من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الثامن والثلاثون- الأنبياءُ أحياءٌ بعدَ الموتِ

الدرس الثامن والثلاثون
الأنبياءُ أحياءٌ بعدَ الموتِ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الـمُحدِّثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الهرريُّ المعروفُ بالحبشيّ رحمهُ اللهُ تعالى سنةَ ثمانٍ وتسعينَ أو تسعٍ وتسعينَ وثلاثمائةٍ وألفٍ في مسجدِ برجِ أبي حيدرٍ في بيروتَ وهو في بيانِ حياةِ الأنبياءِ في قبورهم ونَفْعِهم غيرَهُم بعدَ الموتِ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعة:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلى الله على سيدنا محمدٍ وسلَّمَ أما بعدُ فقدْ رُوِّينا في مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ من حديثِ أوْسِ بنِ أوسٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ نبيَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: إنَّ مِنْ أفضلِ أيامِكُم يومَ الجمعةِ فأكثِروا منَ الصلاةِ عليَّ فيهِ فإنَّ صلاتَكم تبلُغُني قالوا وكيفَ ذلك يا رسولَ الله وقد أرَمْتَ قال: إنَّ اللهَ قد حرَّمَ على الأرضِ أنْ تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ اهـ هذا الحديثُ صحيحٌ مُتفقٌ على صحته رواهُ أبو داود أيضًا والبيهقيَّ في سننهِ الكُبرى وفي جزءِ حياةِ الأنبياءِ.
هذا الحديثُ الصحيحُ فيهِ إثباتُ أنَّ يومَ الجمعةِ من أفضلِ الأيامِ عندَ اللهِ وأنَّ الصلاةَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم مطلوبٌ الإكثارُ منها فيُسَنُّ الإكثارُ منَ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه أكثرَ من غيرهِ، وأنَّ هذهِ الصلاة تبلُغُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وفيهِ أنَّ الصحابةَ قالوا كيفَ ذلك يا رسولَ الله وقد أرَمْتَ أيْ صِرْتَ رَميمًا أيْ أكلتْ عِظامَكَ الأرضُ إذْ ما كانَ بلَغَهُم قبلَ ذلكَ أنَّ أجسادَ الأنبياءِ لا تأكُلُها الأرضُ فقالوا فأعْلَمَهم، فمن ذلك الوقتِ علِمُوا أنَّ أجسادَ الأنبياءِ لا تُسَلَّطُ عليها الأرضُ، وهذا أيْ بقاءُ أجسادِهم بعدَ الوفاةِ الذي هو الفناءُ مستمرٌّ باقٍ حتى إنَّ أجسادَهُم هذهِ تُنْشَرُ يومَ القيامةِ منَ القبورِ ليسَتْ أجسادًا معادَةً جديدةً لأنهُ لا سبيلَ للبِلَى على أجسادِهم.
وهناكَ حديثٌ ءاخرُ صحيحُ الإسنادِ لهُ تعلُّقٌ بهذا الحديثِ وهوَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال "صلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتَكُم تبلُغُني حيثُما كُنتُم" "فمَنْ صلى عليَّ نائِيًا بُلِّغْتُهُ ومَنْ صلى عليَّ عندَ قبري سَمِعتُهُ1" اهـ.
الحديثُ الأولُ والثاني كِلاهُما فيهما إثباتُ حياةِ الأنبياءِ بعدَ الموتِ فإنْ قيلَ كيفَ هذا وقد قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في سورةِ الرحمنِ ﴿كلُّ مَنْ علَيْها فانٍ﴾ فالجوابُ أنَّ الفناءَ تحقَّقَ بالموتِ ليسَ مِن شرطِ الفناءِ الذي ذكرَهُ اللهُ في هذهِ الآيةِ أنْ يَبْلَى الجسدُ بل الفناءُ تحقَّقَ بالموتِ الذي هوَ مفارقةُ الروحِ للجسدِ، إنَّما يَفْتَرِقُ الناسُ بأنَّ بعضًا منهم بعدَ موتِهِم وعودةِ الروحِ إلى الجسدِ تبْلَى أجسادُهم شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى مِن أجسادِهم إلا عَجْبُ الذنَب وهو عظمٌ صغيرٌ كهَيئةِ الخردلةِ في الصغرِ فإنَّ هذا خُلِقَ للبقاءِ، عليهِ رُكِّبَ الإنسانُ وعليهِ يُعادُ يومَ القيامةِ، أما الانبياءُ وشُهداءُ المعركةِ الذينَ كانَتْ عقيدتُهم صحيحةً ونيتُهُم صحيحةً فالأجسادُ منهم لا تبلَى، أما الفناءُ فقد تحققَ على الجميعِ وفي الحديثَينِ أيضًا إثباتُ أنهُ صلى الله عليه وسلم يبلُغُهُ صلاةُ أمَّتِهِ عليهِ، فللهِ تعالى ملائكةٌ وظيفَتُهم إبلاغُ صلاةِ المؤمنينَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إليهِ في قبرهِ، وفي الحديثِ الثاني إثباتُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسمعُ صلاة مَنْ صلى عليهِ عندَ قبرِهِ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم ومَنْ صلى عليَّ عندَ قبري سمِعتُهُ اهـ وليسَ مانعًا لهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ سماعِ صلاتِهِم وسلامِهِم عليهِ كثرةُ المصلينَ عليهِ مهما بلغتِ الكثرةُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى قدرتُهُ صالحةٌ لأنْ يُسمِعَ نبيَّ اللهِ صلاةَ كلِّ واحدٍ مهما كثُرَ عددُ الـمُصلينَ عليهِ عندَ قبرِهِ.
وهذانِ الحديثانِ يَشهَدَانِ لصحةِ ما وردَ من أنَّ أعمالَ أمَّتِهِ تُعْرَضُ عليهِ أي بعضَ أعمالِهِم ما كانَ خيرًا وما كانَ غيرَ ذلكَ فقد ثبتَ عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ حياتي خيرٌ لكُم تُحدِثُونَ ويُحدَثُ لكم ومَمَاتي خيرٌ لكم فإذا أنا مُتُّ عُرِضَتْ عليَّ أعمالكم فإنْ رأيتُ خيرًا حَمِدْتُ اللهَ وإنْ رأيتُ غيرَ ذلكَ استغفرتُ لكم2 اهـ فمن هذه الأحاديثِ يُعلَمُ أنَّ موتَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يُسبِّبْ لهُ انقِطاعًا كُلِّيًّا عن أمورِ أمَّتِهِ فصلاتُهم عليه وسلامُهم تبلُغُه وتبلغُه بعضُ أعمالهم فما كانَ مِنْ خيرٍ حَمِدَ اللهَ على ذلكَ وما كانَ مِنْ شرٍّ استغفرَ لهم وهذا فضلٌ كبيرٌ أكرمَ الله بهَ نبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم وأكرمَ بهِ أمَّتَهُ فالحمدُ للهِ على ذلكَ.
وهناكَ حديثٌ رابعٌ صحيحٌ يعودُ بالمعنى إلى هذهِ الأحاديثِ الثلاثةِ وهوَ ما رواهُ البيهقيُّ وأبو يَعلى في مسندهِ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياءُ أحياءٌ في قُبورِهِم يُصَلُّونَ3"اهـ. فإذا كانَ حالُ الأنبياءِ أنهم يُصلُّونَ في قبورِهِم بعدَ أنْ أحياهُمُ اللهُ تعالى بإعادةِ الروحِ إلى الأجسادِ فلا مانِعَ بأنْ يدعُوَ النبي لِمنْ شاءَ اللهُ تعالى منَ المؤمنينَ فيُفرَّجَ كربٌ بدعائِهِ صلى الله عليه وسلم أو ينالَ طالبٌ رغبتَهُ. فإن قالَ قائلٌ هذهِ الأحاديثُ تُسْتَشْكَلُ بحديثِ: "إذا مات ابنُ ءادم انقطعَ عملُهُ إلا من ثلاثٍ"4 اهـ فالجوابُ أنَّ حديثَ إذا ماتَ ابنُ ءادم المرادُ بهِ العمل التكليفيّ أي أن العملَ الذي يتجدد به الثوابُ كُلَّما عَمِلَهُ انقطع وليسَ فيهِ أنهُ لا يدعو في قبرهِ لأحدٍ وأنهُ لا يبقى لهُ شعورٌ وليسَ فيه أنَّ الإنسانَ يبقى على حالتِهِ حينَ فارَقَتْ روحُهُ جسدَهُ بحيثُ يصيرُ كقطعةِ خشبٍ لا شعورَ ولا إحساسَ فإنَّ هذا بعيدٌ منَ الصحةِ كلَّ البعدِ، إنما يستَشكِلُ بهذا الحديثِ أحاديثَ حياةِ الأنبياءِ مَنْ كانَ فهمُهُ سقيمًا أو في نفسِهِ ترْكُ استشعارِ التعظيمِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وذلكَ من شدةِ فسادِ قلوبِهِم فيتصوَّرونَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صارَ بعدَ وفاتِهِ لا يدعو لأحدٍ ولا يشعر بشىءٍ فهذا جهل منهم ليسَ أمرًا لهم فيه دليلٌ منَ الأحاديث النبوية، ليسَ في هذا الحديثِ أنَّ ابنَ ءادم بعد موتِهِ لا يسمعُ ولا يدعُو لأحدٍ من أهلِ الدنيا إنما هذا يرجِعُ إلى فسادِ أفهامِ هؤلاءِ الذينَ يتصوَّرونَ من هذا الحديثِ ما ليسَ فيه.
نحنُ نقولُ الأنبياءُ لا يتجدَّدُ لهم ثوابٌ بعمَلِهِم في قُبورهم كصلاتِهِم إنَّما يتلذَّذونَ بها ولكِنْ ليسَ فيه أنهُ لا يدْعُونَ اللهَ ولا يُصلُّونَ ومَنْ زعمَ هذا فهوَ سقيمُ القلبِ فاسدُ الفهمِ. ووردَ ما يؤَيِّدُ هذهِ الأحاديثَ مِن أنَّ الأنبياءَ بعدَ وفاتِهِم لهم عَمَلٌ ينفعُ غيرَهم، فهذا حديثُ المعراجِ فيهِ أنَّ موسى لقيَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألهُ ماذا افترضَ اللهُ على أمَّتِكَ منَ الصلاةِ فقالَ خمسونَ صلاةً فقالَ لهُ موسى سلْ ربَّكَ التخفيفَ فراجَعَهُ تسعَ مرات حتى خفَّفَ عن أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى خمس صلوات5 فنفعَ موسى أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى جميعِ رسُلِ اللهِ هذا النفعَ بعدَ موتِهِ.
وكذلكَ مما يؤَيِّدُ ذلكَ ما في حديثِ المعراجِ أنَّ الأنبياءَ الثمانيةَ الذين لقيَهُم في السمواتِ وهم ءادم ويحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم هؤلاء كلٌّ منهم لقيَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سماءٍ من السمواتِ إلا عيسى ويحيَى فإنهُ لقيَهُما في السماءِ الثانيةِ. كلُّ واحدٍ منهم سلَّمَ عليهِ رسولُ الله ودعا كلٌّ منهم للنبيَّ بخيرٍ فإنَّهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ قالَ عندَ ذِكْرِ لقائهِ بكلٍّ منهُم ودعا لي بخيرٍ 6 اهـ فإذا طلبَ أحدٌ من رسولِ اللهِ عندَ قَبْرِهِ أوْ في غير ذلكَ أن يتوجَّهَ لهُ إلى الله فليسَ ذلكَ كما يُخاطِبُ حجرًا أو قطعةَ خشبٍ كما يزعمُ ذلكَ أناسٌ يدَّعُونَ أنهم صَفْوَةُ المسلمينَ والحقيقةُ عكسُ ذلك، ليسَ الشأنُ بإيرادِ ءايةٍ أو حديثٍ في غيرِ محلِّهِ إنَّما الشأنُ أنْ تُورَدَ الآيةُ أوِ الأحاديثُ في محلِّها، أما وضعُ الآيةِ في غيرِ محلِّها والأحاديثِ في غيرِ موضعها فهوَ شأنُ الضالِّينَ الـمُنحَرفينَ كالخوارجِ، قالَ عبدُ اللهِ ابنُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ حمَلُوا ءاياتٍ وردَتْ في الكُفارِ على المؤمِنينَ فجعلوها في المؤمنين7 اهـ.
الخوارجُ لـم يفهمُوا قولَهُ تعالى في سورة يوسف ﴿إنِ الحُكْمُ إلا للهِ﴾ على وَجْهِهِ فاعْتَبَروا عليًّا لذلكَ واعتَبروا مَنْ والاهُ مخالفينَ للآيةِ وذلكَ لفسادِ أفهمامِهِم أي الخوارجِ لذلكَ قالَ عبدُ اللهِ بن عمر حملوا ءاياتٍ وردَتْ في الكفارِ فجعلوها في المسلمين، وهؤلاءِ كذلكَ فإذا سمعُوا رجلاً يقولُ يا رسولَ الله اعتبَروهُ كعُبّادِ الأوثان، عندهم كالذي يقولُ هُبَل يا هُبَل، وقد ثبتَ عن بعضِ الصحابةِ أنهُ قالَ يا محمدُ، عبد الله بن عمر هذا خَدِرَتْ رِجْلُهُ أي حصلَ لهُ تشَنُّجٌ فقيلَ لهُ اذكرْ أحبَّ الناسِ إليكَ فقالَ يا محمد فكأنما نُشِطَ من عِقال8، وهذا حصلَ بعدَ وفاةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فمن ينادي نبيًّا بقصْدِ أنْ يتوجَّهَ لهُ إلى الله لكشفِ ضُرِّهِ أنَّى يكون شِركًا. هؤلاءِ من فسادِ ظُنونِهِم وصلَ الأمرُ ببعضهم إلى أنه وجدَ رجلاً قاعدًا في ظلِّ شجرةٍ رافعًا يدَيهِ يدعو الله عز وجل فهَجَمَ عليه وقال له لِـمَ تعبدُ هذهِ الشجرةَ.
هؤلاءِ يضعُونَ الكلامَ في غيرِ موضِعِه، هذا دأبُهُم، وسبحان الله والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- أروى الجزء الأول أبو داود في سننه باب زيارة القبور، وروى الجزء الثاني البيهقي في شعب الإيمان وغيرُهُ.
2- رواه البزار في مسنده باب زاذان عن عبد الله.
3- رواه البيهقي في جزء حياة الأنبياء و أبو يعلى في مسند عن ثابت البناني و البزار في مسنده باب مسند أبي حمزة أنس بن مالك.
4- رواه مسلم في باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
5- رواه البخاري في صحيحه باب ذكر الملائكة.
6- رواه مسلم في باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
7- رواه البخاري في صحيحه باب قتل الخوارج والملحدينَ بعدَ إقامة الحجة.
8- رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة باب ما يقول إذا خدرت رجله. والعقال هو الحبل الذي يُشدّ به في وسط ذراع الإبل مع وظيفه.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات