الْفَرْقُ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ

بسم الله الرحمن الرحيم

اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ وَالرَّسُولَ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَحْيِ، فَكُلٌّ قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ لِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَنَّ الرَّسُولَ يَأْتِي بِنَسْخِ بَعْضِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَوْ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ.
الشَّرْحُ الرَّسُولُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ وَيُوحَى إِلَيْهِ بِنَسْخِ بَعْضِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَيْ بِنَسْخِ بَعْضِ الأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ حُكْمٌ جَدِيدٌ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ هَذَا يُقَالُ لَهُ رَسُولٌ، أَمَّا الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ شَىْءٌ جَدِيدٌ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ كَأَنْ أُمِرَ فَقِيلَ لَهُ بَلِّغْ شَرِيعَةَ مُوسَى مَثَلًا، فَهَذَا يُقَالُ لَهُ نَبِيٌّ وَلا يُقَالُ لَهُ رَسُولٌ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عَدَدَ الأَنْبِيَاءِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ فِيهِمْ ثَلاثُمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَسُولًا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] وَصَحَّحَهُ، أَوَّلُهُمْ سَيِّدُنَا ءَادَمُ وَءَاخِرُهُمْ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ وَخِيَارُهُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى ثُمَّ نُوحٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا حَدِيثُ: "لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ [فِي صَحِيحَيْهِمَا] فَمَعْنَاهُ لا تَدْخُلُوا فِي التَّفْضِيلِ بِآرَائِكُمْ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ بِالرَّأْيِ لا يَجُوزُ إِنَّمَا التَّفْضِيلُ بِالْوَحْيِ فَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَهُمُ الأَفْضَلُونَ أَمَّا نَحْنُ بِآرَائِنَا لا نُفَضِّلُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ يُوحَى إِلَيْهِ لِيَتَّبِعَ شَرْعَ رَسُولٍ قَبْلَهُ وَلِيُبَلِّغَهُ.
الشَّرْحُ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ هُوَ الصَّحِيحُ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ فَلْيُحْذَرْ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ كَالإِمَامِ الْجَلِيلِ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ وَالأَشَاعِرَةِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ [فِي أُصُولِ الدِّينِ] وَالْقَوْنَوِيِّ شَارِحِ الطَّحَاوِيَّةِ [فِي الْقَلائِدِ شَرْحِ الْعَقَائِدِ] وَالْمُنَاوِيِّ [فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ "كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا"، ثُمَّ أَيْضًا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الرِّسَالَةَ يُوصَفُ بِهَا الْمَلَكُ وَالْبَشَرُ وَالنُّبُوَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا فِي الْبَشَرِ.
الشَّرْحُ الرُّسُلُ أَفْضَلُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ غَيْرِ الرُّسُلِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ رَسُولًا نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا، ثُمَّ الرِّسَالَةُ يُوصَفُ بِهَا الْمَلَكُ وَالْبَشَرُ أَمَّا النُّبُوَّةُ فَلا تَكُونُ إِلَّا فِي الْبَشَرِ، الْمَلائِكَةُ فِيهِمْ رُسُلٌ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَهُوَ رَسُولٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ كَذَلِكَ يُوجَدُ غَيْرُهُ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى الْمَلائِكَةِ لِيُبَلِّغَ الْوَحْيَ، اللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُبَلِّغُوا طَائِفَةً مِنَ الْمَلائِكَةِ بِأَمْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/75] اللَّهُ يَخْتَارُ مِنْ بَيْنِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ رُسُلًا فَجِبْرِيلُ سَفِيرٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَلائِكَةِ أَيْضًا.
تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ إِنَّ مِمَّا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ التَّبْلِيغَ فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ مَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾.
فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي هَذِهِ الآيَةِ قَرَأَ وَتَلا، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ يَزِيدُ الشَّيْطَانُ عَلَى مَا قَالُوهُ مَا لَمْ يَقُولُوهُ لِيُوهِمُوا غَيْرَهُمْ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ قَالُوا ذَلِكَ الْكَلامَ الْفَاسِدَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ فَقَدْ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ [فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ] يَكْفُرُ مَنْ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَجْرَى كَلامًا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ هُوَ مَدْحُ الأَوْثَانِ الثَّلاثَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَكِّنَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ مِنْ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَدْحَ الأَوْثَانِ، وَإِيضَاحُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ ذَاتَ يَوْمٍ سُورَةَ النَّجْمِ فَلَمَّا بَلَغَ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ انْتَهَزَ الشَّيْطَانُ وَقْفَةَ رَسُولِ اللَّهِ وَسَكْتَتَهُ فَأَسْمَعَ الشَّيْطَانُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِقُرْبِ النَّبِيِّ مُوهِمًا لَهُمْ أَنَّهُ صَوْتُ النَّبِيِّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى "فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ ءَالِهَتَنَا قَبْلَ الْيَوْمِ بِخَيْرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ لِتَكْذِيبِهِمْ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَجِّ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ﴾ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ أَيْ يَكْشِفُ اللَّهُ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ ابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَتَّبِعُ مَا يَقُولُهُ الشَّيْطَانُ وَمَنْ لا يَتَّبِعُ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْعَدُ هَذَا.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]: "كَانَ النَّبِيُّ يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ وَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً" أَنَّ مَنْ سِوَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُمْ مِنْ سِوَى قَوْمِهِ إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الأَنْبِيَاءَ غَيْرَ نَبِيِّنَا أُرْسِلُوا إِلَى أَقْوَامِهِمْ أَيْ أَنَّ النَّصَّ لَهُمْ كَانَ أَنْ يُبَلِّغُوا قَوْمَهُمْ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لا يُبَلِّغُونَ سِوَى قَوْمِهِمْ لِأَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ أَوْكَدُ.