مَا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ

بسم الله الرحمن الرحيم

يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَتَجِبُ لَهُمُ الْفَطَانَةُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْبَلادَةُ وَالْغَبَاوَةُ، وَتَجِبُ لَهُمُ الأَمَانَةُ.
فَالأَنْبِيَاءُ سَالِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لَهُمْ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ، وَيَجِبُ لَهُمُ الصِّيَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْجُبْنُ وَكُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ.
الشَّرْحُ يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفًا بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ بِالأَمِينِ لِمَا عُرِفَ بِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالنَّزَاهَةِ، لَمْ تُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ كُلَّ الْمُدَّةِ الَّتِي قَضَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَالْكَذِبُ نَقْصٌ يُنَافِي مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ.
وَيَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الْفَطَانَةُ أَيِ الذَّكَاءُ فَكُلُّهُمْ كَانُوا أَذْكِيَاءَ فُطَنَاءَ أَصْحَابَ عُقُولٍ كَامِلَةٍ قَوِيَّةِ الْفَهْمِ. وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْبَلادَةُ وَالْغَبَاوَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ بَلِيدٌ أَيْ مَنْ هُوَ ضَعِيفُ الْفَهْمِ لا يَفْهَمُ الْكَلامَ بِسُرْعَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكَرَّرَ عَلَيْهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَلا مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ لِمَنْ يُعَارِضُهُ بِالْبَيَانِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ غَبِيٌّ أَيْ فَهْمُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَغْبِيَاءَ لَنَفَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ لِغَبَاوَتِهِمْ، وَاللَّهُ حَكِيمٌ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِيُبَلِّغُوا النَّاسَ مَصَالِحَ ءَاخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالْبَلادَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ.
وَيَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الأَمَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالأَحْوَالِ فَإِذَا اسْتَنْصَحَهُمْ شَخْصٌ لا يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ فَيُوهِمُونَهُ خِلافَ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا وَضَعَ عِنْدَهُمْ شَخْصٌ شَيْئًا لا يُضَيِّعُونَهُ.
وَالأَنْبِيَاءُ سَالِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ أَيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ النَّفْسِ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لَهُمْ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي لَكِنْ يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الأَشَاعِرَةِ كَالسَّنُوسِيِّ فِي كُتُبِهِ الثَّلاثَةِ الْكُبْرَى وَالْوُسْطَى وَالصُّغْرَى، وَابْنِ عَاشِرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ [فِي الْمُرْشِدِ الْمُعِينِ] حَيْثُ أَوْجَبُوا لِلأَنْبِيَاءِ الْعِصْمَةَ مِنَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ مَا أَوْ مَكْرُوهٌ لَانْقَلَبَتِ الْمَعْصِيَةُ وَالْمَكْرُوهُ طَاعَةً لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، يُقَالُ إِنَّ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْهِمُهُمُ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ أَحَدٌ وَبِذَلِكَ يَزُولُ الْمَحْذُورُ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/121] وَءَايَاتٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/19].
تَنْبِيهٌ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ إِنَّ ءَادَمَ كَانَ مَأْمُورًا بَاطِنًا بِالأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ مَنْهِيًّا ظَاهِرًا كَمَا فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى الدَّرْدِيرِ [بِلُغَةِ السَّالِكِ لِأَقْرَبِ الْمَسَالِكِ] وَهَذَا كَلامٌ لا مَعْنَى لَهُ كَيْفَ يَجْتَمِعُ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي شَىْءٍ وَاحِدٍ.
وَمِمَّا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّيَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الرَّذَالَةُ كَاخْتِلاسِ النَّظَرِ إِلَى الأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ وَكَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ السَّفَاهَةُ كَالَّذِي يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْجُبْنُ فَالأَنْبِيَاءُ هُمْ أَشْجَعُ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: "كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْوَطِيسُ فِي الْمَعْرَكَةِ نَحْتَمِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" [عَزَاهُ الْبُوصِيرِيُّ لِأَبِـي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، انْظُرْ إِتْحَافَ الْخِيرَةِ الْمَهَرَةِ] فَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ نَبِيَّنَا قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنَ الأَشِدَّاءِ [عَزَاهُ الْبُوصِيرِيُّ فِي إِتْحَافِ الْخِيرَةِ الْمَهَرَةِ لِلْحَارِثِ فِي مُسْنَدِهِ، انْظُرْ بُغْيَةَ الْبَاحِثِ].
عِصْمَةُ الأَنْبِيَاءِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَلُطْفٌ بِهِمْ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى اخْتِيَارُهُمْ بَعْدَ الْعِصْمَةِ فِي الإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَهُوَ الْقَوْلُ السَّدِيدُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ إِذْ لَوْلا ذَلِكَ لَكَانُوا مَجْبُورِينَ فِي أَفْعَالِهِمْ وَمَنْ كَانَ مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لا يَكُونُ مَأْجُورًا فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/24] فَقَدْ قِيلَ فِيهِ نَحْوُ خَمْسِ تَأْوِيلاتٍ وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ مَرْبُوطٌ بِمَا بَعْدَهُ بِـ ﴿ لَوْلا أَنْ رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا هَمَّ يُوسُفُ بِالْمَرَّةِ لِأَنَّهُ رَأَى الْبُرْهَانَ، أَمَّا لَوْ لَمْ يَرَ الْبُرْهَانَ لَهَمَّ، وَالْبُرْهَانُ هُوَ الْعِصْمَةُ أَيْ أَنَّهُ أُلْهِمَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّىْءِ وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى النُّبُوَّةَ فَلَمْ يَهُمَّ، هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وَالْخُلاصَةُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لا يَقَعُونَ فِي الزِّنَى وَلا يَهُمُّونَ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ مَعْنَى "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ" أَيْ هَمَّتْ بِأَنْ تَدْفَعَهُ لِيَزْنِيَ بِهَا وَهَمَّ يُوسُفُ بِدَفْعِهَا لِيَخْلُصَ مِنْهَا [انْظُرِ الْمِعْيَارَ الْمعربِ] وَهَذَا التَّفْسِيرُ شَبِيهٌ بِمَا ذُكِرَ ءَانِفًا، وَالْخُلاصَةُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لا يَقَعُونَ فِي الزِّنَـى وَلا يَهُمُّونَ بِهِ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ فُصَحَاءُ فَلَيْسَ فِيهِمْ أَرَتُّ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ وَحَبْسَةٌ وَيُعَجِّلُ فِي كَلامِهِ فَلا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ، وَلا تَأْتَاءُ وَلا أَلْثَغُ، وَأَمَّا الأَلْثَغُ فَهُوَ الَّذِي يُصَيِّرُ الرَّاءَ غَيْنًا أَوْ لامًا وَالسِّينَ ثَاءً وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ لَارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ فِي صِحَّةِ مَا يَقُولُونَهُ وَلَقَالَ قَائِلٌ عِنْدَمَا يَبْلُغُهُ كَلامٌ عَنِ النَّبِيِّ "مَا يُدْرِينَا أَنَّهُ يَكُونُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ"، فَلا يَحْصُلُ مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ كَلامٌ غَيْرُ الَّذِي أَرَادَ قَوْلَهُ، أَوْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ كَلامٌ مَا أَرَادَ قَوْلَهُ بِالْمَرَّةِ كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ وَهُوَ نَائِمٌ. وَأَمَّا النِّسْيَانُ الْجَائِزُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ كَالسَّلامِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا حَصَلَ مَعَ الرَّسُولِ مِمَّا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: أَقُصِرَتِ الصَّلاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نُسِّيتَ، قَالَ: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ"، ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ" - وَهُوَ السَّائِلُ - فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأَتَى بِالرَّكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ].
وَمِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ أَيْضًا الْجُنُونُ، وَأَمَّا الإِغْمَاءُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ كَانَ يُغْمَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيُفِيقُ.
وَمِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي عُقُولِهِمْ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرَّسُولَ أَثَّرَ السِّحْرُ فِي عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ. وَأَمَّا تَأْثِيرُ السِّحْرِ عَلَى جَسَدِ النَّبِيِّ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ جَائِزٌ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ يَهُودِيًّا عَمِلَ السِّحْرَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَتَأَلَّمَ الرَّسُولُ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْجُبْنُ أَمَّا الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ. الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ النُّفُورِ مِنَ الْحَيَّةِ فَإِنَّ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ تَقْتَضِي الْهَرَبَ مِنَ الْحَيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ التَّخَوُّفِ مِنْ تَكَالُبِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلُوهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ. وَلَكِنْ لا يُقَالُ عَنِ النَّبِيِّ هَرَبَ بِحَيْثُ يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ أَمَّا إِذَا قِيلَ هَاجَرَ فِرَارًا مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ فَلا يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ مَا فِيهِ نَقْصٌ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَرَضٍ مُنَفِّرٍ. فَمَنْ نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْكَذِبَ أَوِ الْخِيَانَةَ أَوِ الرَّذَالَةَ أَوِ السَّفَاهَةَ أَوِ الْجُبْنَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ.
الشَّرْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَإِنَّ نَبِيَّكُمْ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ صَوْتًا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [فِي الشَّمَائِلِ]. فَالأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ كَانُوا ذَوِي حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ الَّذِي يُنَفِّرُ النَّاسَ مِنْهُمْ، اللَّهُ تَعَالَى لا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْرَاضَ أَمَّا الْمَرَضُ الْمُؤْلِمُ الشَّدِيدُ حَتَّى لَوْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ الإِغْمَاءُ أَيِ الْغَشْيُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الأَمْرَاضُ الْمُنَفِّرَةُ فَلا تَجُوزُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ هَذَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي ابْتَلاهُ اللَّهُ بَلاءً شَدِيدًا اسْتَمَرَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا وَفَقَدَ مَالَهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ وَأَغْنَاهُ وَرَزَقَهُ الْكَثِيرَ مِنَ الأَوْلادِ بَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ إِنَّ الدُّودَ أَكَلَ جِسْمَهُ فَكَانَ الدُّودُ يَتَسَاقَطُ ثُمَّ يَأْخُذُ الدُّودَةَ وَيُعِيدُهَا إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جِسْمِهِ وَيَقُولُ "يَا مَخْلُوقَةَ رَبِّي كُلِي مِنْ رِزْقِكِ الَّذِي رَزَقَكِ"، نَعُوذُ بِاللَّهِ هَذَا ضَلالٌ مُبِينٌ.
وَأَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي تَأَثَّرَ لِسَانُهُ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا وَوَضَعَهَا فِي فَمِهِ حِينَ كَانَ طِفْلًا أَمَامَ فِرْعَوْنَ لِحِكْمَةٍ، مَا تَرَكَتْ تِلْكَ الْجَمْرَةُ فِي لِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ كَلامُهُ غَيْرَ مُفْهِمٍ لِلنَّاسِ إِنَّمَا كَانَتْ عُقْدَةً خَفِيفَةً بَلْ كَانَ كَلامُهُ مُفْهِمًا لا يُبْدِلُ حَرْفًا بِحَرْفٍ بَلْ يَتَكَلَّمُ عَلَى الصَّوَابِ لَكِنْ كَانَ فِيهِ عُقْدَةٌ خَفِيفَةٌ أَيْ بُطْءٌ مِنْ أَثَرِ تِلْكَ الْجَمْرَةِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ قَالَ: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّنْ لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [سُورَةَ طَه] فَأَذْهَبَهَا اللَّهُ عَنْهُ.
الْحَاصِلُ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ كُلَّهُمْ أَصْحَابُ خِلْقَةٍ سَوِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو عَاهَةٍ فِي خِلْقَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَجُ وَلا كَسِيحٌ وَلا أَعْمَى إِنَّمَا يَعْقُوبُ مِنْ شِدَّةِ بُكَائِهِ عَلَى يُوسُفَ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ فَعَمِيَ ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا أَرْسَلَ يُوسُفُ بِقَمِيصِهِ مِنْ مِصْرَ إِلَى كَنعان وَهِيَ الْبَلْدَةُ الَّتِي فِيهَا أَبُوهُ فَشَمَّ يَعْقُوبُ رِيحَ يُوسُفَ فِي هَذَا الْقَمِيصِ، اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ يَشُمُّ رِيحَ يُوسُفَ فَارْتَدَّ بَصِيرًا هُوَ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلا كَانَ بِهِ عَمًى قَبْلَ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ بِفَقْدِ ابْنِهِ يُوسُفَ. فَالنَّبِيُّ فِي الْبَدْءِ أَوَّلَ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَى لِمُدَّةٍ كَمَا حَصَلَ لِنَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ إِنَّ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ مُتَوَحِّشًا قَصِيرَ الْقَامَةِ شَبِيهًا بِالْقِرْدِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ يَمْشِي فِي الأَرْضِ عُرْيَانًا كَالْبَهَائِمِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبًا لِلْقُرْءَانِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ التِّينِ ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيـمٍ﴾ [سُورَةَ التِّين] أَيْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ ءَادَمَ كَانَ طُولُهُ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سَبْعَةً وَافِرَ الشَّعَرِ" [أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الأَخْلاقِ].
فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ فِي الْعُصُورِ الأَخِيرَةِ إِنَّ أَوَّلَ الْبَشَرِ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْقِرْدِ تَكْذِيبٌ لِلآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "كَانَ ءَادَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا طُولًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ [فِي مُسْنَدِهِ].
تَنْبِيهٌ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِعْلَ اللِّوَاطِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الأُصُولِيُّ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي كِتَابِ تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ ]تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع[: "أَنَّ الأَفْعَالَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالأَفْعَالُ أَصْلٌ لِلصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا فَتَكُونُ الْمَصَادِرُ أَصْلًا لَهَا أَيْضًا" اهـ.
وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ [فِي الْمُعْرَبِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ]: "وَكُلُّ أَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ أَعْجَمِيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً ءَادَمُ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ" اهـ وَهَذَا خِلافُ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: "أَرْبَعَةٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ" وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ أَسْمَاءَ غَيْرِ الأَرْبَعَةِ أَعْجَمِيَّةٌ، وَيُمْكِنُنَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الأَرْبَعَةَ عَرَبٌ وَمَنْ سِوَاهُمْ لا يُسَمَّوْنَ عَرَبًا مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِيَّةُ وَعَلَى هَذَا لا يُعَارِضُ كَوْنَ لَفْظِ ءَادَمَ عَرَبِيًّا. وَكَيْفَ يَمْضِي هَذَا الزَّمَنُ الطَّوِيلُ مِنْ ءَادَمَ إِلَى لُوطٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ وَهِيَ أَوَّلُ لُغَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا ءَادَمُ وَعَلَّمَهَا أَبْنَاءَهُ كَلُغَاتٍ غَيْرِهَا فِيهَا فِعْلُ للوَاطِ بَلْ كانَ أَوْلادُ ءَادَمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَعْرِفُونَ كَلِمَةَ لاطَ بِتَصَارِيفِهَا كَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ كَلِمَةَ الزِّنَى وَتَصَارِيفَهَا، وَقَائِلُ هَذَا كَالَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْبَشَرَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ كَلِمَةَ الزِّنَى وَتَصَارِيفَهَا حَتَّى مَضَى عَلَى الْبَشَرِ زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَكَيْفَ يَكُونُ هُودٌ وَصَالِحٌ اللَّذَانِ هُمَا مَبْعُوثَانِ إِلَى الْعَرَبِ لُغَتُهُمَا وَلُغَةُ مَنْ أُرْسِلا إِلَيْهِ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَلا يُغْتَرَّ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الشَّنِيعَةَ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ لِسَانِ الْعَرَبِ وَشَرْحِ الْقَامُوسِ وَلَيْسَ لَهُمَا حُجَّةٌ إِلَّا تَقْلِيدُ اللَّيْثِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ زَيَّفَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الزَّجَّاجُ [انْظُرْ تَفْسِيرَ الْقُرْطُبِـِّي الْجَامِعَ لِأَحْكَامِ الْقُرْءَانِ]، فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لُوطًا مُشَتَقٌّ مِنَ اللِّوَاطِ لِأَنَّ اللِّوَاطَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ وَهُوَ مَصْدَرُ لاطَ، وَلُوطٌ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ فَكَيْفَ يَدَّعِي مُدَّعٍ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ اللِّوَاطِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللِّوَاطَ مَأْخُوذٌ مِنْ لُوطٍ، فَلَفْظُ اللِّوَاطِ كَانَ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَوَّلَ لُغَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا ءَادَمُ هِيَ الْعَرَبِيَّةُ [انْظُرِ الْمَصْدَرَ السَّابِقَ] وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ [صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ]: "أَنَّ ءَادَمَ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ"، وَإِنَّمَا قَوْمُ لُوطٍ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ، أَمَّا اللَّفْظُ كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ لُوطٍ وَهُمْ قَوْمُ عَادٍ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ لُوطٍ لِقَوْمِهِ ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/80] أَنَّ لَفْظَ اللِّوَاطِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا قَبْلَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَوَضْعُ الْكَلِمَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَاللِّوَاطُ هَكَذَا اللَّفْظُ سَابِقٌ لَكِنَّ التَّنْفِيذَ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي قَوْمِ لُوطٍ، وَلا يُقَاسُ الِاشْتِقَاقُ عَلَى الْمُعَرَّبِ فَالْمُعَرَّبُ لا يُسَمَّى اشْتِقَاقًا فَهُوَ شَىْءٌ وَالِاشْتِقَاقُ شَىْءٌ ءَاخَرُ فَنَقُولُ فِي الْمُعَرَّبِ نَقْلُ لُغَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، فَأَسْمَاءُ الأَعْيَانِ نُقِلَ عَدَدٌ مِنْهُمْ وَالْعَرَبُ اسْتَعْمَلَتْهَا اسْتِعْمَالًا وَلَيْسَ هُنَاكَ أَنَّهُ اشْتُقَّ هَذَا مِنْ هَذَا فَرْقٌ بَعِيدٌ بَيْنَ الْمُعَرَّبِ وَالِاشْتِقَاقِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ الأَنْبِيَاءَ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ كَكَوْنِ أَسَامِيهِمْ مِنَ الأَسْمَاءِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ وَأَخْلاقِهِمْ مِنَ الأَخْلاقِ الْقَبِيحَةِ فَمَنْ نَسَبَ إِلَيْهِمُ اسْمًا شَنِيعًا بَشِعًا فَقَدِ انْتَقَصَهُمْ، فَكَيْفَ اسْتَسَاغَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ الْقَوْلَ بِأَنَّ لُوطًا مَأْخُوذٌ مِنَ اللِّوَاطِ، وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ بَاطِلَةٌ شَنِيعَةٌ لُغَةً وَشَرْعًا، فَلْيُحْذَرْ كَلامُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ فَلْيُحْذَرْ مِنْ تَقْلِيدِ هَؤُلاءِ، وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى مَنْ قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ أَنَّ الأَفْعَالَ وَأَسْمَاءَ الأَفْعَالِ وَأَسْمَاءَ الْفَاعِلِينَ وَالصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ كُلُّ ذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْدَرِ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ فِي مُلْحَةِ الإِعْرَابِ:
وَالْمَصْدَرُ الأَصْلُ وَأَيُّ أَصْلِ وَمِنْهُ يَا صَاحِ اشْتِقَاقُ الْفِعْلِ فَكَيْفَ اسْتَجَازُوا أَنْ يَكُونَ اسْمُ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مُشْتَقًّا مِنَ اللِّوَاطِ أَوْ أَنْ يَكُونَ اللِّوَاطُ مُشْتَقًّا مِنْهُ، اللَّهُ تَعَالَى عَصَمَ الأَنْبِيَاءَ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاؤُهُمْ خَبِيثَةً أَوْ مُشْتَقَّةً مِنْ خَبِيثٍ أَوْ يُشْتَقُّ مِنْهَا خَبِيثٌ، وَلا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلاءِ لا يَنْطَبِقُ عَلَى أَنْوَاعِ الِاشْتِقَاقِ الثَّلاثَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ فِي مَحَلِّهَا.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ "رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فَإِذَا كَانَ الأَنْبِيَاءُ هَكَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ أَسَامِيهِمْ حَسَنَةً، وَمَا نَقَلَهُ الأَزْهَرِيُّ عَنِ اللَّيْثِ مِنْ أَنَّ النَّاسَ اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ لُوطٍ فِعْلًا لِمَنْ فَعَلَ اللِّوَاطَ لا يَتَّفِقُ مَعَ مَا قَالَهُ الجواليقيُّ مِنْ أَنَّ مَا سِوَى الأَسْمَاءِ الأَرْبَعَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ عَجَمِيَّةٌ، فَلا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّاسِ لِمَنْ يَفْعَلُ تِلْكَ الْفِعْلَةَ لُوطِيٌّ فَإِنَّمَا هُوَ نِسْبَةٌ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَلَيْسَ إِلَى لُوطٍ نَفْسِهِ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي النِّسْبَةِ مِنْ أَنَّهُمْ إِذَا نَسَبُوا شَيْئًا إِلَى اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ يَذْكُرُونَ لَفْظَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ فُلانٌ قَيْسِيٌّ وَلا يَفْهَمُونَ مِنْهُ إِلَّا الْقَبِيلَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ لُوطِيّ، ثُمَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فَإِنْ أُرِيدُ اللَّفْظُ عِنْدَ النِّسْبَةِ يُقَالُ فُلانٌ اللِّوَاطِيُّ أَوْ فُلانٌ اللَّائِطُ.
هَذَا وَقَوْلُ اللَّيْثِ إِنَّ النَّاسَ اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ لُوطٍ فِعْلًا لِمَنْ فَعَلَ اللِّوَاطَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ هَذَا اشْتِقَاقٌ صَحِيحٌ لُغَةً فَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذِهِ نِسْبَةٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَإِنَّمَا بَعْضُ الْكُفَّارِ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَصْحِيحَ اشْتِقَاقِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنِ اسْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنِ اشْتِقَاقِ لاطَ وَنَحْوِهِ مِنِ اسْمِ لُوطٍ لَيْسَ فِي شَىْءٍ مِنَ الِاشْتِقَاقِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ وَالْمُشْتَقُّ مِنْهُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ لِقَوْلِهِمْ فِي تَعْرِيفِهِ: "رَدُّ لَفْظٍ إِلَى لَفْظٍ ءَاخَرَ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا" [انْظُرِ التَّعْرِيفَاتِ] مَعَ تَقْسِيمِهِمْ أَنْوَاعَهُ الثَّلاثَةَ إِلَى أَمْثِلَةٍ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ حَيْثُ مَثَّلُوا لِلِاشْتِقَاقِ الصَّغِيرِ [الِاشْتِقَاقُ الصَّغِيرُ هُوَ إِذَا اتَّفَقَتْ كَلِمَتَانِ فِي الْحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ، فَإِنَّ حَلَب اسْمُ مَصْدَرٍ وَحَلَبَ فِعْلٌ] بِحَلْبٍ وَحَلَبَ وَضَرْبٍ وَضَارِبٍ وللكبير بجذْبٍ وجَبَذَ وَلِلأَكْبَر بِثَلْبٍ وَثَلْمٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُمَا لَيْسَا عَرَبِيَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ.