في تفسيرالقرءان الكريم الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون
 سورة العلق

سورة العلق

الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون

الدر_المصون سُورَةُ الْعَلَق
مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِيَ تِسْعَ عَشْرَةَ ءَايَةً
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَّءَاهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلا لَئِنْ لَّمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)




قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُعْظَمِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)﴾، اهـ. وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾ وَبَقِيَّةُ السُّورَةِ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ.




قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)﴾ أَيِ اذْكُرِ اسْمَهُ تَعَالَى مُسْتَفْتِحًا بِهِ قِرَاءَتَكَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلائِقَ.




﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)﴾ أَيْ خَلَقَ اللَّهُ ابْنَ ءَادَمَ مِنْ عَلَقٍ، جَمْعُ عَلَقَةٍ، وَالْعَلَقَةُ: الدَّمُ الْجامِدُ الَّذِي لَمْ يَيْبَسْ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدُّ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَالنُّطْفَةُ: الْمَنِيُّ، وَالْعَلَقَةُ: الْقِطْعَةُ الْيَسِيرَةُ مِنَ الدَّمِ الْغَلِيظِ، وَالْمُضْغَةُ: قِطْعَةُ لَحْمٍ قَدْرُ مَا يُمْضَغُ.




﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)﴾ هَذَا تَأْكِيدٌ لِلأَوَّلِ وَهُوَ تَعَالَى الْكَرِيمُ الأَكْرَمُ الَّذِي لا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ، وَالأَكْرَمُ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَرَمِ.




﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)﴾ أَيْ عَلَّمَ الإِنْسَانَ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.




﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾ أَيْ مِنَ الْخَطِّ وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالإِنْسَانِ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾.




﴿كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَّءَاهُ اسْتَغْنَى(7)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلا(6)﴾ هُوَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ بِطُغْيَانِهِ وَقَوْلُهُ ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6)﴾ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، وَهُوَ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مِنْ قَتْلاهَا السَّنَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، أخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أَنْ رَّءَاهُ اسْتَغْنَى(7)﴾ أَيْ لَئِنْ رَأَى نَفْسَهُ اسْتَغْنَى أَيْ صَارَ ذَا مَالٍ وَثَرْوَةٍ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ.




﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى(8)﴾ وَالرُّجْعَى: الرُّجُوعُ وَالْمَرْجِعُ، وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلطَّاغِي الْمُسْتَغْنِي وَتَحْقِيرٌ لِمَا هُوَ فِيهِ حَيْثُ إِنَّ مَآلَهُ إِلَى الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَيُجَازَى عَلَى طُغْيَانِهِ.




﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾ وَالْمُرَادُ بِالَّذِي يَنْهَى أَبُو جَهْلٍ حَيْثُ إِنَّهُ نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ فِي الْمَسْجِدِ. أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.




﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى(11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى(12)﴾ أَيْ أَرَأَيْتَ يَا أَبَا جَهْلٍ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَلَيْسَ نَاهِيهِ عَنِ التَّقْوَى وَالصَّلاةِ هَالِكًا.




﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(14)﴾ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ حَيْثُ كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعْرَضَ عَنِ الإِيـمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُ وَيَعْلَمُ فِعْلَهُ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ لابِي جَهْلٍ.




﴿كَلا لَئِنْ لَّمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ(15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لاطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَوْ فَعَلَهُ لاخَذَتْهُ الْمَلائِكَةُ» اهـ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا(15)﴾ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لابِي جَهْلٍ وَمَنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ عَنْ نَهْيِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْلُهُ ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ(15)﴾ أَيْ لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ أَخْذَ إِذْلالٍ، وَالنَّاصِيَةُ: شَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَسَفَعْتُ بِالشَّىْءِ: إِذَا قَبَضْتُ عَلَيْهِ وَجَذَبْتُهُ جَذْبًا شَدِيدًا، وَخَصَّ النَّاصِيَةَ بِالذِّكْرِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِيمَنْ أَرَادُوا إِذْلالَهُ وَإِهَانَتَهُ أَخَذُوا بِنَاصِيَتِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جُمْلَةِ الإِنْسَانِ.




وَقَوْلُهُ ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)﴾ أَيْ إِنَّ صَاحِبَهَا كَاذِبٌ خَاطِئٌ.




﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17)﴾ أَيْ فَلْيَدْعُ أَهْلَ مَجْلِسِهِ وَعَشِيرَتَهُ فَلْيَسْتَنْصِرْ بِهِمْ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرَ مِنِّي فَنَزَلَتِ الآيَةُ.




﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18)﴾ أَيْ الْمَلائِكَةَ الْغِلاظَ الشِّدَادَ.




﴿كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(19)﴾ ﴿كَلا(19)﴾ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَبُو جَهْلٍ فَلا تُطِعْهُ، أَيْ فِيمَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلاةِ ﴿وَاسْجُدْ(19)﴾ أَيْ صَلِّ لِلَّهِ تَعَالَى ﴿وَاقْتَرِبْ(19)﴾ أَيْ تَقَرَّبْ إلِىَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ.
فَائِدَةٌ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الأَكْبَرِ: «وَلَيْسَ قُرْبُ اللَّهِ تَعَالَى وَلا بُعْدُهُ مِنْ طَرِيقِ طُولِ الْمَسَافَةِ وَقِصَرِهَا وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالْهَوَانِ، وَالْمُطِيعُ قَرِيبٌ مِنْهُ بِلا كَيْفٍ وَالْعَاصِي بَعِيدٌ عَنْهُ بِلا كَيْفٍ، وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ وَالإِقْبَالُ يَقَعُ عَلَى الْمُنَاجِي وَكَذَلِكَ جِوَارُهُ فِي الْجَنَّةِ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِلا كَيْفٍ» اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم نَفَوُا الْكَيْفَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: «إِنَّ الَّذِي عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّةَ وَالْكَيْفِيَّةُ مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ».