من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الأربعون - بيانُ حُرمةِ الربا

الدرس الأربعون
بيانُ حُرمةِ الربا

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الفقيهُ المحدّثُ الشيخُ عبد الله بنُ محمدٍ العبدريُّ الهرريُّ رحمه اللهُ تعالى في الرابعِ منَ المحرمِ سنةَ سبعٍ وتسعينَ وثلاثمائةٍ وألف.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعة:
الحمدُ للهِ رب العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ وعلى ءالهِ وأصحابهِ الطيبينَ الطاهرينَ. أما بعدُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى قال في سورة البقرةِ ﴿يا أيُّها الذينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ منَ الربا إن كُنتُم مؤمِنينَ﴾.
وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ءاكِلَ الربا ومُوكِلَهُ وكاتِبَهُ وشاهِدَيهِ1 اهـ ثمَّ الربا أنواعٌ ثلاثةٌ رِبا القَرْضِ ورِبا الفَضْلِ ورِبا النَّساءِ. وربا القرضِ أنْ يُقْرِضَ الشخصُ شخصًا مالاً ويَشتَرِطَ عليهِ الردَّ معَ الزيادةِ أو يشترطَ عليهِ شرطًا يَجُرُّ بهِ منفعةً2 وذلكَ كأنْ يُقرِضَ إنسانًا مُحتاجًا ألفَ درهمٍ على أنْ يرُدَّهُ إليهِ معَ زيادةِ عشرةٍ أو أقلَّ أو أكثرَ أو يَشتَرِطَ عليهِ أنْ لا يتعاملَ معَ غيرهِ أو يشترطَ عليهِ أنْ يَرْهَنَهُ دارَهُ ليَسكُنها مجانًا أو بسعرٍ مخفوضٍ وذلكَ لأنَّ اللهَ تعالى سنَّ القرضَ لِعِبادِهِ للمُواساةِ لا للاستِرباحِ. ومِنْ ذلكَ أن يُقرِضَهُ ويشتَرِطَ عليهِ رُكوبَ سيَّارَتِهِ واستعمالَها إلى أنْ يوفِّيَهُ الدَّينَ ومِنْ ذلكَ أنْ يشتَرطَ عليهِ أنْ يترُكَ عندهُ ساعةً على أنهُ إذا لـم يرُدَّ عليهِ مالَهُ في وقتِ كذا أخذَها أو تملَّكَها.
وأما ربا الفضلِ فهو أنْ يُبادِلَ الذهبَ بالذهبِ بلا مُساواةٍ بالوزنِ أو فضةً بفضةٍ بلا مُساواةٍ بالوزنِ وكذلكَ أن يُبادِلَ الحِنطة3 البيضاءَ بالحنطةِ السمراءِ بلا مُساواةٍ بالكيلِ أو السكرَ الأبيضَ بالسكرِ الأحمرِ بلا مساواةٍ بالكميةِ أو الملحَ الجبليَّ بالملحِ البحريِّ بلا مُساواةٍ بالكميةِ وهكذا بيعُ كلِّ مَطعومٍ بمطعومٍ مِنْ جِنسِهِ بلا مساواةٍ كأنْ يُبادِلَ نوعًا منَ التمرِ بنوعٍ ءاخَرَ بلا مساواةٍ بالكميةِ ولو كانَ أحدُهُما أرفعَ قيمةً منَ الآخرِ فإنَّ ذلكَ ربًا حرامٌ منَ الكبائرِ.
وأما رِبا النَّساءِ بفتحِ النونِ فهوَ مبادلةُ ذهبٍ بذهبٍ معَ تساوي الوزنِ لكنهُ معَ تأخيرِ القبضِ إلى أجلٍ طويلٍ أو قصيرٍ أو أنْ يُبادلَ سُكَّرًا بسُكَّرٍ مثلهِ بالكميةِ لكنْ معَ تأخيرِ القبضِ عن مجلسِ المبادلةِ4 ومِنْ ذلكَ ما لو دفعَ إنسانٌ قطعةَ ذهبٍ إلى صائغٍ ليُعطيَهُ حُليَّ ذهبٍ من غيرِ تسويةٍ بالوزنِ فذلكَ ربًا ولا نظرَ إلى قيمةِ الصنعةِ شرعًا فإذا قالَ الصائغُ أُعطيكَ هذا الحُليَّ ووزنُهُ عشرُ دراهمَ على أنْ تُعطيني هذهِ القطعةَ التي وزنُها خمسةَ عشرَ درهمًا مِنْ أجلِ قيمةِ صنعةِ يَدي كانَ ذلك ربًا.
ومنَ الربا لو دفعَ إلى الصرَّافِ قطعةَ ذهبٍ غيرِ مسبوكةٍ ليُعطِيَهُ عددًا منَ الجُنَيهاتِ الذهبيةِ المسبوكةِ بلا تسويةٍ في الوزنِ فإنَّ ذلكَ ربًا.
والدليلُ على حُرمةِ ذلكَ بعدَ الآيةِ القُرءانيةِ قولهُ صلى الله عليه وسلم: "الذهبُ بالذهبِ ربًا إلا مثلاً بمِثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ والفضةُ بالفضةِ ربًا إلا مثلاً بمِثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ والبُرُّ بالبُرِّ ربًا إلا مثلاً بمِثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ والشعيرُ بالشعيرِ ربًا إلا مثلاً بمِثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ والتمرُ بالتمرِ ربًا إلا مثلاً بمِثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ والملحُ بالملحِ ربًا إلا مثلاً بمِثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ فإذا اختلفتْ هذهِ الأجناسُ فبِيعُوا كيفَ شِئِتُم إذا كانَ يدًا بيدٍ5 اهـ.
قولهُ صلى الله عليه وسلم إذا اختلفتْ هذهِ الأجناسُ فبِيعُوا كيفَ شِئتُم إذا كانَ يدًا بيدٍ اهـ معناهُ أنهُ إذا بُودِلَ نقدٌ بنقدٍ ذهبٌ بفضةٍ أو قمحٌ بشعيرٍ أو تمرٌ بغيرِ تمرٍ أو ملحٌ بغيرِ ملحٍ أيْ من غيرِ جنسهِ كائِنًا ما كانَ يجوزُ معَ المساواةِ وبلا مساواةٍ شرطَ أن يكونَ يدًا بيدٍ يعني أنَّ مَنْ بادلَ الذهبَ بالفضةِ معَ الـمُفاضلةِ بالوزنِ لكنْ بلا تأخيرٍ بأنْ قبضَ كلٌّ منَ الطرفَينِ العِوَضَ قبلَ الافتِراقِ أيْ قبلَ أن يفترِقا كانَ جائزًا فلو بُودِلَ كيلو ذهبٍ بألفِ كيلو فضةٍ في المجلسِ قبلَ أنْ يفتَرِقا هذا أقْبَضَهُ كيلو ذهبٍ قبلَ أن يفترِقا وذاكَ أقبَضَهُ ألف كيلو فضةٍ في المجلسِ قبلَ أن يفتَرِقا حلَّ جازَ ذلكَ لأنهُ بالتراضي. البيعُ إذا لـم يكُنْ مما حرَّمَ اللهُ تباركَ وتعالى التفاضلُ فيهِ يجوزُ مهما كانتْ نِسبةُ التفاضلِ. لا يُقالُ لا يجوزُ أن يربحَ الإنسانُ أكثرَ مِنْ نصفِ رأسِ المالِ أو أكثر مِنْ مثلِهِ أو أكثرَ منْ مِثْلَيهِ أو أكثرَ مِنْ ثلاثةِ أمثالهِ، لا يُقالُ في شرعِ اللهِ تعالى لا يجوزُ ذلكَ الربحُ في ما لـم يشترطِ الشرعُ التماثلَ بينَ العِوَضَينِ، يجوزُ مهما بلغَ، مهما بلغَ الربحُ فإنهُ جائزٌ إذا لـم يكُنْ هناكَ غِشٌّ وكذِبٌ فقدْ باعَ أحد أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا اشتراهُ بسبعِمائةٍ بأربعةِ ءالافٍ وهوَ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ الذي كانَ أعلمَ عُلماءِ اليهودِ قبلَ أن يُسلِمَ ثمَّ ردَّ ألفَينِ للمُشتري تقرُّبًا6 وكانَ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ منْ أكابرِ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كانَ أحدَ الـمُبَشَّرينَ بالجنةِ وهوَ المرادُ بقولِ اللهِ تعالى في سورةِ الأحقاف ﴿وَشَهِدَ شاهِدٌ مِن بني إسرائيلَ﴾ الآية7. هوَ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ كانَ منَ اليهودِ الذينَ يسكُنونَ المدينةَ لـمَّا قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ ذهبَ إليهِ ليتأكدَ أنهُ هوَ النبيُّ الذي بشَّرَ بهِ موسى عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ فسألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أسئلةٍ فأجابَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فعرفَ بأنهُ نبيٌّ حقًّا فشَهِدَ أن لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ وجُملة أسئِلَتِهِ أنهُ سألَهُ ما أولُ ما يأكُلُهُ أهلُ الجنةِ فأجابَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيادةُ كبِدِ الحوتِ وسألهُ كيفَ يُشبِهُ الولدُ أباهُ أو أمَّهُ فقال إذا سبقَ ماءُ الرجلِ ماءَ المرأةِ ذهبَ الأبُ بالشَّبَهِ وإذا سبقَ ماءُ المرأةِ ماءَ الرجلِ ذهبتِ الأمُّ بالشبهِ وسألهُ عنْ أولِ ما يحشرُ الناسَ فقالَ أولُ ما يحشرُ الناسَ نارٌ تخرُجُ منَ المشرقِ فتسُوقُهم إلى المغرب8 اهـ هذا قبلَ يومِ القيامةِ قبلَ يومِ القيامةِ تخرجُ نارٌ منَ المشرقِ تسوقُ الناسَ إلى المغربِ يرحلُ الناسُ هربًا منها إلى المغربِ وكانَ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ يعتقدُ أنَّ هذهِ الأسئلةَ الثلاثةَ لا يعلمُ جوابَها إلا نبيٌّ فلما أجابَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بهذا الجوابِ لـم يبقَ عندَهُ شكٌّ بأنهُ نبيُّ اللهِ.
القرضُ شرعَهُ اللهُ للمواساةِ أيْ ليُواسيَ صاحبُ اليَسارِ والغِنَى صاحبَ الحاجةِ والاضطرارِ، ما شَرَعَهُ للاستِرباحِ. الناسُ اليومَ جعلُوا القرضَ للاستِرباحِ الواحدُ منهم يُقرِضُ إنسانًا محتاجًا مبلغًا منَ المالِ على شرطِ ردِّ الزيادةِ أو على شرطِ أن يُسْكِنَهُ دارَهُ مجانًا إلى أن يُوَفّيَهُ الدَّينَ هذا خلافُ القرضِ الذي شرعَهُ اللهُ تعالى لعِبادِهِ، اللهُ تعالى شرعَ القرضَ لفكِّ العُسرِ لفكِّ عُسرةِ الـمُحتاجينَ ما وضعَ اللهُ تعالى القرضَ ليُربَحَ به ربحٌ مُحرمٌ عندَ اللهِ تعالى فلذلكَ الذي يُقرِضُ إنسانًا مالاً ويشترطُ ردَّ الزيادةِ فإنهُ وقعَ في الربا وكذلكَ الذي يشترطُ أنْ يستعملَ دارَهُ للسكنى إلى أن يرُدَّ لهُ الزيادةَ، هؤلاء وقعوا في الذنبِ العظيمِ تنزِلُ عليهم لعنةُ اللهِ، يستحقونَ لعنةَ اللهِ، أما مَنْ يُقرِضُ بدونِ شرطِ الزيادةِ وبدونِ جرِّ منفعةٍ لنفسِهِ بلْ يُقرِضُ لفكِّ العُسرةِ هذا لهُ ثوابٌ عندَ اللهِ.
والقرضُ مرتين على هذا الشكلِ كثوابِ الصدقةِ مرةً واحدةً9.
ملاحظة: أحكامُ بعضِ المسائلِ المتعلقةِ ببيعِ الطعامِ بعضِهِ ببعضٍ التي ذُكِرَتْ في هذا الدرسِ هي على وفقِ مذهبِ الإمامِ محمد بنِ إدريسَ المطلبيّ الشافعيّ ويختلفُ الحكمُ فيها في بعضِ المذاهبِ الأخرى كمذهبِ الإمامِ مالكِ بنِ أنسٍ رضيَ اللهُ عنه فلْيُتنَبَّه.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
------------------

1- رواه مسلمٌ في صحيحه بابُ لعْنِ ءاكلِ الربا ومؤكِله.
2- قال في نهايةِ المحتاجِ إلى شرح المنهاج باب الربا ما نصه ربا القرض بأن يُشترط فيه ما فيه نقعٌ للمُقرض غير نحو الرهن اهـ.
3- الحنطة هيَ القمح.
4- قال في تحفة الحبيب على شرحِ الخطيب فصل في الربا ما نصهُ وربا النَّساءِ بفتح النون والمد أي الأجل بمعنى اشتمال العقدِ على المدةِ وإن قصُرت اهـ.
5- رواه مسلم في صحيحه بابُ الصرفِ وبيع الذهب بالورق نقدًا.
6- ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ في المطالبِ العاليةِ بزوائد المسانيد الثمانية باب فدْيِ الأُسارَى.
7- كما في الدرِّ المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.
8- رواه ابن حبان في صحيحه في ذكر الإخبار عن أول ما يأكل أهل الجنة في الجنة.
9- أخرج البزار في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قرضُ مرتين يعدِلُ صدقةَ مرةٍ اهـ.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات