ أو وليّ بَعدَ وفَاتِه حَرامٌ بَل شِركٌ وكُفرٌ، وإنْ تَوسّلتَ بالنّبي أو غَيرِه مِنَ الأولياءِ في غَيرِ مَجلِسِه هوَ في بلدٍ وأنتَ في بلَدٍ أو أنتَ في بَيتِكَ وهوَ في مَكانِه فإذا تَوسّلتَ بهِ في هذِه الحالِ عندَه أي عند ابن تيمية أَشرَكتَ وكَفَرتَ. وهؤلاء الذينَ هُم فِيما بَينَ النّاسِ اليَوم هؤلاءِ أخَذُوا بتِلكَ القَاعِدَة التي ما أَنزَل اللهُ بها مِن سُلطان، التي لم يَقُلهَا رَسُولُ اللهِ ولا صَاحِبٌ مِن أصحابِ رسُولِ الله ولا إمامٌ مجتَهدٌ أبو حنيفة أو مالك أو أحمد بنِ حَنبل أو الشافعِيّ أو غَيرهم، ما قَالها أحَد. هنَا مَسألَةٌ يَنبَغِي الانتباهُ لها هُم يَفتَرُونَ على أبي حنيفة ماذا يقولون؟ يقولون أبو حنيفةَ قالَ لا يجوزُ أن يُسأَل اللهُ تعالى بحقِّ فُلان، أن يُقال أسألُكَ بحقِّ فلان. أبو حنيفَة يحتَمِلُ أن يكونَ قالَ هذِه الكلِمةَ ويحتَمِلُ أنّه لم يقُلها، فإنْ قالها فَسَّرَها جمَاعَتُه بأنّ مُرادَه بمنعِه مِن هذِه العِبارة بحقِّ فُلان أن هذِه الكلمةَ تُوهِمُ أنّ على الله حَقًّا لازِمًا لخَلقِه لعِبادِه، والله تَعالى ليسَ مُلزَمًا لأحدٍ بشَىء. الذينَ يَعمَلُونَ الحسَناتِ المطِيعُونَ لهُ مِنَ الأنبياء والأولياء فإنما أطَاعُوه بتَمكِينِ الله تبارك وتعالى لهم، هوَ علَّمَهُم خَلَقَ فِيهِمُ الإدراك والعِلمَ وهوَ أَعطَاهُم قُوّةَ الكلامِ وهوَ أعطَاهُم قُوّةَ المشيِ، كلّ ما يَفعَلُونَهُ مِنَ الحسَنات فمِنْ فَضلِ اللهِ تعالى. مِن أينَ يكون الله تعَالى مُلزَمًا لأحَدٍ مِن خَلقِه! لا للأنبياء ولا للأولياء، اللهُ ليسَ مُلزَمًا، ليسَ مُلزَمًا لأحَدٍ أن يُعطِيَهُ شَيئًا، إنما هو مُتَكرِّمٌ مُتفَضِّلٌ، الثّوابُ الذي يُثِيبُه للطّائعِينَ مِن عبادِه الأنبياء والأولياء فَضلٌ منهُ، ليسَ هوَ مُلزَمًا أن يُعطِيَهُم، لماذا؟ لأنّهُ هوَ خلَقَهُم هوَ أَوجَدَهُم مِنَ العَدم ثم هوَ خلَقَ فِيهِم هذِه الحركات والسّكنَات التي هيَ مِنَ الحسَنات، فإذًا لمن الفَضلُ؟ الفَضلُ لهُ علَيهِم، ليسَ لهم على الله فَضلٌ، الأنبياءُ والأولياءُ والملائكة كلُّهم ليسَ لهم على اللهِ فَضلٌ بل اللهُ تَبارك وتعالى هو المتفَضِّلُ علَيهِم هو خلَقَهُم وخلَقَ عقُولَهُم وخَلَق ألسِنَتَهُم التي يَذكُرونَه بها ويُسَبِّحُونَه بها ويُقدِّسُونَه بها هو خَلَق فِيهمُ النُّطقَ. الإنسانُ أوّلَ ما يُولَدُ يَنطِقُ؟ لا يَنطِقُ، مَن الذي يَخلُق فيه بعدَما يَقضِي زَمانًا قُوّةَ النّطقِ؟ اللهُ تَعالى هوَ الذي يخلُق فيهِ قُوّةَ النّطقِ، ثم مَن الذي يُلهِمُ الإنسانَ أن يَعمَل الخير؟ اللهُ تَعالى هو الذي يُلهِمُ الإنسانَ، فمِن هُنا يُعلَمُ أنّ الله تبارك وتعالى ليسَ مُلزَمًا لأحَدٍ بواجِبٍ مِنَ الواجِبات بحيثُ إذا لم يَفعَلْهُ يَكونُ ظَالِما، حاشَا للهِ. اللهُ تَعالى لا يجبُ عَليهِ شَىء على وَجه اللّزُوم لأحَدٍ مِن خَلقِه لا للأنبياء ولا للأولياءِ، بل هو الذي تكَرَّمَ علَيهِم وتفَضَّل علَيهِم. هو الذي أَلهمَهُم فِعلَ الخَيراتِ، وهوَ الذي أَقدَرَهُم على فِعلِ الخيرات. هَذا كلامُ جماعةِ أبي حنيفةَ، قَالُوا الإمامُ أبو حنيفةَ إنما مَنَع مِن قَولِ "أَسأَلُكَ بحَقِّ فُلان لأنّ هذِه الكلِمةَ تُوهِمُ أنّ اللهَ تَعالى مُلزَمٌ لخَلقِه لأنْ يُعطِيَهُم شَيئًا، وهوَ لَيسَ مُلزَمًا، هَذا مَعلُومٌ أنّ الله ليسَ مُلزَمًا بأنْ يُعطِيَ أحَدًا مِن خَلقِه الثّوابَ في الآخِرة، ليسَ مُلزَمًا إنما هو متَفَضِّلٌ على عِبادِه الطّائعِينَ مِنَ الأنبياء والأولياء. جماعةُ أبي حنيفة قالُوا إنما منَعَ الإمام مِن قَولِ "أَسأَلُكَ بحقِّ فُلان" لأنّ كلِمةَ "بحقِّ فُلان" تُوهِمُ أنّ الله مُلزَم. أحَدُ رؤوس المشبهةِ في دمشقَ الشّام قَبلَ أكثَر مِن عِشرينَ سَنة كُنّا في مجلِس مُنَاظَرة مَعه قال: "أمّا التّوسُّل فقَد كفَانا المؤنَةَ أبو حَنِيفَة"معناه أبو حنيفَة حَرّم التّوسّلَ فنَحنُ اكتَفينا بذلكَ. أينَ حَرّم أبو حنيفةَ التّوسّل؟ إنما مَنَع مِن هذِه الكلمةَ فقَط "أَسأَلُكَ بحقِّ فُلان"، مِن هذِه مَنَعَ. مَا قالَ لا يجُوزُ التّوسّل بالأنبياء والأولياءِ في غَيرِ حُضورِهم وفي غَيرِ حَالِ حَياتهِم، ما قال هذا أبو حنِيفةَ. ثم لو فَرضْنا أنّ أبَا حنِيفَة قال هذَا فلَيس في هذا حُجّة، ليسَ فيه حُجّة لأنّه ورَدَ الحديث الصّحيح الذي يُثبِتُ لنَا جَوازَ أن نقولَ "اللّهمّ إني أسألُكَ بحَقِّ فُلان ورَدَ حدِيثٌ حسَنُ الإسنادِ حسّنَه حَافِظَان مِن حُفّاظِ الحديث، أحدُهما الحافظُ ابنُ حجَر والآخَرُ الحافِظُ أبو الحسَنِ المقدِسيّ. وهَذا الحديثُ هوَ أنّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَن خَرجَ إلى المسجِد فقالَ اللّهُمّ إني أسألكَ بحقِّ السّائِلينَ علَيكَ وبحقِّ ممشَايَ هذا فإني لم أخرُجْ أشَرًا ولا بَطَرًا ولا رِياءً ولا سُـمـعَةً".... الحديثَ وفيهِ أنّ الذي قالَ هذا وهوَ ذاهِب إلى المسجِد يَستَغفِرُ لهُ سَبعُونَ ألفَ مَلَك، هذا الحديثُ قالَ الحافظ ابنُ حجَر حسَنٌ كذلكَ الحافظُ الآخَر قالَ عنهُ حسَنٌ.
بوجُودِ هذا الحديثِ لو كانَ أبو حنيفةَ قَال هذا الشّىءَ بالمعنى الذي هُم يتَوهّمُونَهُ أو بالمعنى الذي قالَهُ جمَاعتُه ليسَ فيهِ دليلٌ على تحريم أنْ يقولَ المتوسِّلُ في تَوسُّلِه اللّهمَّ إني أسألك بحقِّ محمّد أو بحقِّ إبراهيم أو بحقِّ أبي بَكرٍ أو بحقِّ عليِّ بنِ أبي طالب ونحو ذلكَ مَا فيه دليلٌ على تحريم ذلك. أنَّى يكونُ فيه دليل؟! "إذا جَاءَ الخبرُ ارتفَعَ النّظَر" هكذَا قالَ أهلُ العِلم، معناهُ إذا جاءَ الحديثُ عن رسولِ الله ارتفَع النّظَرُ يَعني القِياس والاجتِهاد بَطَل، بطَلَ الاجتهادُ والقِياسُ معَ وجُودِ حديثِ رسولِ الله. معَ وجُودِ هذا الحديثِ نحنُ نقولُ ذاكَ الذي يُروَى عن أبي حنيفَة ما فيهِ دليلٌ، هذا الرّجُل الذي ذكَرتُ لكُم أنه مِن رؤوس المشبهة قالَ لي في مُناظَرةٍ في دِمَشق "أمّا التّوسُّل فقَد كفَانا أبو حنيفةَ المؤنَة" كلامٌ لا طائلَ تحتَه بل هوَ هبَاءٌ مَنثُور.