في تفسيرالقرءان الكريم الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون
 سورة النبإ

سورة النبإ

الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون

الدر_المصون سُورَةُ النَّبَإِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ أَرْبَعُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَّبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمٰنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)





﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ(1)﴾ أَيْ عَنْ أَيِّ شَىْءٍ يَتَسَاءَلُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ: مَا الَّذِي أَتَى بِهِ، وَيَتَجَادَلُونَ فِيمَا بُعِثَ بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَن.




﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ(2)﴾ وَهُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ.




﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ(3)﴾ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُثْبِتُونَهُ.




﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(4)﴾ «كَلا» هِيَ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي الآيَةِ رَدْعٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَوَعِيدٌ لَهُمْ، وَسَيَعْلَمُونَ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.




﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(5)﴾ التَّكْرَارُ هُنَا تَوْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ، وَحُذِفَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْوِيلِ.




﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا(6)﴾ فِي الآيَاتِ الآتِيَةِ دِلالَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْبَعْثِ وَهُوَ الْخَالِقُ، وَقَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ مَا هُمْ دَائِمًا يُبَاشِرُونَهُ، فَالأَرْضُ ذَاتُ مِهَادٍ، وَالْمَهْدُ وَالْمِهَادُ: هُوَ الْفِرَاشُ الْمُوَطَّأُ، أَيْ أَنَّهَا لَهُمْ كَالْمَهْدِ لِلصَّبِيِّ يُمَهَّدُ لَهُ فَيُنَوَّمُ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ ذَلَّلَهَا لِلْعِبَادِ حَتَّى سَكَنُوهَا.




﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا(7)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ثَبَّتَ الأَرْضَ بِالْجِبَالِ كَيْ لا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا.




﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا(8)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَنْوَاعًا فِي اللَّوْنِ وَالصُّورَةِ وَاللِّسَانِ لِتَخْتَلِفَ أَحْوَالُ الْخَلْقِ فَيَقَعَ الاعْتِبَارُ فَيَشْكُرَ الْفَاضِلُ وَيَصْبِرَ الْمَفْضُولُ.




﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا(9)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّوْمَ سُكُونًا وَرَاحَةً لِيَنْقَطِعَ النَّاسُ عَنْ حَرَكَاتِهِمُ الَّتِي تَعِبُوا بِهَا فِي النَّهَارِ.




﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10)﴾ أَيْ سَكَنًا وَغِطَاءً تَسْتَتِرُونَ بِهِ عَنِ الْعُيُونِ فِيمَا لا تُحِبُّونَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ.




﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11)﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ النَّهَارَ وَقْتَ اكْتِسَابٍ تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ وَهُوَ مَعَاشٌ لأَنَّهُ وَقْتُ عَيْشٍ.




﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا(12)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ مُحْكَمَةَ الْخَلْقِ وَثِيقَةَ الْبُنْيَانِ.




﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا(13)﴾ أَيْ وَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ مُضِيئَةً كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ حَارَّةٌ مُضْطَرِمَةُ الِاتِّقَادِ.




﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا(14)﴾ وَالْمُعْصِرَاتُ السَّحَابُ وَهِيَ الْغَيْمُ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْهَا الْمَاءَ الْمُنْصَبَّ بِكَثْرَةٍ.




﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا(15)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْحَبَّ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَقَوَّتُ بِهِ.




﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا(16)﴾ وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْبَسَاتِينَ ذَاتَ الزَّرْعِ الْمُجْتَمِعِ بَعْضُهُ إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، وَإِذَا عَلِمَ الْكُفَّارُ ذَلِكَ فَهَلا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.




فَبَعْدَ أَنْ عَدَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بَعْضَ وُجُوهِ إِنْعَامِهِ وَتَمْكِينَهُمْ مِنْ مَنَافِعِهِمْ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا(17)﴾ أَيْ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ حَدٌّ تُؤَقَّتُ بِهِ الدُّنْيَا وَتَنْتَهِي عِنْدَهُ.




﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا(18)﴾ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَرْنٍ يَنْفُخُ فِيهِ الْمَلَكُ إِسْرَافِيلُ، وَالْمُرَادُ هُنَا النَّفْخَةُ الأَخِيرَةُ الَّتِي يَكُونُ عِنْدَهَا الْحَشْرُ فَيَنْفُخُ فِي الصُّورِ لِلْبَعْثِ فَيَأْتِي النَّاسُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ أَفْوَاجًا أَيْ زُمَرًا زُمَرًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ.




﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا(19)﴾ أَيْ تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا شُقُوقٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ «وَفُتِّحَت» بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ.




﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا(20)﴾ وَأُزِيلَتِ الْجِبَالُ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَنُسِفَتْ.




﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21)﴾ وَجَهَنَّمُ تَرْصُدُ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَيَدْخُلُهَا الْكَافِرُ وَيُحْبَسُ فِيهَا أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.




﴿لِّلطَّاغِينَ مَآبًا(22)﴾ أَيْ أَنَّ جَهَنَّمَ مَرْجِعُ وَمُنْقَلَبُ مَنْ طَغَى فِي دِينِهِ بِالْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.




﴿لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)﴾ وَقَرَأَ حَمْزَةُ «لَبِثِينَ» وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ سَيَمْكُثُونَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ الأَحْقَابُ، وَهِيَ لا تَنْقَطِعُ كُلَّمَا مَضَى حُقْبٌ جَاءَ حُقْبٌ وَهَكَذَا إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْحُقْبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، قَالَ الإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ: أَيْ دُهُورًا، وَالْمَعْنَى مُؤَبَّدِينَ. وَلَيْسَ فِي الآيَةِ وَلا فِي غَيْرِهَا مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ يَقُولُ بِفَنَاءِ النَّارِ كَجَهْمِ بنِ صَفْوَانَ وَهُوَ رَأْسُ الْجَهْمِيَّةِ. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ الْقَوْلَ بِفَنَاءِ جَهَنَّمَ مِنَ الضَّلالِ الْمُبِينِ الْمُخْرِجِ مِنَ الإِسْلامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا «الاعْتِبَارُ بِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ» رَدَّ فِيهَا عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ ضَلالاتِهِ قَوْلُهُ بِأَزَلِيَّةِ نَوْعِ الْعَالَمِ، وَذَكَرَ عَقِيدَتَهُ هَذِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ إِجْمَاعًا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُمَا كَالْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ الْمَالِكِيِّ، فَلا يَغُرَنَّكَ زُخْرُفُهُ.




﴿لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا(24)﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي جَهَنَّمَ لا يَذُوقُونَ الشَّرَابَ الْبَارِدَ الْمُسْتَلَذَّ.




﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(25)﴾ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا شَرَابًا﴾ وَالْحَمِيمُ: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي يُحْرِقُ، وَالْغَسَّاقُ: هُوَ الْقَيْحُ الْغَلِيظُ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ »غَسَاقًا« بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّشْدِيدِ.




﴿جَزَاءً وِفَاقًا(26)﴾ فَوَافَقَ هَذَا الْعَذَابُ الشَّدِيدُ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ وَكُفْرَهُمْ.




﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا(27)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَخَافُونَهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَهُمْ كَانُوا لا يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ فَيَخَافُونَ مِنَ الْعِقَابِ.




﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28)﴾ وَكَانُوا مُبَالِغِينَ فِي تَكْذِيبِ الْقُرْءَانِ الْكَريِمِ.




﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا(29)﴾ أَيْ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنَ الأَعْمَالِ مَكْتَوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِيُجَازِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ لِلْقُرْءَانِ، فَالْمَلائِكَةُ يُحْصُونَ زَلاتِ الْعَاصِينَ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صَحَائِفِهِمْ.




﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا(30)﴾ فَزِيَادَةُ الْعَذَابِ لَهُمْ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالآيَاتِ. وَفِي هَذَا الْخِطَابِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَشِدَّةُ غَضَبٍ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَهِ الآيَةَ هِيَ أَشَدُّ ءَايَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ.
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِذَا سَمِعَ الشَّخْصُ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ أَوْ عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يَقُولَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا.




﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا(31)﴾ فَالتَّقِيُّ وَهُوَ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ يَفُوزُ وَيَنْجُو وَيَظْفَرُ حَيْثُ يُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلُ الْجَنَّةَ.




﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا(32)﴾ وَيَكُونُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ الْبَسَاتِينُ الَّتِي فِيهَا أَنْوَاعُ الأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ.




﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا(33)﴾ أَيْ جَوَارِيَ مُتَسَاوِيَاتٍ فِي السِّنِّ.




﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا(34)﴾ أَيْ كَأْسًا مَمْلُوءَةً بِالشَّرَابِ الصَّافِي.




﴿لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا(35)﴾ فَلا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ بَاطِلا مِنَ الْقَوْلِ وَلا كَذِبًا، وَلا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كِذَابًا» بِالتَّخْفِيفِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُخَفِّفُ هَذِهِ وَيُشَدِّدُ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ.




﴿جَزَاءً مِّنْ رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا(36)﴾ وَيَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ إِكْرَامًا مِنْهُ الْعَطَاءَ وَالنَّعِيمَ الْكَثِيرَ.




﴿رَّبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمٰنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا(37)﴾ فَاللَّهُ مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ ٱلرَّحْمٰنُ، فَلا يَمْلِكُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الاعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ فِي ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ لِأَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ لَهُ عَلَى الإِطْلاقِ فَلا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ اعْتِرَاضًا وَذَلِكَ لا يُنَافِي الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ أَيْ لا يُكَلِّمُونَهُ إِلا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.




﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمٰنُ وَقَالَ صَوَابًا(38)﴾ أَيْ يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرُّوحُ وَهُوَ جِبْرِيلُ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ قَدْرًا وَشَرَفًا مُصْطَفِّينَ فَلا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِجْلالًا لِرَبِّهِمْ وَخُضُوعًا لَهُ، فَلا يَشْفَعُ إِلا مَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ «وَقَالَ صَوَابًا» أَيْ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَعِنْدَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ هُوَ بَعِيدٌ وَلَكِنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ قَرِيبٌ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بِلا شَكٍّ فَيَرَى الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْحَيَوَانَ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: كُونِي تُرَابًا، فَيَعُودُ جَمِيعُهَا تُرَابًا فَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ لِنَفْسِهِ مِثْلَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)﴾ أَيْ بُعِثَتْ لِلْقِصَاصِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ - وَهِيَ الَّتِي لا قَرْنَ لَهَا - مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»، قَالَ مُجَاهِدٌ: يُبْعَثُ الْحَيَوَانُ فَيُقَادُ لِلْمَنْقُورَةِ مِنَ النَّاقِرَةِ وَلِلْمَنْطُوحَةِ مِنَ النَّاطِحَةِ.
وَفِي الآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ لَهَا أَرْوَاحٌ وَنُمُوٌّ، أَمَّا النَّبَاتُ فَفِيهِ نُمُوٌّ فَقَطْ وَلَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، فَالزَّرْعُ لا يَتَأَلَّمُ حِينَ الْحَصَادِ كَالشَّاةِ الَّتِي تُذْبَحُ فَإِنَّ الشَّاةَ تَتَأَلَّمُ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَهَائِمَ لا أَرْوَاحَ لَهَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ.




﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا(39)﴾ أَيْ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَابِتٌ لَيْسَ فِيهِ تَخَلُّفٌ وَمَنْ أَرَادَ السَّلامَةَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْلُكُ سَبِيلَ الْخَيْرِ، وَفِي الآيَةِ مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لا التَّخْيِير.




﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا(40)﴾ وَهُوَ عَذَابُ الآخِرَةِ ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أَيْ يَرَى عَمَلَهُ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ تَأْكِيدٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَم.