من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الرابع والخمسون - شرحُ حديثِ إنَّ اللهَ حرَّمَ عليكم عقوقَ الأمَّهاتِ

الدرس الرابع والخمسون
شرحُ حديثِ إنَّ اللهَ حرَّمَ عليكم عقوقَ الأمَّهاتِ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الإمامُ الـمُربي الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الهرريُّ رحِمهُ اللهُ تعالى سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائة وألف وهو في بيانِ ما جاءِ في حديثِ إن اللهَ حرَّمَ عليكم عقوقَ الأمَّهات ووأدَ البناتِ ومَنْعًا وهاتِ وكَرِهَ لكم قيلَ وقالَ وكثرةَ السؤالِ وإضاعةَ المال.
قالَ رحمهُ الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وعلى ءالهِ وصحبِهِ وسلم.
أما بعدُ فقد وردَ في الصحيحَينِ البُخاريّ ومسلمٍ عن المغيرةِ بنِ شُعبةَ قالَ قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ اللهَ حرَّمَ عليكُم عقوقَ الأمَّهاتِ ووأدَ البناتِ ومَنْعًا وهاتِ وكَرِهَ لكُم قيلَ وقالَ وكثرةَ السؤالِ وإضاعةَ المالِ1 اهـ فالأشياءُ الثلاثةُ الأولى أي عقوق الأمهات ووأد البناتِ ومَنعًا وهاتِ محرّمةٌ من غيرِ تفصيلٍ وأما الثلاثةُ الأخرى ففيها تفصيلٌ.
وعقوقُ الأمّهاتِ منَ المحرّماتِ الكبائرِ وكذلكَ عقوقُ الآباءِ لكنْ عقوقُ الأمّهاتِ أشدُّ ذنبًا كما أنَّ بِرَّ الأمّهاتِ أعظمُ ثوابًا من بِرِّ الآباءِ وكِلا الأمرينِ أمرٌ عظيمٌ عندَ الله تعالى.
ومعنى العقوق إيذاؤهما أذًى ليسَ بِهَيِّنٍ كشَتْمِ الأمّ وشتمِ الأبِ أو ضربِ الأمّ أو الأبِ أو كأنْ يهينَ أمَّهُ أو أباهُ أمامَ الناسِ. وعذابُ عقوقِ الوالدَينِ المسلمَينِ عندَ اللهِ تعالى عظيمٌ حيثُ إنَّ عاقَّهَمُا لا يدخلُ الجنةَ معَ المسلمينَ الأوَّلينَ بل يدخُلها بعدَ عذابٍ شديدٍ معَ الآخرينَ، وهذا معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ لا يدخلونَ الجنةَ العاقُّ لوالِدَيهِ والدَّيُّوثُ2 ورَجُلَةُ النساءِ3 4 اهـ.
وإذا كانَ الأبوانِ كافِرَينِ أصليَّينِ فاللهُ تعالى أمرَنا بالإحسانِ إليهما لكنْ لا يُطيعُهُما في كُفرهما ولا معاصيهما وهذا معنَى قولِ اللهِ تعالى في سورة لُقمان ﴿وصاحِبْهُما في الدُّنيا مَعْرُوفًا﴾.
وإنْ كانَ الأبوانِ مسلمَينِ فقيرَينِ محتاجَينِ ففرضٌ على الابنِ أن يدفعَ إليهما نفقتَهما ويَكسُوَهُما ويُسكِنَهما ولا طاعةَ لهما في معصيةِ اللهِ. ويجبُ على الابنِ المسلمِ أن يُزوِّجَ أباهُ المسلمَ الفقيرَ إنْ كانَ محتاجًا للزواجِ.
ومن جملةِ العقوقِ أن يُطيعَ الولدُ أمَّهُ على ظُلمِ أبيهِ أو بالعكسِ ولا ينفعُهُ عندَ الله تبارك وتعالى إن أطاعَ أمَّهُ في ظلمِ أبيهِ. قالَ أحدُ الصحابةِ مَنْ أحقُّ بحُسنِ صحابتي يا رسولَ الله قال أمُّكَ قالَ ثمَّ مَنْ قالَ أمُّكَ قالَ ثمَّ مَنْ قال أمُّكَ قال ثمَّ مَنْ قال أبوكَ5 اهـ ولا يجوزُ أن تُعينَ أيَّ إنسانٍ على ظُلمِ إنسانٍ ءاخرَ.
وأما قولهُ عليه الصلاةُ والسلامُ وأدَ البناتِ فمعناهُ دفْنُ البناتِ في الترابِ وهُنَّ أحياءٌ وهذا الشىءُ كانَ في الجاهليةِ وأولُ مَنْ فعلَ هذا قيسُ بنُ عاصم.
وقتلُ النفسِ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقّ أشدُّ الذنوبِ بعدَ الكفرِ وخاصةً قتلُ المحارمِ كالأبِ أو الأمّ أو البنتِ فهوَ أشدُّ إثمًا من قتلِ غيرِ الـمَحرمِ.
وأما قولهُ صلى الله عليه وسلم ومَنعًا وهاتِ فالمرادُ بهِ منعُ الواجباتِ مثلِ الزكاةِ فإذا إنسانٌ منَعَها فهوَ عاصٍ معصيةً منَ الكبائرِ، كذلكَ إذا كانَ لإنسانٍ دَينٌ على ءاخرَ فمنعَهُ بعدَ حلولِ الأجلِ فهوَ عاصٍ معصيةً كبيرةً إنْ كانَ قادرًا على دَفعهِ، كذلكَ الإنسانُ المسلمُ الذي لهُ أبوانِ مسلمانِ مُحتاجانِ فمنعَهما النفقةَ فقد عصى اللهَ، ومنعُ النفقةِ عن مَن يجبُ عليهِ الإنفاقُ عليهِ كبيرةٌ، ولو لـم يكن عندَهُ غيرَ هذا الذنب لكفاهُ.
والنفقةُ للزوجةِ تكونُ بحسبِ ما يَسَعُهُ مالُ الزوجِ. والذي يعرفُ مِنْ نفسهِ أنهُ لا يعدِلُ بينَ نسائِهِ إنْ كنَّ اثنَتَينِ فأكثرَ فحرامٌ عليهِ الزواجُ بأكثرَ من واحدةٍ.
ومَن يعدِلُ في المبيتِ ولا يُسوّي في عددِ الجِماعِ بينَهنَّ لا يكونُ ظالـمًا، وتسويةُ المحبةِ في القلبِ ليستْ فرضًا لأنَّ الـمَيلَ القلبيَّ ليسَ بيدِهِ، قالَ تعالى في سورةِ النساءِ ﴿ولَن تَسْتَطيعُوا أن تعدِلُوا﴾ معناهُ لن تستطيعُوا مِنْ جميعِ الوجوهِ في الميل القلبيّ. وفي الأمورِ الظاهرةِ مثلِ الكسوةِ والنفقةِ والـمَبيتِ ﴿فلا تَميلُوا كلَّ المَيْلِ﴾ فاعدِلوا في ما يجبُ العدلُ فيهِ أي منَ الأمور الظاهرةِ.
ومن جُملةِ ما يدلُّ عليهِ قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعًا وهاتِ أنَّ اللهَ حرَّم أنْ يطلبَ الشخصُ ما لا يحِلُّ لهُ فمن يطلبُ مِن مالِ الزكاةِ وليسَ منَ المستحقينَ ومَنْ يطلبُ من مالِ الوقفِ وليسَ هوَ من أهلهِ فقدْ عصى الله.
وكَرِهَ لكُم قيلَ وقالَ المقصودُ بهذا الكلام الذي لا فائدةَ فيهِ وقد يكونُ حرامًا أو مكروهًا.
وكثرةَ السؤالِ معناهُ أنَّ الإنسانَ لا ينبغي لهُ أنْ يسألَ عن مسائلَ لا حاجةَ لهُ فيها فهذا شىءٌ مكروهٌ عندَ اللهِ، أما ما يحتاجُ إليهِ في الدينِ فالسؤالُ عنهُ فرضٌ.
وإضاعةُ المالِ أي صرفَهُ في غير أوجُهِ البِرِّ فإنْ صرَفَهُ لزيادةِ التنعُّمِ بالحلالِ فلا معصيةَ عليهِ ولكنْ هذا أي الإكثارُ منَ التنعُّمِ ليسَ منْ شيمةِ6 الـمُتَّقينَ، أما إنْ صرفَهُ في غير طاعةِ اللهِ بل في معصيتِهِ كالذي يشتري بهِ ءالاتِ اللهوِ المحرّمةِ ليَلهُوَ بها فهذا إضاعةٌ للمالِ.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
------------------

1- رواه البخاري في صحيحه باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم في صحيحه باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة.
2- الذي يعلم الزنى في أهله ويسكت عليه مع القدرة على منعه اهـ.
3- النساء المتشبهات بالرجال في اللباس وغيره اهـ.
4- رواه الطبريّ في تهذيب الآثار باب ذكر من وافق عليًّا في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذم العاق والديه.
5- رواه البخاري في صحيحه باب من أحق الناس بحسن الصحبة.
6- الشيمة الخُلُق اهـ.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات