من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الحادي والأربعون - حُرمةُ المَنِّ بالصدقةِ والحَلِفِ كذِبًا

الدرس الحادي والأربعون
حُرمةُ المَنِّ بالصدقةِ والحَلِفِ كذِبًا

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الفقيهُ الـمُحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الشيبيُّ العَبدريُّ رحمهُ اللهُ تعالى يومَ الثاني مِنْ جُمادى الأولى سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائةٍ وألفٍ وهوَ في بيانِ حُرمةِ الـمَنِّ بالصدقةِ والحَلِفِ كذِبًا.
قالَ رحمهُ اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلى الله على سيدنا محمدٍ أشرفِ المرسلينَ وخاتَمِ النَّبيِّينَ صلى الله عليه وسلم وعلى ءالِهِ. أما بعدُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى قالَ في سورة البقرةِ ﴿واتَّقُوا يومًا تُرْجَعُونَ فيهِ إلى اللهِ ثمَّ تُوَفَّى كُلُّ نفسٍ ما كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾.
هذهِ الآيةُ ءاخِرُ ءايةٍ نَزَلَتْ وفيها الأمرُ بالتقوى، فيها الأمرُ بالاستعدادِ للآخرةِ بتقوى اللهِ. ﴿واتَّقُوا يومًا﴾ أيْ خافُوا ذلكَ اليومَ العظيمَ يومَ تُرْجَعُونَ فيهِ إلى اللهِ، فيومُ القيامةِ يومٌ لا يُوجدُ فيهِ رئيسٌ ومَرؤوسٌ على العادةِ التي عرفَها العِبادُ في الدنيا بلِ اللهُ تباركَ وتعالى هو يُحاسبُ العِبادَ يُكَلِّمُ هذا ويُكلِّمُ هذا بلا تَرْجُمان أي يُسْمِعُهُمْ كلامَهُ الذي لا يُشبهُ كلامَ العالمين، منهُم مَنْ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ تعالى كلامَ مَنْ رضِيَ اللهُ عنهُ أيْ يُسمِعُهُم كلامَهُ الذي لا يُشبهُ كلامَ الخلقِ فيحصلُ لهمْ سُرورٌ ورِضًى واطْمِئنانُ نفسٍ ومنهُم مَنْ يُكلِّمُهُمُ اللهُ تعالى ليَعرِفُوا أنهمْ مُهَانُونَ عندَ اللهِ ليسَ لهمْ أمانٌ وليسوا مِنْ أهلِ الدرجاتِ العُلَى.
فالـمَرْضِيُّونَ عندَ اللهِ تعالى يحصُلُ لهم عندما يسمَعُونَ كلامَ اللهِ منَ الفرحِ والسرورِ ما لا يُوصَفُ والمغضوبُ عليهمْ لا يشعُرونَ بأمنٍ بلْ يشعُرونَ بخوفٍ عظيمٍ وقلقٍ مَتينٍ لا يُوصَفُ وهناكَ فريقٌ ثالثٌ وهمْ بعضُ عُصاةُ المسلمينَ يكونونَ بحالةٍ بينَ حالةِ هؤلاءِ وبينَ حالةِ هؤلاءِ وفي هذا المعنى وردَ في الصحيحِ الحديثُ المشهورُ ما مِنكُم منْ أحدٍ إلا سيُكَلِّمُهُ ربُّهُ ليسَ بينهُ وبينهُ تَرْجُمان1 اهـ وهذا الموقفُ الذي سَيَقِفُهُ العبدُ ويسمعُ فيهِ كلامَ اللهِ ليسَ كوقوفِ إنسانٍ أمامَ ملِكٍ يكونُ بينَهُ وبينَ ذلكَ الـمَلِكِ مسافةٌ ومُقابلةٌ بجهةٍ بلْ وقوفُ العبدِ بينَ يدَي اللهِ تعالى في الآخرةِ2بِلا مَسافةٍ بينَهُ وبينَ اللهِ.
قالَ اللهُ تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كلُّ نفسٍ ما كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظلَمُونَ﴾ أي أنَّ اللهَ تعالى يُجازِي كلَّ نفسٍ بعمَلِها إنْ كانَ خيرًا فخيرٌ وإنْ كانَ شرًّا فشرٌّ فلمَّا كانتْ حالةُ الكُفارِ وقِسمٍ مِنْ غيرِهِم أنهُ لا يحصُلُ لهُمْ سُرورٌ مِنْ سماعِ كلامِ اللهِ تعالى بلْ يحصُلُ لهمْ خِزْيٌ وقَلَقٌ وخَوفٌ لسُوءِ مَصيرِهِم عُبِّرَ عنْ ذلكَ بما جاءَ في الحديثِ مِنْ ذكرِ ثلاثةٍ أنهُ لا يُكلِّمُهمُ اللهُ يومَ القيامةِ ولا يَنظُرُ إليهِمْ ولا يُزَكِّيهِم. ومعنى لا يُكلِّمُهُم أنهم لا يفرَحُونَ حينَ يسمَعُونَ كلامَهُ ومعنى لا ينظُرُ إليهم أنهُ لا يُكرِمُهُم أمَّا رؤيَتُهُ تعالى لِعِبادِهِ فهيَ رؤيةٌ شامِلةٌ عامَّةٌ أزليةٌ أبديةٌ. قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لا ينظُرُ اللهُ إليهمْ ولا يُكلِّمُهُم ولا يُزَكِّيهِم ولهمْ عذابٌ أليمٌ الـمَنَّانُ والـمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذبِ والفقيرُ المتكبرُ"3اهـ.
أمَّا المنَّانُ فهوَ الرجلُ الذي يَمُنُّ بما أحسنَ إلى شخصٍ ليظهرَ أنهُ أعلى منهُ يقولُ ألَمْ أُعْطِكَ كذا ألمْ أفعلْ منَ المعروفِ إليكَ كذا وكذا لِيَكسِرَ قلبَهُ فهذا المنُّ مُحرَّمٌ مِنَ الكبائرِ يُحبِطُ الثوابَ، قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في سورةِ البقرةِ ﴿يا أيُّها الذينَ ءامَنُوا لا تُبْطِلُوا صدَقاتِكُم بالمَنِّ والأذى كالذي يُنفِقُ مالَهُ رِئاءَ الناسِ﴾ شبَّهَ اللهُ تعالى المنَّ بالرياءِ لأنَّ كِلَيْهِما يُحبِطانِ الثوابَ، وأما الـمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذبِ فهوَ الذي يَحْلِفُ كذبًا ليُنَفِّقَ بِضاعَتَهُ وذلكَ أيضًا من كبائرِ الذنوبِ، أمّا إذا حلفَ وهو صادقٌ ليُنَفِّقَ سِلعَتَهُ فليسَ عليهِ ذنبٌ لكنَّ ترْكَ ذلكَ أفضلُ، فلا خيرَ في الحَلِفِ إلا إذا كانَ يُرادُ بهِ إحقاقُ حقٍّ أو إبطالُ باطلٍ، فالحَلِفُ الذي فيه ثوابٌ مثلُ الحلِفِ الذي كانَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يحلِفُهُ حينَ يُحدِّثُ أصحابَهُ بشىءٍ منَ الأمورِ الدينيةِ ليُؤكِّدَ ذلكَ في نُفُوسِهِم، كانَ أحيانًا يقولُ والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ4 اهـ وكانَ كثيرًا ما يقولُ إذا نفى شيئًا وأرادَ تأكيدَ ذلكَ لا ومُقلِّبَ القُلوبِ5 اهـ ليُعْلِمَ السامِعِينَ أنهُ صادقٌ فيما قالَ لا رَيبَ فيهِ وليُعَلِّمَهُمْ أنَّ ما كانَ كذلكَ منَ الحَلِفِ فيهِ ثوابٌ وليُعلِّمَهُمْ أنَّ ما كانَ كذلكَ منَ الحَلِفِ فيهِ ثوابٌ وليُعلِّمُهُم أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى هو خالقُ كلِّ شىءٍ لا يخلُقُ العِبادُ شيئًا فإنهُ إذا كانَ عمَلُ القلبِ مخلوقًا للهِ تعالى فعملُ الجوارحِ معلومٌ أنهُ مخلوقٌ للهِ تعالى بالأولَى. وكذلكَ كلُّ حَلِفٍ يُشبِهُ ذلكَ فهوَ حقٌّ وفيهِ ثوابٌ لمن أخلصَ نيَّتَهُ. وروى مسلمٌ في الصحيحِ عنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ والذي فلقَ الحبةَ وبرأَ النَّسمةَ إنهُ لعَهْدُ النبيِّ الأميِّ إليَّ لا يُحبُّني إلا مُؤمنٌ ولا يُبغِضُني إلا مُنافِقٌ6 اهـ كانَ كثيرًا ما يَحلِفُ هذا الحَلِفَ لِكَونِ ما يُورِدُهُ منَ الكلامِ عَقِبَهُ منَ الحقِّ الـمُتيقَّنِ الذي لا رَيبَ فيهِ ولا شك.
والفقيرُ المتكبرُ ذُكِرَ في هذا الحديثِ. والكِبْرُ منَ الكبائرِ وهوَ أن يَرُدَّ الحقَّ على قائِلِهِ بعدَ العلمِ بأنَّ معهُ الحقَّ أو أن يحتقرَ المسلمَ لكونِهِ فقيرًا أو ذا عاهةٍ أو صغيرَ السنِّ أو نحوَ ذلك7 فمَنْ فعلَ ذلك فقد وقعَ في سَخَطِ اللهِ، وإنَّما ذمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفقيرَ المتكبرَ لأنَّ الكِبْرَ قبيحٌ للغنيِّ والفقيرِ لكنهُ معَ الفقرِ أقبحُ فالفقيرُ المتكبرُ أشدُّ إثمًا منَ الغنيِّ الـمُتكبرِ. فيُعلَمُ منْ هذا الحديثِ أنَّ هؤلاءِ الثلاثةَ مِنْ شرِّ الناسِ يومَ القيامةِ.
والتكبرُ صفةٌ مذمومةٌ معَ المتواضِعِ وغيرِ الـمُتواضعِ فلا يجوزُ أنْ يُقالَ التكبرُ على الـمُتكبرِ صدقةٌ. اللهُ تباركَ وتعالى يحبُّ المؤمنَ المتواضعَ فكلُّ مَنْ لهُ عند اللهِ منزلةٌ عاليةٌ صفتُهُ التواضعُ وتركُ العُجبِ، ومَنْ تأمَّلَ في أحوالِ الصالحينَ منَ الصحابةِ ومَنْ بعدَهُم عَلِمَ أنهم كانوا مُتواضِعينَ غيرَ مُتَرفِّعينَ على الناسِ. كانَ الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه معَ جلالةِ قدرِهِ وعُلُوِّ شأنهِ لا يجادلُ إنسانًا وهو مُترَفِّعٌ عليه إنما كانَ ينوي عندَ جِدالِهِ لإنسانٍ الوصولَ لإظهارِ الحقِّ، وكانَ مِنْ عِظَمِ إخلاصِهِ للهِ تعالى أنهُ كانَ يحبُّ أن ينتشرَ علمُهُ من غيرِ إشرافِ نفسٍ إلى أن يُعْرَفَ بذلكَ ليُبَجِّلَهُ الناسُ ويُعَظِّمُوهُ إنما كانَ قصدُهُ نشرَ الحقِّ بينَ الناسِ ولـم يكُنْ في نيتِهِ أنْ يُشارَ إليهِ بالأصابعِ لِوُفُورِ العلمِ والتفوُّقِ في المعرفةِ فلولا ذلكَ لما أظهرَ عِلمَهُ8. ومِنْ عظيمِ تواضُعِهِ أنهُ كانَ لا يُريدُ الإمامةَ في الصلاةِ خوفًا مِنْ تحمُّلِ الأمانةِ معَ أنهُ كانَ أفقهَ أهلِ عصرِهِ وأعلَمَهُم وأحسَنَهُم صوتًا بالقراءةِ. كانَ بحرُ بنُ نصرٍ يقولُ كُنَّا إذا أردْنا البُكاءَ قُلنا اذهَبُوا بنا إلى هذا الفتى المطَّلبيّ يعني الشافعيَّ فنأتِيه فنستمعُ لقراءتِهِ فنتساقطُ منَ البكاءِ اهـ كانوا مِنْ حُسنِ صوتِ الإمامِ الشافعيِّ يأتُونَ ليَسْتَمِعُوا إلى قِراءَتِهِ حتى تَرِقَّ قُلوبُهم وتخشعَ للهِ، يجلسونَ فيستمِعُونَ إلى قراءتهِ فكانَ يُغشى عليهم أو يكونونَ قريبينَ مِنْ حالةِ الغَشْيَةِ من شدةِ ما يدخلُ في قلوبهم منَ الرِّقَّةِ والخَشْيةِ منَ اللهِ مِنْ حُسْنِ قراءَتِهِ رضيَ اللهُ عنه، ومعَ ذلكَ معَ ما ءاتاهُ اللهُ تعالى منْ حُسنِ الصوتِ في القراءةِ وجُودةِ القِراءةِ كانَ يخافُ أن يتقدَّمَ الناسَ إمامًا في الصلاةِ. هذا حالُ أولياءِ اللهِ أنهم يتَّهِمُونَ أنفُسَهُم بالتقصيرِ.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
------------------

1- رواهُ البخاريُّ في الصحيحِ بابُ قولِ الله تعالى ﴿وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ* إلى ربِّها ناظِرةٌ﴾ .br> 2- قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر واللهُ تعالى يُرى في الآخرةِ ويراهُ المؤمنونَ وهم في الجنةِ بأعيُنِ رؤوسهم بلا تشبيهٍ ولا كيفيةٍ ولا جهةٍ ولا يكونُ بينهُ وبينَ خلْقِهِ مسافة اهـ.
3- رواه النسائي في السنن الكبرى في باب المنفق سلعته بالحلف الكاذب.
4- رواهُ البخاري في الصحيح بابُ كيفَ كانت يمينُ النبي صلى الله عليه وسلم.
5- رواهُ البخاريُّ في الصحيحِ بابُ كيفَ كانت يمينُ النبي صلى الله عليه وسلم.
6- رواه مسلمٌ في الصحيح بابُ الدليل على أنَّ حُبَّ الأنصارِ وعليٍّ رضي الله عنهم منَ الإيمانِ وعلاماتِهِ وبُغضُهُم من علاماتِ النفاقِ.
7- روى مسلمٌ في صحيحهِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخلُ الجنة مَنْ كان في قلبهِ مِثقالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قال رجلٌ إنَّ الرجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُهُ حسنًا ونعلُهُ حسنةً قال إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ الكِبَرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناسِ اهـ بابُ تحريم الكبرِ وبيانه.
8- انظر باب ذكر مولد الشافعي رحمه الله تعالى وتاريخ وفاته ومِقدار سنّه وبيان نسبه وشرف أصله على وجه الاختصار من معرفة السنن والآثار للبيهقي.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات