من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس السابع والثلاثون- تفسيرُ حديثِ إذا استَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللهِ

الدرس السابع والثلاثون
تفسيرُ حديثِ إذا استَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللهِ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الـمُحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى في بيروتَ وهو في بيانِ تفسيرِ حديثِ إذا استعَنتَ باسْتَعِنْ باللهِ. قالَ رحِمَهُ اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلواتُ اللهِ البَرِّ الرحيمِ والملائكةِ الـمُقرَّبينَ على سيدنا محمدٍ أشرفِ المرسلينَ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الطيبينَ.
أما بعدُ فقد رُوِّينا في جامعِ الترمذيّ رحمهُ الله منْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ مُخاطِبًا لابنِ عباسٍ "إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ وإذا استَعَنتَ فاسْتَعِنْ باللهِ" اهـ.
معنى الحديثِ أنَّ الأوْلَى بأنْ تسْألهُ هوَ اللهُ وهذا أمرٌ لا شكَّ فيهِ لأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى هوَ خالقُ الخيرِ والشرِّ وخالقُ المنفعةِ والمضرةِ فإذا كانَ كذلكَ فلا يخفَى أنَّ الأوْلَى بأنْ يُسألَ هو الله وأنَّ الأَوْلَى بأنْ يُستعانَ بهِ هو الله. وفي معنى هذا الحديث1 حديثٌ رُوِّينَاهُ في صحيحِ ابنِ حبان أنهُ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصاحبْ إلا مُؤمِنًا ولا يأكُلْ طعامَكَ إلا تقيٌّ2"اهـ هذا الحديثُ أيضًا يدلُّ على أنَّ الأَولى بالـمُصاحبةِ هوَ المؤمنُ وكذلكَ الأَولى بأن تُطْعِمَ طعامَكَ التقيُّ وليسَ مرادُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ أنهُ لا يجوزُ صُحبةُ غير المؤمنِ، ليسَ مُرادُ النبيّ أنهُ لا يجوزُ أن تُصاحِبَ غيرَ المؤمنِ إنَّما مُرادُهُ بيانُ أنَّ الأوْلَى بالـمُصاحبةِ هو المؤمنُ. وكذلكَ الجزءُ الثاني من هذا الحديثِ "ولا يأكلُ طعامَكَ إلا تقيٌّ" اهـ مرادُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم به أنَّ الأولى بأن يَطعَمَ طعامَكَ هوَ المسلمُ التقيُّ.
مَنْ هو التقيُّ، التقيُّ هوَ منْ قامَ بحقوقِ اللهِ وحقوقِ العبادِ أيْ أدَّى الواجباتِ المتعلقةِ بالعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ وصيامِ رمضانَ والزكاةِ والحجّ إلى غيرِ ذلكَ وتجنَّبَ ما حرَّمَ اللهُ، هذا هوَ التقيُّ، مَنْ أدَّى الواجباتِ واجتنبَ المحرماتِ يقالُ لهُ تقيٌّ. رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ في هذا الحديثِ: "ولا يأكلْ طعامَكَ إلا تقيّ" اهـ معناهُ أنَّ الأولَى بأنْ تُطْعِمَهُ طعامَكَ هو المسلمُ التقيُّ أيْ أنَّ إطعامَ طعامِكَ المسلمَ التقيَّ خيرٌ وأولى، أفضلُ مِنْ أنْ تُطعِمَ مسلمًا غيرَ تقيٍّ أو كافرًا. وليسَ معنى الحديثِ أنهُ لا يجوزُ أنْ تُطعِمَ المسلمَ الذي هوَ مِنْ أهلِ الكبائرِ منَ العُصاةِ ولا يعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ لا يجوزُ إطعامُ الكافرِ بلْ هذا جائزٌ وهذا جائزٌ. إذا أطعَمَ المسلمُ العاصي الذي هوَ منْ أهلِ الكبائرِ جائزٌ وفيهِ ثوابٌ. كذلكَ إذا أطعمَ الكافرَ منَ الكُفَّارِ هو جائزٌ وفيهِ ثوابٌ.
هل في معنى هذا الحديثِ خفاءٌ لمنْ عرَفَهُ على هذا الوجهِ، ما فيه خفاءٌ. فالـمُحرِّفونَ لشريعةِ اللهِ يُورِدُونَ حديثَ ابنِ عباسٍ هذا: "إذا سألتَ فاسألِ اللهَ وإذا اسْتَعَنتَ فاستَعِنْ بالله" لتحريمِ التوسلِ بالأنبياءِ والأولياءِ، أين في هذا الحديثِ تحريمُ التوسلِ بالأنبياءِ والأولياءِ. هل قالَ الرسولُ لا تسألْ غيرَ اللهِ ولا تستعنْ بغيرِ الله، ما قال. أليسَ بينَ أن يُقالَ لا تسألْ غيرَ اللهِ وبين أن يُقالَ إذا استعنتَ فاستَعِنْ بالله فرقٌ، بلى. لكنْ هؤلاءِ الذينَ دَأبُهُم تحريفُ شريعةِ اللهِ والتمويهُ على الناسِ وزخرفةُ الباطلِ وإيهامُ الناسِ الأمرَ الجائزَ حرامًا أو شِركًا وكُفرًا هم حرَّفوا معنى حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباس. هذا دأبُهُم. إذا أرادوا أن يُحرِّمُوا التوسلَ بالأنبياءِ والأولياءِ يذكُرونَ هذا الحديثَ. هذا الحديثُ صحيحُ الإسنادِ إنَّما هم يحرفُونَ معناه. ليس فيهِ دليلٌ على ما يدَّعُونَ، ليسَ فيه أدنى دلالةٍ على تحريمِ التوسلِ بالأنبياءِ والأولياء، ليسَ فيهِ بالمرة. وكلُّ مؤمنٍ يعلَمُ ويعتقدُ أنَّ سُؤالَ المؤمنِ ربَّهُ أفضلُ منْ أن يسألَ غيرَهُ، كلُّ مؤمنٍ يعلمُ ذلكَ يعلمُ أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى أفضلُ من سؤالِ واحدٍ مِنْ خلقِهِ، كذلكَ كلُّ مؤمنٍ يعلمُ أنَّ الاستعانةَ باللهِ خيرٌ وأفضلُ منَ الاستعانةِ بغيرِ اللهِ تعالى لكنْ هؤلاءِ لا يُورِدونَ الحديثَ على هذا المعنى الذي هوَ مرادُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنما يُورِدُونَهُ لتحريمِ ما أحلَّ اللهُ.
التوسلُ بالأنبياءِ والأولياءِ شىءٌ أَذِنَ بهِ الشرعُ، اللهُ تباركَ وتعالى أذِنَ لنا أنْ نتوسلَ بالأنبياءِ والأولياءِ الأحياءِ والأمواتِ. هؤلاءِ ليسَ عندَهُم دليلٌ إلا التمويهَ. هذا الحديثُ يُورِدُونهُ لِيُوهِموا الناسَ أنَّ سؤالَ غيرِ اللهِ بمعنى التوسلِ بالأنبياءِ والأولياءِ حرامٌ ويُورِدُونهُ بمعنى أنَّ الاستعانةَ بالأولياءِ والأنبياءِ حرامٌ بلْ هُم يعتَبرونَ ذلكَ كفرًا بلْ إذا نادَيتَ نبيًّا أو وليًّا نِداءً مِنْ غيرِ أن يكونَ حيًّا حاضِرًا أمامَكَ يعتَبِرونَهُ شِركًا كُفرًا وليسَ عندَهُم دليلٌ إلى التمويهَ أيْ إلا أنهم يُوهِمونَ الناسَ بِما يُورِدُونَهُ منَ الشُّبهاتِ أيْ منَ الأمورِ التي تُوهِمُ سامِعَها إنْ لـم يكنْ من أهلِ المعرفةِ والفهمِ أنَّ الأمرَ كما يقولونَ.
ثـمَّ هُناكَ حديثٌ ءاخرُ يُورِدُونَهُ وهوَ ضعيفٌ. أما حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ هذا فهوَ صحيحٌ "إذا سألتَ فاسألِ اللهَ وإذا استَعَنتَ فاستَعِنْ باللهِ" اهـ رواهُ الترمذيُّ في جامعهِ وصحَّحَهُ لكن هناكَ حديثًا ضعيفًا يتشبَّثُونَ بهِ لتحريمِ الاستغاثةِ وتكفيرِ المستغيثِ برسولِ اللهِ وبسائرِ الأنبياءِ والأولياءِ. ما هوَ هذا الحديثُ. هذا الحديثُ رواهُ الإمامُ أحمدُ في مُسنَدِهِ بإسنادٍ فيهِ راوٍ ضعيفٍ عندَ أهلِ الحديثِ يُقالُ لهُ ابنُ لَهِيعةَ. هذا الحديثُ أنَّ أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال قُوموا بِنا إلى رسولِ اللهِ نستغيثُ بهِ مِنْ هذا الـمُنافقِ فذهبوا فقالوا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "إنهُ لا يُستغاثُ بي إنـما يُستغاثُ باللهِ عزَّ وجلَّ3" اهـ هذا الحديثُ هم يتشبَّثُونَ بهِ لتكفيرِ مَنْ يستغيثُ بالرسولِ أو بغيرهِ منَ الأنبياءِ أو بوليٍّ مِنْ أولياءِ اللهِ أو مَنْ يقولُ يا رسولَ اللهِ أغِثني أو يا عبدَ القادرِ الجيلانيّ أغِثني ونحوَ ذلك منَ العباراتِ، يُورِدونَ هذا الحديثَ الضعيفَ الذي لا يُحتَجُّ بهِ لتكفيرِ المستغيثِ فإيَّاكُم أنْ تُصَدِّقُوهم، إنْ أورَدُوا لكم حديثًا فإمَّا أنْ يكونَ ذلكَ الحديثُ ضعيفًا وإمَّا أنْ يكونَ الحديثُ صحيحًا ولكنْ هم يُحرِّفُونَ معناهُ فكُونوا على حذرٍ منهم، إياكُم أنْ تتسرعُوا بمُوافقتِهم.
هذا الحديثُ ليسَ لهُ إسنادٌ صحيحٌ ومعَ هذا هُم يُورِدُونَهُ لتكفيرِ المستغيثِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم أوِ الذي يقولُ يا رسولَ اللهِ أغِثنا أو يا رسولَ الله أعِنَّا أو يا رسولَ اللهِ أنقِذنا مِنْ هذهِ الشدةِ أو يا رسولَ اللهِ هَلَكْنا فأنقِذنا وأغِثنا ونحوَ ذلك منَ العباراتِ، يُريدونَ بإيرادِهم لهذا الحديثِ الضعيفِ أن يُكفِّروا المسلمَ الذي يستغيثُ برسولِ اللهِ أو بغيرِهِ منْ أنبياءِ اللهِ أو بوليٍّ من أولياءِ اللهِ.
هوَ الاستغاثةُ والتوسلُ معناهُما واحدٌ. إذا إنسانٌ قالَ اللهُمَّ إنِّي أسألُكَ بنبينا محمدٍ أن تُفرِّجَ كُرْبَتي أو أنْ تَحُلَّ لي مُشكِلتي هذا يُقالُ له توسلٌ بالرسولِ ويقالُ لهُ استغاثةٌ بالرسولِ. الاستِغاثةُ والتوسلُ بمعنًى واحدٍ كما قالَ ذلكَ الحافظُ الفقيهُ المحدثُ اللغويُّ النحويُّ الـمُتكلمُ الأصوليُّ الشافعيُّ تقيُّ الدينِ السُّبكيُّ. هذا الإمامُ تقيُّ الدينِ السبكيُّ وهو مِنْ علماءِ اللغةِ والنحوِ كما أنهُ محدثٌ حافظٌ في الحديثِ وفقيهٌ شافعيٌّ مِنْ أهلِ الاجتهادِ في المذهبِ الشافعيِّ وعلى ما قالَ بعضُهُم هو مجتهدٌ لكنْ لـم ينادِ بالاجتهادِ ما قال للناس يا ناسُ أنا صِرتُ مُجتهدًا فتَعالَوا خذُوا باجتِهادي ما فعلَ ذلكَ، فإنَّ الـمُجتهدَ وإنْ كانَ مُجتهِدًا ليسَ مِنْ شرطِهِ أن يُناديَ الناسَ إلى نفسِهِ ليُقَلِّدُوهُ ويَتْبَعُوهُ، ليسَ شرطًا، فإنَّهُ يرى تقليدَهُم لإمامٍ منَ الأئمةِ المتبُوعينَ كالشافعيِّ ومالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ بنِ حنبلٍ رضيَ اللهُ عنهُم أنَّ ذلكَ يكفي.
وهُناكَ أيضًا أمرٌ يتَشَبَّثُ هؤلاءِ بهِ لتحريمِ التوسلِ بالنبيِّ بعدَ وفاتِهِ. عندَهُم قاعِدةٌ ما أنزلَ اللهُ بها من سُلطانٍ وهيَ قولُهُم لا يجوزُ التوسلُ إلا بالحيِّ الحاضرِ. مَنْ وضعَ لهم هذه القاعدةَ، ابنُ تيميةَ، ولـم يَقُلْهُ عالمٌ مسلمٌ قبلَ ذلك. ما قالَ هذهِ الكلمةَ قبلَ ابنِ تيميةَ أحدٌ منْ علماءِ الإسلامِ، قالَ لا يجوزُ التوسلُ إلا بالحيِّ الحاضرِ، ماذا يعني بهذا، يعني بهذا أنكَ إنْ توسَّلْتَ بنبيٍّ أو وليٍّ بعدَ وفاتِهِ حرامٌ بلْ شِرْكٌ وكُفرٌ، إنْ توسَّلْتَ بالنبيِّ أو غيرهِ منَ الأولياءِ في غيرِ مجلِسِهِ هو في بلدٍ وأنتَ في بلدٍ أو أنتَ في بيتِكَ وهوَ في مكانِهِ إذا توسلتَ بهِ في هذهِ الحالِ عندَهُ أشرَكْتَ وكَفَرْتَ، عندَ ابن تيمية، فهؤلاءِ الذينَ فيما بينَ الناسِ اليومَ أخذوا بتلكَ القاعدةِ التي ما أنزلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ التي لـم يَقُلها رسولُ اللهِ ولا إمامٌ مجتهدٌ أبو حنيفةَ أو مالكٌ أو أحمدُ بنُ حنبلٍ أو الشافعيُّ أو غيرُهم، ما قالها أحدٌ.
هُنا مسئلةٌ ينبغي الانتباهُ لها، هُم يفتَرونَ على أبي حنيفةَ، ماذا يقولونَ، يقولونَ أبو حنيفةَ قالَ لا يجوزُ أنْ يُسألَ اللهُ تعالى بحقِّ أحدٍ اهـ أي لا يجوزُ أنْ يُقالَ نسألُكَ بحقِّ فلانٍ. أبو حنيفةَ يُحتَمَلُ أنْ يكونَ قالَ هذهِ الكلمةَ ويحتمَلُ أنهُ لـم يقُلها. فإنْ قالها فسَّرَها جماعَتُهُ بأنَّ مُرادَ أبي حنيفةَ بمَنْعِهِ مِنْ هذهِ العبارةِ أيْ بحقِّ فُلانٍ أنَّ هذهِ الكلمةَ تُوهِمُ أنَّ على اللهِ حقًّا لازِمًا لِخَلقِهِ لِعِبادِهِ، واللهُ تعالى ليسَ مُلزَمًا بشىءٍ. الذينَ يعمَلُونَ الحسناتِ الـمُطيعُونَ لهُ منَ الأنبياءِ والأولياءِ إنَّما أطاعُوهُ بتمكينِ اللهِ تباركَ وتعالى لهم، هو علَّمَهُم، خلقَ فيهم الإدراكَ والعلمَ هوَ أعطاهُم قُوَّةَ الكلامِ وهوَ أعطاهُم قوةَ الـمَشيِ، كلُّ ما يفعَلونَهُ منَ الحسناتِ فبِفضلِ اللهِ تعالى، مِنْ أينَ يكونُ اللهُ مُلْزَمًا لأحدٍ مِنْ خلقِهِ، ليسَ مُلْزَمًا لا للأنبياءِ ولا للأولياءِ، اللهُ ليسَ مُلْزَمًا لأحدٍ أنْ يُعطيَهُ شيئًا إنَّما هوَ مُتكَرِّمٌ مُتفضِّلٌ، الثوابُ الذي يُصيبُ الطائعينَ مِنْ عبادِهِ الأنبياءَ والأولياءَ فضلٌ منهُ ليسَ هوَ مُلزَمًا أنْ يعطيَهُم، لماذا، لأنهُ هوَ خلقَهُم هوَ أوْجَدَهُم منَ العدَمِ ثمَّ خلقَ فيهم هذهِ الحركاتِ والسكناتِ التي هيَ منَ الحسناتِ فإذًا له الفضلُ عليهم ليس لهم على اللهِ فضلٌ، الأنبياءُ والأولياءُ والملائكةُ كلُّهُم ليسَ لهم على اللهِ فضلٌ بلِ اللهُ تباركَ وتعالى هوَ الـمُتفضِّلُ عليهم، هوَ خلَقَهُم وخلقَ عُقُولَهُم وخلقَ ألسِنَتَهُم التي يذكُرونَ بها ويُسَبِّحُونَ بها ويُقَدِّسُونَهُ بها وهو خلقَ فيهمُ النطقَ، الإنسانُ هذا عندما يولَدُ هل ينطِقُ، لا ينطقُ، مَنِ الذي يخلقُ فيهِ بعدما يبلُغُ زمانَ النطقِ قوةَ النطقِ، ثمَّ مَنِ الذي يُلهِمُ الإنسانَ ليَعْمَلَ الخيرَ، اللهُ تباركَ وتعالى هو الذي يُلهِمُ الإنسانَ، فمِنْ هُنا يُعلَمُ أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى ليسَ مُلزَمًا لأحدٍ بواجبٍ منَ الواجباتِ بحيثُ إذا لـم يفعلهُ يكونُ ظالِـمًا، حاشَى لله. اللهُ تعالى لا يجبُ عليهِ شىءٌ على وجهِ اللزومِ لأحدٍ مِنْ خلقِهِ لا للأنبياءِ ولا للأولياءِ بلْ هوَ الذي تكرَّمَ عليهم وتفضَّلَ عليهم، هو الذي ألْهَمَهُم فِعْلَ الخيراتِ وهوَ الذي أقدَرَهُم على فعلِ الخيراتِ. هذا كلامُ جماعةِ أبي حنيفةَ، قالوا الإمامُ أبو حنيفةَ منعَ مِنْ قولِ أسألُكَ بحقِّ فُلانٍ لأنَّ هذهِ الكلمةَ تُوهِمُ أنَّ اللهَ تعالى مُلزَمٌ لأحدٍ مِنْ خلقِهِ بأنْ يُعطيَهُ شيئًا وهوَ ليسَ مُلزَمًا. هذا معلومٌ بأنَّ اللهَ ليسَ مُلزَمًا لأحدٍ من خلقِهِ بأن يُعطيهم الثوابَ في الآخرةِ وإنما هو مُتفضِّلٌ على عبادِهِ الطائعينَ منَ الأنبياءِ والأولياءِ. جماعةُ أبي حنيفةَ قالوا إنَّما منعَ الإمامُ مِنْ قولِ أسألُكَ بحقِّ فُلانٍ لأنَّ كلمةَ بحقِّ فُلانٍ تُوهِمُ أنَّ اللهَ مُلزَمٌ. أحدُ رُؤوسِ الوهابيةِ في دِمشقَ الشام قبلَ أكثرَ مِنْ عشرينَ سنةً كُنَّا في مجلسِ مُناظرةٍ معه قالَ أمَّا التوسلُ فقد كفانا المؤنَةَ أبو حنيفة اهـ يعني أبو حنيفة حرَّمَ التوسلَ فنحنُ اكتَفَينا بذلكَ. أينَ حرَّمَ أبو حنيفةَ التوسلَ، إنَّما منعَ مِنْ هذهِ الكلمةِ فقط أسألُكَ بحقِّ فُلانٍ، مِنْ هذهِ الكلمةِ منعَ، ما قال لا يجوزُ التوسلُ بالأنبياءِ والأولياءِ في غير حُضُورِهِم وفي غيرِ حالِ حياتِهِم، ما قالَ هذا أبو حنيفةَ.
ثمَّ لو فرَضْنا أنَّ أبا حنيفةَ قالَ هذا4 فليسَ في هذا حجةٌ لأنهُ وردَ الحديثُ الصحيحُ الذي يُثْبِتُ جوازَ أنْ نقولَ اللهمَّ إني أسألُكَ بحقِّ فلانٍ. وردَ حديثٌ حسنُ الإسنادِ حسَّنَهُ حافِظانِ مِنْ حُفاظِ الحديثِ أحدُهُما الحافظُ ابنُ حجرٍ والآخَرُ الحافظُ أبو الحسنِ المقدسيُّ. هذا الحديثُ هو أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ خرجَ إلى المسجدِ وقالَ اللهُمَّ إنِّي أسألكَ بحقِّ السائِلينَ عليكَ وبحقِّ مَمْشايَ هذا فإنِّي لـم أخرُجْ أشَرًا ولا بَطَرًا ولا رِياءً ولا سُمْعةً 5" إلى ءاخر الحديثِ وفيهِ أنَّ مَنْ قالَ هذا وهوَ ذاهبٌ إلى المسجدِ يستَغفرُ لهُ سبعونَ ألفَ ملَكٍ. هذا الحديثُ قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ حسنٌ كذلكَ الحافظُ الآخرُ قال عنهُ حسنٌ.
لِوجودِ هذا الحديثِ ليسَ فيما يُنسبُ إلى أبي حنيفةَ بالمعنى الذي يَتَوَهَّمُونَهُ أوْ بالمعنى الذي قالَهُ جماعَتُهُ دليلٌ ليسَ فيه دليلٌ على تحريمِ أن يقولَ المتوسلُ في توسُّلِهِ اللهُمَّ إنِّي أسألكَ بحقِّ محمدٍ أوْ بحقِّ إبراهيمَ أوْ بحقِّ أبي بكرٍ أو بحقِّ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ما فيهِ دليلٌ على تحريمِ ذلك، أنَّى يكونُ فيهِ دليلٌ. إذا جاءَ الخبرُ انقطعَ النظرُ. هكذا قالَ أهلُ العلمِ. معناهُ إذا جاءَ الحديثُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم القياسُ والاجتهادُ بطلَ، بطلَ الاجتهادُ معَ وجودِ حديثِ رسولِ اللهِ. معَ وجودِ هذا الحديثِ نحنُ نقولُ ذاكَ الذي يُروَى عنْ أبي حنيفةَ ما فيهِ دليلٌ. ذاكَ الذي ذكرْتُ لكُم أنهُ مِنْ رؤوسِ الوهابيةِ قالَ لي في مُناظرةٍ منَ الـمُناظراتِ في دمشقَ أمَّا التوسلُ فقدْ كفانا أبو حنيفةَ المؤنةَ، كلامٌ لا طائلَ تحتَهُ بلْ هو هباءٌ منثورٌ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- أي من حيث إن المراد بيان الأولى بالأمر اهـ.
2- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر الاستحباب للمرء أن يؤثر بطعامه وصحبته الأتقياء وأهل الفضل.
3- عزاه في مجمع الزوائد و كنز العمال إلى الطبرانيّ و رواه أحمد في مسنده باب حديث عبادة بن الصامت رضي اللهُ عنه.
4- أي لو فرضنا أن أبا حنيفة رضي الله عنه منع من قول اللهمَّ أسألك بحق فلان اهـ.
5- رواه أحمد في مسنده باب مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات