من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس السابع عشر- رؤيةُ النبيّ صلى اللهُ عليه وسلم في المنامِ وعندَ الموتِ

الدرس السابع عشر
رؤيةُ النبيّ صلى اللهُ عليه وسلم في المنامِ وعندَ الموتِ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الشيبيُّ العبدريُّ رحمهُ اللهُ تعالى في السادسِ والعشرينَ مِنْ ربيعٍ الآخرِ سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائة وألف وهو في بيانِ رؤيةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنامِ وفي اليقظةِ بحسَبِ أحوالِ الناسِ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وصلى اللهُ على رسولِهِ وسلم. وبعدُ فإنَّ اللهَ أرسلَ محمدًا صلى الله عليه وسلم بمَكارمِ الأخلاقِ فكانَ صلى الله عليه وسلم لا يَسبِقُ جهلُهُ حِلمَهُ1، أيْ أنَّ اللهَ جعلَ خُلُقَهُ الحِلْمَ فكانَ يُخالِقُ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ. قالَ أنسُ بنُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ في وصفِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ خَلْقًا وأحسَنَهُم خُلُقًا2 اهـ وأمَّا أبو هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ فقدْ قالَ ما رأيتُ أحسنَ مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّ الشمسَ تجري في وجْهِهِ3 اهـ.
والذي يرى الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في المنامِ فأكملُ ما يكونُ أنْ يراهُ في صفتِهِ الأصليةِ ومَنْ رءاهُ بتلكَ الصفةِ الأصليةِ كانَ لهُ الحظُّ الأوفرُ إذْ إنَّ مَنْ يراهُ على تلكَ الصفةِ ضُمِنَ لهُ أن يموتَ على الإيمانِ وأنْ يراهُ يقظةً، لا بدَّ منْ ذلكَ، فإمَّا أنْ يراهُ في حالِ الصحةِ وإمّا أنْ يراهُ عندَ الاحتِضارِ أيْ عندَ خُروجِهِ منَ الدنيا، يراهُ بالعَينِ المفتوحةِ. وأمّا الذي يراهُ بغيرِ صفتِهِ الأصليةِ فليسَ لهُ تلكَ المزيةُ الكاملةُ. فصِفَتُهُ الأصليةُ أنهُ صلى الله عليه وسلم أبيضُ مُشرَبٌ بالحُمرةِ واسعُ العَينينِ دقيقُ الحاجِبَينِ يكادُ يكونُ أقرَنَ منْ غيرِ قَرَنٍ، والقَرَنُ هوَ اتصالُ الحاجبِ بالحاجبِ، أكحَلُ العَينَينِ قالَ أبو هريرةَ رضي اللهُ عنهُ كأنَّ الشمسَ تَجري في وجهِهِ4اهـ. وكانَ واسعَ الجبينِ شديدَ سوادِ شعْرِ الرّأسِ ولم يكُنْ لهُ مِنَ الشَّيبِ إلا نحوُ عشرينَ شعرةً، كانَ مُتماسِكَ البدنِ لا نحيفًا ولا سَمينًا، كانَ شديدَ سوادِ الحدَقةِ شديدَ بياضِ العَينَينِ إلا أنهُ كانَ فيهِ خُطوطُ حُـمْرَةٍ ، وكانَ ربْعَةً أيْ مُعتدِلاً إلى الطُّولِ، أجْلَى الجبهةِ أيْ ظاهرَها لا يُغَطّيهَا شعرُ رأسِهِ، واسعَ الجبينِ شَثْنَ الكفَّينِ والقدَمَينِ أيْ أنَّ كفَّيهِ لم تَكونا نحيفَتَينِ ولم تَكُنْ قدماهُ نحيفَتَينِ بلْ غليظَتَينِ5، بعيدَ ما بينَ المنكبَينِ، كأنهُ أشمُُّّ6 الأنفِ، دقيقَ الأنفِ، مُشرِقَ اللونِ، أهدبَ الأشفارِ.
فمَنْ رءاهُ صلى الله عليه وسلم في المنامِ بهذهِ الصفةِ فهوَ مَضمونٌ لهُ أنْ ينالَ كلَّ فضيلةٍ تكونُ لمنْ رءاهُ صلى الله عليه وسلم، وكذلكَ مَنْ رءاهُ يقظةً ووجدَ فيهِ هذهِ الصفةَ وقالَ لهُ عنْ نفسِهِ أنا رسولُ اللهِ يقظةً فليُصَدِّقْ أنهُ هُوَ، أما مجرَّدُ أنْ يظهرَ لهُ شبحٌ فيَظُنَّ بقلبِهِ أنَّ هذا رسولُ اللهِ فلا يأخذْ بذلكَ.
فمَنْ رأى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على صِفَتِهِ التي كانَ عليها في المنامِ فلا خِلافَ في أنهُ يَصْدُقُ عليهِ الحديثُ الصحيحُ الذي قالهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رءاني في المنامِ فسَيراني في اليقظةِ"7 اهـ فإمّا أنْ يراهُ وهوَ في صحّتِهِ العاديةِ قبلَ الموتِ وإمَّا أنْ يراهُ عندَ الموتِ قبلَ الآخرةِ، أمَّا الذي رءاهُ في غيرِ صورَتِهِ التي كانَ عليها في المنام فكثيرٌ منَ العلماءِ قالوا لا فرقَ بينَ أنْ يراهُ في المنامِ على صورتِهِ التي كانَ عليها وغيرِ صفتِهِ تلكَ، وقالَ بعضٌ منَ العلماءِ إنَّ ذلكَ لا يكونُ رُؤيةً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنهُ لم يرَهُ على صورتِهِ الحقيقةِ التي كانَ هَوَ خُلِقَ عليها، فالأقربُ في تفسيرِ قولهِ صلى الله عليه وسلم "فإنَّ الشيطانَ لا يتزَيَّا بصُورتي8 اهـ أنَّ الشيطانَ لا يستطيعُ أنْ يظهرَ بصورةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الحقيقيةِ التي كانَ عليها.
أما رؤيةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الآنَ في الدنيا يقظةً ليسَ شيئًا مُستحيلاً، حصلَ ذلكَ لبعضِ الأولياءِ، فنحنُ لا نُنكرُ على إنسانٍ صالحٍ متمسكٍ بالشرعِ ليسَ من أهلِ البدعةِ والدَّجَلِ إذا قال رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظةً إذْ بعدَ أن صحَّ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: " الأنبياءُ أحياءٌ في قبورِهِم يُصلُّونَ9" اهـ لا معنى لإنكارِ مَنْ ينكرُ رؤيةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقظةً إذا كانَ مُدَّعي هذهِ الرؤيةِ تقيًّا صالحًا لأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم بعدما ماتَ موتًا حقيقيًّا أَحياهُ اللهُ تعالى فهوَ وكلُّ الأنبياءِ الذينَ ماتُوا أحياءٌ في قُبورِهِم يُصلُّونَ، لكنْ حياتُهم هذهِ ليسَت كحياتِهِمُ الدّنيويّةِ إذْ حياتُهُم البَرْزَخيّةُ لا تتطلَّبُ أكلاً ولا شُربًا إنَّما هيَ كحياةِ الملائكةِ لا يشتَهونَ أكلاً ولا شُربًا إنما يُصلُّونَ تلذُّذًا بعبادةِ الله.
أمَّا مَنْ عُرِفَ بعدَمِ الاستِقامةِ بطاعةِ اللهِ فلا نُصَدِّقُهُ إنْ قالَ إنهُ رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتِهِ يقظةً. بعضُ الناسِ كذَبُوا على الرسولِ صلى الله عليه وسلم فذهبُوا إلى أشخاصٍ وقالوا لهم الرسولُ يأمُرُكَ أنْ تُزَوِّجَني بنْتَكَ، كَذَبَوا لتنفيذِ مطامِعِهِم الدنيوية. قال عليه الصلاةُ والسلامُ إنَّ كذِبًا عليَّ ليسَ ككذِبٍ على أحدٍ10 اهـ.
ورؤيةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في المنامِ تجوزُ للمُسلمِ التقيّ والمسلمِ الفاسقِ وتجوزُ لمن هوَ كافرٌ في الوقتِ الحاضرِ لكنْ لا بُدَّ لهذا أنْ يُسلِمَ قبلَ أن يموتَ إنْ رءاهُ صلى الله عليه وسلم في المنامِ وأنْ يَرَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبلَ مُفارقةِ رُوحِهِ جسَدَهُ في حالِ النِّزاعِ، وهذا الذي يرى الرسولَ صلى الله عليه وسلم تلكَ الساعةَ يجِدُ مِنَ السرورِ ما لا يُوصَفُ وإنْ كانَ مِنْ سكرةِ الموتِ مَغلوبًا لا يستطيعُ أن يصفَ للناسِ ما يَـجدُ، ومِنَ الناسِ مَنْ يُمكِّنُهُمُ اللهُ تعالى أن يتكلَّمُوا تلكَ الساعةَ.
لا مانِعَ أنْ يَرَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قبرِهِ الشريفِ فيزدادَ يقينًا وسرورًا وطُمأنينةَ قلبٍ بعدَ أن يُبشِّرَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالجنةِ. هذا ليسَ بعزيزٍ على اللهِ تعالى. وإنْ لم يكُنْ وليًّا رءاهُ على فراشِ الموتِ وإنْ كانَ وليًّا فقدْ يراهُ قبلَ ذلكَ لكنْ أولياءُ اللهِ تعالى يَكتُمونَ ما يحصُلُ لهم منَ الكراماتِ ولا يُظهِرُونَها إلا لمصلحةٍ شرعيةٍ أو لضرورةٍ فهذا عُمَرُ رضي الله عنهُ لَمَّا نادى قائدَ الجيشِ الذي بعثَهُ إلى أرضِ العَجَمِ للجهادِ في سبيلِ اللهِ وكانَ عُمَرُ على المنبرِ في المدينةِ يومَ الجمعةِ رأى حَالَ جيشهِ الذي في نهاوَنْدَ بأرضِ العجمِ بحالةٍ لوِ انحازَ العدوُّ إلى الجبلِ وارتَكَزَ على الجبل يَضُرُّ المسلمينَ فناداهُ يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ، الناسُ اندَهَشُوا فقالوا ما لِعُمَرَ يتكلمُ بهذا الكلامِ وساريةُ بالعَجَمِ ثمَّ راجَعُوهُ بعدما نزلَ وانتهى منَ الصلاةِ، سألوهُ يا أميرَ المؤمنينَ سَـمِعناكَ تقولُ يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ فقالَ ذلكَ شئٌ وقعَ في قلبي اهـ ، ثمَّ بعدَ ذلكَ رجعَ الجيشُ من هناكَ فأخبرَ قائدُ الجيشِ وغيرُهُ بأنَّهُم سمِعُوا صوتَ عُمَرَ في يومِ كذا فانْحازوا إلى الجبلِ فتمكَّنُوا وهَزَمُوا العدوَّ وكسروهُم 11 اهـ فعُمَرُ لم يَبُحْ بذلكَ ولم يَقُلْ يا أيُّها الناسُ إني رأيتُ حالَ الجيشِ وأنا على منبرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهكذا أولياءُ اللهِ يُخفُونَ كراماتِهم ولا يُظهِرونها إلا مِنْ أجلِ سببٍ شرعيٍّ.
انتهى واللهُ سبحانه وتعالى أعلم.
------------------

1- أي لا يَسبقُ غضبهُ حلْمَه. الجهل ليس دومًا معناه خلاف العلم كقول القائل:
ألا لا يجهَلَنَّا أحدٌ علينا **** فنجهل فوقَ جهلِ الجاهلينَا
لا يجهلنا: أي لا يعتدِي [ن.ف].
2- وهو جمع بين روايتين عن أنس رواهما البخاري في صحيحه إحداهما في باب الكنية للصبي والثانية قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وفي شعب البيهقي أجمل الناس.
3- رواه أحمد في مسنده باب مسند أبي هريرة رضي الله عنه.
4- رواه أحمد في مسنده باب مسند أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أي أنهما إلى الغِلَظِ وهو محمودٌ في الرجالِ غيرُ مرغوبٍ في النساءِ اهـ.
6- أشم أيْ مرتفع قصبة الأنف مع استواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلاً اهـ.
7- رواه البخاري في صحيحه باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
8- رواه البخاري في صحيحه باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
9- رواه البزار في مسنده باب مسند أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه.
10- رواه البخاري في صحيحه باب ما يكرهُ من النياحةِ على الميتِ.
11- ذكرها السخاوي في المقاصد الحسنة عن ابن مردويه وغيره.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات