من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الثلاثون- جوازُ الرُّقْيَةِ والتوسُّلِ بالصالحينَ

الدرس الثلاثون
جوازُ الرُّقْيَةِ والتوسُّلِ بالصالحينَ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الشيبيُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى وهوَ في بيانِ جوازِ الرُّقْيَةِ بِما فيهِ قرءانٌ وذِكْرُ اللهِ وجوازُ التوسلِ بالأنبياءِ والأولياءِ في حياتِهِم وبعدَ مماتِهِمْ.
قالَ رحِمَهُ اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الـمُرسَلينَ وعلى ءالهِ الطاهرينَ أمَّا بعدُ فقدْ رُوِّينا في جامِعِ الترمذيِّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ إنَّ الرُّقَى والتَّمائِمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ1 اهـ.
الرُّقى هيَ ما يُقرأُ على المريضِ والمصابِ فما كانَ منَ الرُّقَى مِنْ ذكرِ اللهِ أوِ القرءانِ فهوَ جائزٌ، والتَّمائمُ هي الخَرَزاتُ التي كانَ الجاهِلِيُّونَ الكُفَّارُ يُعلِّقُونَها على صِبيانِهِم للوِقايةِ منَ العَينِ فهذهِ التمائمُ هيَ التي سمَّاها رسولُ اللهِ شِركًا. والرُّقَى إذا كانَتْ بكَلِماتٍ فيها دعوةُ الجِنِّ والأصنامِ فذلكَ شِركٌ.
الرُّقَى جَمْعُ رُقيةٍ والتَّمائمُ جمعُ تَميمةٍ، وليسَتِ التمائمُ هذهِ الحُروزَ التي فيها قُرءانٌ أو ذِكرُ اللهِ إنَّما التمائمُ التي قال عنها الرسولُ إنَّها شِركٌ هيَ ما كانتِ الجاهليةُ الكُفَّارُ يُعَلِّقُونَها على صُدورِ الأطفالِ اعتِقادًا منهُم أنَّها بطَبيعَتِها تحفَظُ لا على اعتِقادِ أنَّ اللهَ جعَلَها سبَبًا للحِفظِ مِنْ أذى الجِنِّ أوِ السحرِ بلْ كانُوا يعتقدونَ أنَّ هذهِ الخرزاتِ هيَ بِطَبْعِها تَحْمي مَنْ عُلِّقَتْ عليهِ. أما الرُّقَى التي هيَ قراءةُ شىءٍ منَ القرءانِ أو ذِكرُ اللهِ فهيَ جائزةٌ بلا خِلافٍ بينَ عُلماءِ الإسلامِ ولـم يزَلِ المسلمونَ مِنْ عصرِ الرسولِ إلى الآنَ يَرْقُونَ بِما فيهِ ذِكرُ اللهِ. الرسولُ صلى الله عليه وسلم رقَى لكنْ كانَ الـمُشرِكُونَ يرقُونَ رُقًى فيها كُفْرٌ منَ الاسْتِنجادِ بالشياطينِ ونحوِ ذلكَ. أمَّا التِّوَلَةُ فهيَ سحرٌ تفعَلُها النساءُ للإضرارِ بالزوجِ وتلكَ كانَتْ أيضًا فيها نوعٌ منَ الكفرِ. هذا معنى الحديثِ إنَّ الرُّقى والتمائمَ والتّوَلةَ شِرْكٌ اهـ.
الرسولُ عليهِ السلامُ رَقَى بأكثرَ مِنْ رُقيةٍ منها "بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كلِّ شئٍ يُؤذيكَ ومِنْ شرِّ كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حاسِدٍ اللهُ يشفيكَ"2 اهـ هذهِ الرُّقيةُ جبريلُ علَّمَها النبيَّ صلى الله عليه وسلم. أمَّا الحُروزُ التي يُعَلِّقُها المسلمونَ الكِبارُ والصغارُ على صُدُورِهِم مِمَّا كُتِبَ فيهِ ذِكرُ اللهِ أو شىءٌ منَ القرءانِ فهذا جائزٌ بإجماعِ المسلمينَ، ما حرَّمَهُ أحدٌ منَ المسلمينَ إلا هؤلاءِ الوهابيةُ الضَّالُّونَ، فمِنْ عادةِ الوهابيةِ إذا رأَوا على صدرِ إنسانٍ حِرْزًا يُحاوِلونَ أنْ يَقْطَعُوهُ مِنْ عُنُقِ الشخصِ إنِ استطاعُوا ويَقُولونَ شِرْكٌ. ولا يُلْتَفَتُ إلى كلامِهِم لأنَّهُم جاهِلُونَ بِخالِقِهِم ما عَرَفُوا خالِقَهُم لأنَّ الخالِقَ عندَهُم جِسمٌ قاعِدٌ على العرشِ. عقيدَتُهم هذهِ أمرٌ مستحيلٌ لا يصِحُّ في العقلِ لأنَّ الجسمَ لا يخلُقُ الجسمَ لوْ كانَ اللهُ جسمًا ما خلقَ الجسمَ لو كانَ يصِحُّ أن يكونَ اللهُ جسمًا خالقًا للعالَمِ لكانتِ الشمسُ أوْلى بأنْ تكونَ خالقةً للعالَمِ لأنَّ وجودَها مُحَقَّقٌ ونَفْعَها الكثيرَ مُحَقَّقٌ. وأمَّا ما يعتَقِدُهُ الوهابيةُ في اللهِ أنهُ جسمٌ قاعِدٌ على العرشِ ليسَ مُحقَّقَ الوُجودِ ولا يُشاهَدُ لهُ مَنفعَةٌ فلو كانَ الجسمُ يصِحُّ أن يكونَ إلهًا لصَحَّ للشمسِ الألوهيةُ وهُم معَ كُفرِهِم هذا يظُنُّونَ بأنفُسِهِم أنَّهُم هُمُ المسلمونَ وأنَّ مَنْ سِواهُم كُفَّارٌ.
يُكَفِّرونَ المسلمينَ لأنَّهُم لا يقُولونَ كما يقولونَ اللهُ جِسمٌ قاعِدٌ على العرشِ ولأنَّ المسلمينَ يقُولونَ عندَ الفرحِ أو عندَ الشدّةِ يا محمدُ وقد يقولونَ في بعضِ البِلادِ يا عبدَ القادرِ يستَغِيثُونَ بالشيخِ عبدِ القادرِ الجيلانيّ رضيَ اللهُ عنهُ أو يا رِفاعيُّ أو نحوَ ذلكَ، فهذهِ الاستِغاثةُ أيْ قولُ يا محمدُ عندَهُم شِركٌ، يعْتَبِرونَهُ عبادةً للرسولِ يقولونَ إلا أنْ يُقالَ ذلكَ في حياةِ الرسولِ أمامَهُ هذا ليسَ شِركًا أمَّا قولُ هذا بعدَ وفاتِهِ شِرْكٌ وفي حياتِهِ في غيرِ حضْرَتِهِ شِرْكٌ، هذا دينُ الوهابيةِ. أما المسلمونَ ففي عهدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم حصلَ منهُم قولُ يا محمدُ في غيرِ حُضُورِهِ صلى الله عليه وسلم وبعدَ وفاتِهِ، إلى يومِنا هذا المسلمونَ يقولونَ يا محمدُ. أمرٌ مُتَّفَقٌ عليهِ بينَ الـمُسلمينَ منذُ أيامِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم إلى الآنَ قولُ يا محمدُ بنيةِ الاستِغاثةِ بهِ إنْ كانَ في حالِ الشدةِ أو بنيةِ الفرحِ بهِ إنْ لـم يكُنْ في حالِ الشِدَّةِ.
رجُلٌ يُقالُ لهُ أحمدُ بنُ تيميةَ هوَ أولُ مَنْ حرَّمَ التوسلَ بالرسولِ في غَيرِ حُضُورِهِ وبالأنبياءِ والاستغاثةَ بهم.
التوسلُ هوَ الاستِغاثةُ لكنْ لفظُ أستَغيثُ أو أَغِثْني هوَ استغاثةٌ لفظًا ومعنًى أمَّا قولُ يا محمدُ فهوَ استغاثةٌ معنًى لأنَّ المسلمينَ عندما يقولُ أحدُهُم يا محمدُ قدْ يكونُ هذا الذي يقولُ هذهِ الكلمةَ مَنْكُوبًا نَزَلَتْ بهِ شِدَّةٌ فيُريدُ أنْ يُساعِدَهُ الرسولُ لِرَفْعِ هذهِ الشدةِ لأنَّ الرسولَ ينفعُ في حياتِهِ وبعدَ مماتِهِ، في حياتِهِ ينفَعُ بقُدرةِ اللهِ وبإذنِ اللهِ وبعدَ مماتِهِ ينفعُ بإذنِ الله وقُدرَتِهِ فأيُّ فرْقٍ بينَ أن يُقالَ في حياتِهِ أمامَهُ يا رسولَ اللهِ أغِثْني وبينَ أن يُقالَ بعدَ وفاتِهِ أغِثني يا رسولَ اللهِ، اللهُ تعالى هوَ الذي يخلُقُ المَنفَعةَ وهُوَ الذي يدفعُ المَضَرَّةَ والشِّدَّةَ فالرسولُ سبَبٌ ليسَ هوَ يخلُقُ المنفعةَ أوِ المضرةَ لنفسِهِ أو لغيرِهِ.
كذلكَ كلُّ الاسبابِ لا تخلُقُ مُسَبَّبَاتِها فالخُبزُ لا يخلُقُ الشِّبَعَ إنَّما اللهُ يخلُقُ الشبَعَ عندَ تناوُلِهِ والماءُ لا يخلقُ الرِّيَّ إنَّما اللهُ يخلُقُ الرِّيَّ عندَ شُرْبِهِ والدَّواءُ لا يخلُقُ العافيةَ إنَّما اللهُ يخلُقُ العافيةَ عندَ استِعمالهِ وهكذا كلُّ الأسبابِ لا تخلُقُ شيئًا إنَّـما اللهُ هوَ الذي يخلُقُ.
الوهابيةُ بتكفيرها لمن يستَغيثُ بالرسولِ أو بالأولياءِ يكونونَ حَكَمُوا على جميعِ المسلمينَ بالضلالِ والكُفرِ. جرَتْ عادةُ العُلماءِ بأنْ يذْكُروا أنَّ مَنْ أصابَهُ خَدَرٌ في رِجْلِهِ أيْ تشَنُّجٌ وتَعَطُّلُ حرَكةٍ يقولُ يا محمدُ. الصحابةُ بعضُهُم فعلَ هذا ومَنْ جاءِ بعدَهُم فعلَ هذا. عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ وعنْ أبيهِ عُمَرَ أصابَهُ خَدَرٌ فقالَ لهُ بعضُ الناسِ اذْكُرْ أحبَّ الناسِ إليكَ فقالَ يا محمدُ فانْحَلَّ عنهُ ذلكَ التَّشَنُّجُ في الحالِ3. هذا الفعلُ الذي فعلَهُ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ عندَ الوهابيةِ شِركٌ كُفرٌ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ الرسولُ شَهِدَ لهُ بأنهُ صالِحٌ.
الوهابيةُ ما سَلِمَ منهُمُ المسلمونَ الـمُتقدِّمُونَ ولا الـمُتأخِّرونَ ومعَ هذا يُسَمُّونَ أنفُسَهُم السَّلفيةَ ليُوهِمُوا الناسَ أنَّهُم على ما كانَ عليهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم والصحابةُ وعقائِدُهُم وأفعالُهُم ضِدُّ السلفِ ضِدُّ الصحابةِ والتابعينَ ومَنْ تبِعَهُم إلى هذا العصرِ.
نعُودُ إلى مسئلةِ الرُّقيةِ، قالَ العُلماءُ لا يجوزُ الرُّقيةُ بكلماتٍ لا يُعرَفُ معانيها، هذهِ التي يُقالُ لها البِرْهَتِيَّة ليْسَتْ مِنْ لسانِ العربِ اللهُ أعلمُ مِنْ أيِّ لسانٍ هيَ فإنْ ثبتَ عنْ ثقةٍ أنها أسماءٌ للهِ بلُغةٍ غيرِ العربيةِ اطْمأنَّ القلبُ لاستعمالها. والاحتياطُ أنْ يُرْقَى بالآياتِ القُرءانيةِ وذِكرِ اللهِ الذي وردَ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في كُتبِ الحديثِ، الاحتياطُ الاقتصارُ على هذا. القرءانُ وأسماءُ اللهِ الحُسنى فيها الكِفايةُ. القُرءانُ فيهِ سِرٌّ عظيمٌ ولا سيَّما إنْ كانَ القارِئُ تقِيًّا. كانَ في بلدِنا هررَ عالمٌ تقيٌّ أيُّ إنسانٍ يُصابُ بالجِنِّ يقرأُ عندَهُ هذهِ الآيةَ في سورةِ يونُس فقط ﴿ءَاللهُ أذِنَ لكُم أمْ على اللهِ تَفْتَرونَ﴾ فيطيرُ الجِنُّ عنِ الـمُصابِ، ثمَّ بعدَ موتِ هذا الشيخِ رجلٌ أرادَ أن يفعلَ كما كانَ يفعلُ ذلكَ الشيخُ فقرأَ على مُصابٍ فقالَ الجِنيُّ الآيةُ هيَ هيَ لكنِ القارئُ غيرُ ذلكَ القارئِ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر التغليظ على من قال بالرقى والتمائم متكلاً عليها.
2- رواه مسلم في صحيحه باب الطب والمرض والرقى.
3- رواه البخاري في الأدب المفرد باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله و رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة باب ما يقول إذا خدرت رجله.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات