مناسبات إسلامية مصيبة المسلمين بموت سيّد المرسلين
 أَثَرُ مُفَارَقةِ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم على قُلُوبِ الصحابة

أَثَرُ مُفَارَقةِ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم على قُلُوبِ الصحابة

مصيبة المسلمين بموت سيد المرسلين

لقد كان لموت الرسولِ الأعظم صلى الله عليه وسلم ومفارقته وفقدانه أثر كبير على قلوب صحابته عليهم السلام، وقد ظهر ذلك من خلال أقوالهم وأحوالهم وما أَحَسُّوا به من أحوال بعد موته عليه الصلاة والسلام.
فعَن الصحابيّ الجليل أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَىْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَىْءٍ، وَلَمَّا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
وفي رواية عن أَحَد الصحابة أنه قال: "وما نَفَضْنَا أيديَنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" يُريدون بذلك أنهم وجدوا قُلوبَهم قد تَغَيّرتْ عَمَّا عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرّقة، وذلك لِفِقدان ما كان يمدُّهم به عليه الصلاة والسلام من التعليم والتأديب والأنوار والفوائد العظيمة.
فيا لَها من مُصيبة جلَل ما أُصِيبَ المسلمون بمثلها قطُّ، ويا لَهَا من مُصيبة كُبْرى أظلمتْ لها المدينة المنورة التي تنوّرتْ بأنوار النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم ويا لها مِنْ مصيبة جَلل حزنت بعدها قلوب الصحابة وتغيرتْ لفقدان الأمداد النبوية التي كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يمدُّ بها صحابته عليهم السلام من تعليم وتأديب وحكم ومواعظ وأحكام.
- الجماداتُ تَتَصَدّعُ وتحنُّ وتَئِنُّ لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد كان مُصَابُ الصحابة الكرام عليهم السلام بفراق نبيّهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم كبيرًا وعظيمًا لما عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرقة في نفوسهم وقلوبهم، وكان شوقهم لرؤية مُحَيّاه الجميل بعد مفارقته صلى الله عليه وسلم إيّاهم عظيمًا وليس أمرًا سهلا وصفه والتعبير عنه بالبيان أو اللسان، وكيف لا تَحِنُّ قلوبُ الصحابة شوقًا إليه وكيف لا تضطرب نفوسهم وتتلوع لمفارقته والجذعُ الخشبيُّ اليبيسُ قد حَنَّ وبكى شوقًا وحُبًّا للنبيّ عليه الصلاة والسلام عندما فارقه بعدما كان عليه الصلاة والسلام يخطب مستندًا إليه فكيف بقلوب المؤمنين من الصحابة الكرام الذين صاحبوا نبيّهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياتهم وعاشروه سنين طويلة وكانوا معه في حياته وكان صلى الله عليه وسلم يمُدُّهم بإذن الله تبارك وتعالى بالأنوار والبركات والخيرات والنفحات المباركة.
- قِصّةُ حنينِ جِذْع النخلة لفراق النبي صلى الله عليه وسلم:
إنَّ معجزةَ حنين الجِذْع الخشبي إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم خبرها متواتر يفيد العلم القطعيّ كما قال العلماء، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذْعٍ فلمّا اتخذ المنبر تَحَوَّل إليه فَحَنَّ الجذْع فأتاه فمسح يده عليه" رواه البخاري والبيهقي.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ فَقَالَت امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ"، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَةِ رُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَت النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيّ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَمَّها إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيّ الَّذِي يُسَكَّنُ، رواه البخاري.
أيْ أنَّ الرسولَ المُصْطَفى صلى الله عليه وسلم نَزَلَ مِن منبرِهِ فالتزمَه أي ضَمَّهُ واعتَنَقَهُ حتى سَكَتَ.
ومِنَ الروايات الواردة في مُعْجزة حنين الجِذْع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمهُ لَمَا زَالَ هَكَذَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة حُزْنًا عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ" أخرجه أبو عوانة وابن خزيمة.
وَفِي حَدِيث الْحَسَن البصري عَنْ أَنَس: كَانَ الْحَسَن إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث يَقُول: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَة تَحِنّ إِلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقّ أَن تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ.
وَفِي رواية أيضًا لمعجزة حنين الجذع شَوْقًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيث بُرَيْدَةَ عِنْد الدَّارِمِيّ أَنَّ النَّبِيَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم قَالَ للجذْع عندما ضَمَّهُ واعتنقه بعد صياحه وحنينه: "اخْتَرْ أَنْ أَغْرِسَكَ فِي الْمَكَان الَّذِي كُنْت فِيهِ فَتَكُونَ كَمَا كُنْت - يَعْنِي قَبْل أَنْ تَصِير جِذْعًا - وَإِنْ شِئْت أَنْ أَغْرِسَكَ فِي الْجَنَّة فَتَشْرَبَ مِنْ أَنْهَارهَا فَيَحْسُنَ نَبْتك وَتُثْمِرَ فَيَأْكُلَ مِنْك أَوْلِيَاء اللَّه، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اخْتَارَ أَنْ أَغْرِسَهُ فِي الْجَنَّة".
فهذا الجذع الذي حَنَّ لِرَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الله تبارك وتعالى خَلَقَ فيه الإدراك والمحبة والشوقَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم سَيّدِ العالمين، فَحَنَّ من شدة الشوق. وفي إحدى روايات هذا الحديث: "خَارَ ذَلِكَ الْجِذْع كَخُوَارِ الثَّوْر"، وفي رواية أيضًا أنَّهُ تَصَدَّعَ وَانْشَقَّ من شدة شوقه للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكانَ هذا الجذعُ الخَشَبيُّ في قِبلةِ المسْجِد.
وحديثُ حنينِ الجِذْعِ للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثابتٌ متواترٌ عند علَماء الحديث، وهذه المعجزة مِنْ أَعْجَبِ المعجزات التي يُؤَيّدُ الله تبارك وتعالى بها أنبياءَه لتدلَّ على صدقهم فيما جاؤوا به مِنْ عند الله تعالى، ويَصحُّ أن نقول إنَّ معجزةَ حنين الجذع لنبيّنا عليه الصلاة والسلام أَعْجبُ مِن مُعْجزةِ إحياء الموتى التي حَصلىتْ للمسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، لأنَّ إحياءَ الموتى يتضمنُ رجوعَ هؤلاء الأشخاصِ إلى مِثْلِ ما كانوا عليه قَبْلَ أن يموتوا، وأمَّا الجذعُ الخشبيُّ الذي حَنَّ للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو من الجماد الذي لم يكن من عادته أن يتكلم بإرادة فهو أَعْجَبُ، وبذلك تكون معجزة حنين الجذع الخشبي للنبيّ المصطفى عليه الصلاة والسلام مِن أَعْجَبِ وأظْهَرِ المعجزات.
وَقَدْ نَقَلَ ابْن أَبِي حَاتِم فِي كتاب "مَنَاقِب الشَّافِعِيّ" عَنْ أَبِيهِ عَنْ عمر ابْن سَوَاد عَن الشَّافِعِيّ رضي الله عنه أنَّه قَالَ: مَا أَعْطَى اللَّهُ نَبِيًّا مَا أَعْطَى مُحَمَّدًا، قُلْت: أَعْطَى عِيسَى إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، قَالَ (أي الشافعي): أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ حَنِينَ الْجِذْع حَتَّى سُمِعَ صَوْته، فَهَذَا أَكْبَر مِن ذَلِكَ.
فائدة: قَالَ الإمامُ الْبَيْهَقِيُّ رضي الله عنه: قِصَّة حَنِين الْجِذْع مِنَ الْأُمُور الظَّاهِرَة الَّتِي حَمَلَهَا الْخَلَف عَن السَّلَف، وَفِي الْحَدِيث دِلالَة عَلَى أَنَّ الْجَمَادَات قَدْ يَخْلُق اللَّه لَهَا إِدْرَاكًا كَالْحَيَوَانِ بَلْ كَأَشْرَف الْحَيَوَان وَفِيهِ تَأْيِيد لِقَوْلِ مَن يَحْمِلُ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (44)﴾ عَلَى ظَاهِره. وأنشد لسان الحال:
وَيْحَ قَوْم جَفَوْا نبيًّا بأرض ***** ألِفتْهُ ضِبَابُها والظِباءُ
وَسَلَوْهُ وحَنَّ جذع إليه ***** وقَلَوْهُ وَوَدَّهُ الغُرَباءُ
أخرجوه منها وأَوَاهُ غارُ ***** وحَمَتْهُ حَمَامة وَرْقاءُ
صلى عليك الله يا عَلَمَ الهُدَى ما هَبَّت النسائمُ وما ناحتْ على الأيكِ الحَمَائم.

مصيبة المسلمين بموت سيّد المرسلين

قائمة مصيبة المسلمين