من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس السابع والخمسون - فَضْلُ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ وَاتِّفَاقُهُمْ فِى الْعَقِيدَةِ

الدرس السابع والخمسون
فَضْلُ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ وَاتِّفَاقُهُمْ فِى الْعَقِيدَةِ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درس ألقاه المتكلم الأصولي الشيخ عبد الله بن محمد الشّيبيّ رحمه الله تعالى و هو في بيان فضل السابقين الأولين من الصحابة على غيرهم و أن الصحابة لم يشذّوا على عقيدة النّبي صلى الله عليه و سلم .
قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَبَعْدُ فَقَدْ رُوِّينَا بِالإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ عَنِ الإِمَامِ التِّرْمِذِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ قَالَ قَامَ فِينَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ فِى الْجَابِيَةِ خَطِيبًا فَقَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ اهـ وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِىُّ.
هَذَا الْحَدِيثُ لِأَهِمَّيَتِهِ حَدَّثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانَ أَحَدُهُمْ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ قَائِمًا حَدَّثَهُمُ الرَّسُولُ قَائِمًا، الرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُحَدِّثُ أَحْيَانًا قَائِمًا فِى غَيْرِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَأَحْيَانًا جَالِسًا. فَكَانَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَقْتَدِىَ بِرَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ فِى أَرْضٍ تُسَمَّى الْجَابِيَةَ هِىَ مِنْ بَرِّ الشَّامِ قَامَ خَطِيبًا فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَالتَّابِعِينَ فَحَدَّثَهُمْ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ مُخْبِرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ اهـ إِنَّمَا ذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ هَؤُلاءِ الثَّلاثَ لِأَنَّ هَؤُلاءِ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الْقَرْنُ الأَوَّلُ ثُمَّ الْقَرْنُ الثَّانِى ثُمَّ الْقَرْنُ الثَّالِثُ. وَالْقَرْنُ فُسِّرَ بِعِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِى مِائَةُ سَنَةٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِى ذَكَرَهُ الإِمَامُ مُحَدِّثُ الشَّامِ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ [كَمَا فِى تَارِيخِ دِمَشْقَ]، فَسَّرَ الْحَدِيثَ الْقُرُونَ الثَّلاثَةَ بِالثَّلاثِمِائَةِ الأُولَى. وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فَسَّرَ الْقُرُونَ الثَّلاثَةَ بِمَنْ كَانَ ضِمْنَ مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ عَامًا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ مَنْ كَانَ ضِمْنَ الْمِائَتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ عَامًا. وَأَمَّا عَلَى التَفْسِيرِ الأَوَّلِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْقَرْنِ بِمِائَةِ سَنَةٍ فَمَنْ كَانَ ضِمْنَ الثَّلاثِمِائَةِ الأُولَى كُلِّهِمْ يُقَالُ لَهُمُ السَّلَفُ. ثُمَّ إِنَّ الْخَيْرِيَّةَ الْمَفْهُومَةَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الآحَادِ. لَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَنْ كَانُوا فِى هَذِهِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُمَّةِ الَّذِينَ جَاؤُوا بَعْدَ ذَلِكَ. لَيْسَ هَذَا مُرَادَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأَنَّنَا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الأَفْرَادِ قَدْ يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى دَرَجَةً مِنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ فِى الْقَرْنِ الأَوَّلِ أَوِ الْقَرْنِ الثَّانِى أَوِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ مِنْ حَيْثُ التَّفْضِيلُ هُوَ التَّمَكُّنُ فِى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ الْحُجُرَاتِ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِى الْقَرْنِ الأَوَّلِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فِى تَقْوَى اللَّهِ لَكِنَّ الْمُقَدَّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الأَوَّلِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَؤُلاءِ هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِىٌّ وَسِتَّةٌ يَلُونَهُمْ تِتِمَّةُ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ. وَيَلْتَحِقُ بِهَؤُلاءِ جَمِيعُ مَنْ كَانَ مِنَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
الْمُهَاجِرُونَ هُمْ هَؤُلاءِ الْعَشَرَةُ وَمَنْ هَاجَرَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِمُؤَازَرَةِ النَّبِىِّ ﷺ تَرَكُوا وَطَنَهُمْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَيُوجَدُ غَيْرُ هَؤُلاءِ الْعَشَرَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبِلالٌ الْحَبَشِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ. أَمَّا السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الأَنْصَارِ فَهُمْ كَثِيرٌ، عَدَدٌ كَثِيرٌ، أَهْلُ الْبَيْعَةِ الأُولَى بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ أُولَئِكَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى الدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ وَمُؤَازَرَةِ النَّبِىِّ ﷺ.
هَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ يُعَدُّ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ، أَمَّا مَنْ لَيْسُوا مِنْ هَؤُلاءِ فَلَيْسَ لَهُمْ تِلْكَ الأَفْضَلِيَّة، فَقَدْ يُوجَدُ فِى التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ رَأَى الرَّسُولَ ﷺ وَصَحِبَهُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ. وَهَؤُلاءِ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ وَرَدَ فِى حَقِّهِمْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لا تَسُبُّوا أَصْحَابِى فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ اهـ [رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ] هَذَا الْحَدِيثُ لا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، إِنَّمَا أَرَادَ الرَّسُولُ ﷺ بِهَذَا الْحَدِيثِ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمُ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ.
سَبَبُ الْحَدِيثِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ سَبَّ عَبْدَ الرَّحْمٰنِ بنَ عَوْفٍ الَّذِى هُوَ أَحَدُ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذَا الْحَدِيثَ وَذَلِكَ أَنَّ خَالِدًا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَا لَهُ مِنْ جَلالَةِ الْقَدْرِ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ أَمَّا عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَوْفٍ فَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ.
وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَنْ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى عُلُوِّ الْقَدْرِ وَعِظَمِ الْفَضْلِ مَنْ إِذَا تَصَدَّقَ أَحَدُهُمْ بِمُدِّ قَمْحٍ أَوْ بِمُدِّ شَعِيرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمُدُّ هُوَ الْحَفْنَةُ الْوَاحِدَةُ بِالْكَفَّيْنِ، فَأَحَدُ أُولَئِكَ إِذَا تَصَدَّقَ بِمِقْدَارِ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ الشَّعِيرِ أَوِ الْقَمْحِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَجْعَلُ ثَوَابَ هَذَا الْمُدِّ أَفْضَلَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ أَنْفَقَ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ الَّذِى هُوَ جَبَلٌ كَبِيرٌ فِى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ ذَهَبًا.
وَمِنَ الْجَهْلِ اعْتِبَارُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى النَّبِىَّ ﷺ أَوْ شَاهَدَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ مَثَلًا بِمَثَابَةِ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، هَذَا جَهْلٌ بِمَرَاتِبِ الصَّحَابَةِ. لَيْسَ الصَّحَابَةُ جَمِيعُهُمْ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ بَيْنَ بَعْضٍ مِنْهُمْ وَبَعْضٍ ءَاخَرَ هَذَا الْفَرْقُ الْعَظِيمُ وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ كَعَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ عَوْفٍ تَصَدُّقُهُ بِمِقْدَارِ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ صَدَقَةِ غَيْرِهِمْ بِمِقْدَارِ جَبَلِ أُحُدٍ مِنَ الذَّهَبِ. فَخَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَا لَهُ مِنْ جَلالَةِ الْقَدْرِ وَكَانَ بَطَلًا كَبِيرًا مِنْ أَبْطَالِ الْجِهَادِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يَلْحَقُ بِأُولَئِكَ وَلا يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ فِى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ هَؤُلاءِ، لا يَقْرُبُ مِنْ دَرَجَةِ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسَاوِيَهُ. وَمَعَ هَذَا أَىْ مَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ بَعْضِ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَءَاخَرِينَ فَبِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا رَأَيْنَا حَدِيثًا رَوَاهُ صَحَابِىٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوْ عَنْ مَنْ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الصَّحَابَةِ لا نَظُنُّ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، لا نَظُنُّ بِأَحَدٍ مِمَّنْ لَقِيَهُ ﷺ وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، كُلُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى عُدُولٌ أَىْ رِوَايَاتُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تُقْبَلُ وَلا يُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فَهَؤُلاءِ الْقُرُونُ الثَّلاثَةُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَمَنْ كَانُوا ضِمْنَ تِلْكَ الثَّلاثِمِائَةِ الأُولَى يُقَالُ لَهُ سَلَفٌ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْقَرْنِ الأَوَّلِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ عَلَى التَّابِعِينَ وَعَلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِى الْعَقَائِدِ، كُلُّهُمْ كَانُوا فِى الْعَقِيدَةِ مُتَّفِقِينَ كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ، كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَبِّهَ اللَّهَ بِشَىْءٍ. مَا أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ فِى تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ طَهَ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ جَلَسَ. لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْجُلُوسُ، إِنَّمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِى الِاسْتِوَاءِ أَىِ اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ أَنَّهُ مَعْنًى لائِقٌ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَعَانِى الِاسْتِوَاءِ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ لَهُ مَعَانٍ عَدِيدَةٌ. يُطْلَقُ الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْجُلُوسِ وَيُطْلَقُ الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَيُطْلَقُ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ بِمَعْنَى التَّمَامِ وَيُطْلَقُ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ بِمَعْنَى الِاعْتِدَالِ وَيُطْلَقُ الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِى الِاسْتِوَاءِ، وَيُطْلَقُ الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِيلاءِ وَالْقَهْرِ وَيُطْلَقُ الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى عُلُوِّ الْقَدْرِ. الْمَعْنَى الَّذِى يَلِيقُ بِاللَّهِ مِنْ مَعَانِى الِاسْتِوَاءِ هُوَ الِاسْتِيلاءُ وَالْقَهْرُ وَالْعُلُوُّ عُلُوُّ الْقَدْرِ لَيْسَ عُلُوَّ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِى عُلُوِّ الْقَدْرِ لَيْسَ فِى عُلُوِّ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ أَىِ الْحَيِّزِ. لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُفَسِّرُ اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ إِنَّمَا كَانُوا يَحْمِلُونَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِى يَلِيقُ بِاللَّهِ وَلا يَحْمِلُونَهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ كَالْجُلُوسِ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِى لَهَا نِصْفَانِ نِصْفٌ أَعْلَى وَنِصْفٌ أَسْفَلُ، هَذَا الَّذِى يَصِحُّ مِنْهُ الْجُلُوسُ. أَمَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِى خَلَقَ الْبَشَرَ وَصِفَاتِهِمْ وَخَلَقَ الْمَلائِكَةَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَخَلَقَ الْجِنَّ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالأَحْوَالِ وَخَلَقَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَجْرَامٍ فَهُوَ لا يَجُوزُ عَقْلًا وَلا شَرْعًا أَنْ يَتَّصِفَ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْعَرْشِ أَوِ الْكُرْسِىِّ، مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَذْكُورَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِمَعْنَى الْجُلُوسِ فَمَنْ فَسَّرَ اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِالْجُلُوسِ جَعَلَهُ مِثْلَ الْبَشَرِ.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.



جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات