درسٌ ألقاهُ الـمُحدِّثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ الهرريُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى في بيروت وهو في بيانِ وجوبِ التَّفَكُّرِ فِى مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ للاستدلال بذلك على وجود الله وعلى صفاته وبيان سوءِ فَهْمِ الْوَهَّابِيَّةِ.
قال رحمه اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ.
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِى خَلْقِ اللَّهِ وَاجِبٌ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ، التَّفَكُّرُ فِى الْمَخْلُوقِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا وَاجِبٌ أَىْ بِهَذَا الْقَدْرِ لِلْوُصُولِ إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَأَنَّهُ أَزَلِىٌّ وَأَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْعَالَمَ مُتَغَيِّرٌ يَعْرِفُ أَنَّ لَهُ مُغَيِّرًا وَيَعْرِفُ أَنَّ مُغَيِّرَهُ لا يَتَغَيَّرُ. هَذَا فَائِدَةُ التَّفَكُّرِ فِى الْخَلْقِ أَمَّا التَّفَكُّرُ فِى ذَاتِ اللَّهِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الَّذِى يَبْحَثُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ لِيَتَصَوَّرَهُ لا يَصِلُ إِلَّا إِلَى التَّشْبِيهِ. لِذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَعَنَا مِنَ التَّفَكُّرِ فِى ذَاتِهِ وَأَمَرَنَا بِالتَّفَكُّرِ فِى مَخْلُوقَاتِهِ. مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ وَأَنَّ هَذَا الْمُوجِدَ الَّذِى أَوْجَدَهُ لَيْسَ حَادِثًا بَلْ أَزَلِىٌّ وُجُودُهُ لَيْسَ لَهُ بِدَايَةٌ، هَذَا يُقَالُ لَهُ اسْتِدْلالٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقِدَمِهِ وَأَبَدِيَّتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَعْرِفُ أَنَّ نَفْسَهُ وَهَذَا الْعَالَمَ كُلَّهُ تَتَغَيَّرُ الأَحْوَالُ فِيهِ يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا مُوجِدٌ أَوْجَدَهَا وَأَنَّ مَنْ أَوْجَدَهَا لا يُشْبِهُهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. هَؤُلاءِ الْوَهَّابِيَّةُ حُرِمُوا هَذَا التَّفَكُّرَ وَقَالُوا اللَّهُ جَسَدٌ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ لَهُ أَعْضَاءٌ فَكَفَرُوا بِخَالِقِهِمْ مَا عَرَفُوا خَالِقَهُمْ.
تَفَكَّرُوا فِى خَلْقِ اللَّهِ وَلا تَفَكَّرُوا فِى ذَاتِ اللَّهِ1 اهـ هَذَا كَلامُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ حَدِيثًا نَبَوِيًّا لَكِنْ مَعْنَاهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْقُرْءَانِ فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ فِى مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَطْلُوبٌ مُهِمٌّ.
فَالْوَهَّابِيَّةُ مَا عَرَفُوا الْخَالِقَ مِنَ الْمَخْلُوقِ، بَلِ اللَّهُ عِنْدَهُمْ جِسْمٌ وَالْبَشَرُ جِسْمٌ وَالْعَرْشُ جِسْمٌ وَالضَّوْءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَالظَّلامُ وَالرُّوحُ كُلُّ هَؤُلاءِ بَعْضٌ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَبَعْضٌ كَثِيفٌ. جَعَلُوا اللَّهَ كَالْبَشَرِ جِسْمًا لَهُ نِصْفَانِ نِصْفٌ أَعْلَى وَنِصْفٌ أَسْفَلُ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّهُ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ. الَّذِى يَجْلِسُ لَهُ نِصْفَانِ نِصْفٌ أَعْلَى وَنِصْفٌ أَسْفَلُ. جَعَلُوا اللَّهَ مِثْلَ خَلْقِهِ مَا عَرَفُوا الْخَالِقَ مِنَ الْمَخْلُوقِ وَمَعَ هَذَا الْجَهْلِ الْفَظِيعِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.
كَانَتْ تَكْفِى هَذِهِ الآيَةُ فِى سُورَةِ الشُّورَى لِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ شَىْءٍ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لَكِنْ مَنْ أَقْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَاهَا أَمَّا مَنْ فَتَحَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا حَجْمًا لَطِيفًا وَلا هُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِى يَتَّصِفُ بِهَا الْحَجْمُ الْكَثِيفُ وَالْحَجْمُ اللَّطِيفُ لِأَنَّ كَلِمَةَ شَىْءٍ يَدْخُلُ تَحْتَهَا الْحَجْمُ اللَّطِيفُ وَالْحَجْمُ الْكَثِيفُ وَصِفَاتُ الْحَجْمِ اللَّطِيفِ وَالْحَجْمِ الْكَثِيفِ فَيَفْهَمُ مَنْ فَتَحَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَلا حَجْمًا لَطِيفًا كَالرِّيحِ وَالنُّورِ وَلا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْحَجْمِ الْكَثِيفِ أَوِ اللَّطِيفِ فَيَفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لا يَتَحَرَّكُ وَلا يَسْكُنُ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ مِنْ صِفَاتِ الأَحْجَامِ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأَحْجَامَ عَلَى ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ صِنْفٌ يَتَحَرَّكُ دَائِمًا كَالنُّجُومِ وَصِنْفٌ سَاكِنٌ دَائِمًا كَالْعَرْشِ وَصِنْفٌ يَتَحَرَّكُ تَارَةً وَيَسْكُنُ تَارَةً أُخْرَى مِثْلُ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ.
وَيَفْهَمُ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْخَلْقِ. يَفْهَمُ أَنَّ حَيَاةَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَحَيَاةِ الْمَخْلُوقِينَ حَيَاةُ الْمَخْلُوقِينَ بِالرُّوحِ. وَيَفْهَمُ أَنَّ حَيَاتَهُ لَيْسَتْ صِفَةً سَبَقَهَا الْعَدَمُ بَلْ حَيَاتُهُ لَيْسَ لَهَا ابْتِدَاءٌ. وَيَفْهَمُ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ وَمَشِيئَتَهُ لَيْسَتَا كَقُدْرَةِ الْخَلْقِ وَمَشِيئَتِهِمْ لِأَنَّ قُدْرَةَ الْخَلْقِ وَمَشِيئَتَهُمْ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَتَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. وَكَذَلِكَ يَفْهَمُ أَنَّ سَمْعَ اللَّهِ وَبَصَرَهُ لَيْسَ سَمْعًا حَادِثًا وَبَصَرًا حَادِثًا بَلْ يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ وَيَرَى الأَجْسَامَ بِسَمْعٍ وَبَصَرٍ أَزَلِيَّيْنِ، وَيَفْهَمُ أَيْضًا أَنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ نُطْقًا بِالْحُرُوفِ لِأَنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ مَا كَانَتْ فِى الأَزَلِ. اللُّغَاتُ كُلُّهَا مَا كَانَتْ، اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَزَلِىٌّ لا تَحْدُثُ فِى ذَاتِهِ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِى الأَزَلِ، وَيَفْهَمُ أَيْضًا أَنَّ كَلامَ اللَّهِ كَحَيَاتِهِ، حَيَاةُ اللَّهِ لَيْسَ لَهَا بِدَايَةٌ وَلا نِهَايَةٌ وَلا يَتَخَلَّلُهَا انْقِطَاعٌ فَيَفْهَمُ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ الَّذِى هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ لا يَتَخَلَّلُهُ انْقِطَاعٌ كَمَا يَتَخَلَّلُ كَلامَ الْمَخْلُوقِينَ. الْمَخْلُوقُ أَوَّلَ مَا يُولَدُ لا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُ كَلامًا يَتَخَلَّلُهُ انْقِطَاعٌ يَتَكَلَّمُ ثُمَّ يَسْكُتُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُ ثُمَّ يَسْكُتُ هَذِهِ الآيَةُ تُفْهِمُ أَنَّ كَلامَهُ لَيْسَ كَلامًا بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ إِنَّمَا هُوَ شَىْءٌ مَوْجُودٌ أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا يُسْمِعُهُ مَنْ يَشَاءُ فِى الدُّنْيَا أَمَّا فِى الآخِرَةِ يَسْمَعُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ كَلامَ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجُمَانٍ وَلا حَاجِبٍ اهـ وَبِذَلِكَ الْكَلامِ الَّذِى لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا يُحَاسِبُ الَّذِينَ يُحَاسِبُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ وَيَنْتَهِى مِنْ حِسَابِهِمْ فِى سَاعَةٍ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلْقِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْرَعُ مِنْ كُلِّ حَاسِبٍ فَلَوْ كَانَ كَلامُهُ الَّذِى يُحَاسِبُ بِهِ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَكَلامِنَا لَكَانَ اللَّهُ أَبْطَأَ الْحَاسِبِينَ. وَهَذَا الْقُرْءَانُ الَّذِى نَقْرَؤُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَرَأَهُ بِالْحُرُوفِ إِنَّمَا كَتَبَهُ اللَّهُ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ أَمَرَ جِبْرِيلَ بِأَنْ يَأْخُذَهُ وَيَقْرَأَهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، أَمَّا الَّذِى يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ قَرَأَ الْقُرْءَانَ عَلَى جِبْرِيلَ بِالْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ ثُمَّ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ مِثْلَ خَلْقِهِ.
وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ الَّذِى فَتَحَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ كَلامٌ كَكَلامِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ قُدْرَةٌ كَقُدْرَةِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ سَمْعٌ أَوْ بَصَرٌ كَسَمْعِ الْمَخْلُوقِينَ وَرُؤْيَتِهِمْ أَوْ كَلامٌ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفٍ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا لَكَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَجُوزُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ ضَعْفٍ وَمَوْتٍ وَعَجْزٍ وَمَرَضٍ، كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ هَذَا فَمَا يُؤَدِّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ، الَّذِى فَتَحَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ كُلَّ هَذَا مِنْ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.
الْعِبْرَةُ بِالْفَهْمِ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْحِفْظِ. هَؤُلاءِ الْوَهَّابِيَّةُ فِيهِمْ حُفَّاظُ قُرْءَانٍ لَكِنْ يَعْتَقِدُونَ ضِدَّ الْقُرْءَانِ. وَهَذَا ابْنُ تَيْمِيَةَ كَانَ كَثِيرَ الْحِفْظِ كَانَ يَحْفَظُ ءَالافًا مِنَ الْحَدِيثِ مَعَ الرُّوَاةِ وَمَعَ هَذَا اللَّهُ تَعَالَى مَا فَتَحَ قُفْلَ قَلْبِهِ فَصَارَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّ لَهُ أَعْضَاءً وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ، كُلَّ لَيْلَةٍ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِذَاتِهِ ثُمَّ يَقْضِى ثُلُثَ اللَّيْلِ الأَخِيرِ فِيهَا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْعَرْشِ. هَذِهِ الْمُصِيبَةُ أَتَتْهُمْ مِنْ فَهْمِهِمُ الْفَاسِدِ لَمَّا سَمِعُوا حَدِيثَ يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَخِيرُ وَيَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَهَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ وَهَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ2 اهـ هَذَا الْحَدِيثُ فَهِمُوهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَقَالُوا اللَّهُ بِذَاتِهِ يَنْزِلُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَا قَالُوا اللَّهُ يَأْمُرُ مَلائِكَتَهُ بِالنُّزُولِ بَلْ قَالُوا اللَّهُ بِذَاتِهِ يَنْزِلُ، وَهَذَا لَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ إِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ تَنْزِلُ مَلائِكَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ. اللَّهُ تَعَالَى يَنْسُبُ بَعْضَ الأَشْيَاءِ إِلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ الشَّىْءُ يَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ لِأَنَّهُ هُوَ الآمِرُ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَنْتَبِهُوا لِلأَمْرِ الْمُحَالِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ هَذَا النُّزُولَ بِقَوْلِهِمْ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلافِ بِقَاعِ الأَرْضِ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ لَيْلٌ فِى أَرْضٍ أُخْرَى فَلَوْ كَانُوا يَنْتَبِهُونَ لِفَسَادِ فَهْمِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا يُؤَدِّى إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّ لَحْظَةٍ فِى نُزُولٍ وَصُعُودٍ وَنُزُولٍ وَصُعُودٍ كُلَّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ إِنَّهُ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ. عُقُولُهُمْ سَخِيفَةٌ لا يَفْهَمُونَ الآيَةَ وَلا الْحَدِيثَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلا يَفْهَمُونَ أَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِلْعَقْلِ أَوْ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَلائِكَةَ يَنْزِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ أَمَاكِنِهِمُ الَّتِى هِىَ فَوْقُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يُرَدِّدُونَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُبَلِّغِينَ عَنِ اللَّهِ أَنَّ مَنْ دَعَاهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ وَأَنَّ مَنِ اسْتَغْفَرَهُ يَغْفِرُ لَهُ وَأَنَّ مَنْ سَألَهُ يُعْطِيهِ مُبَلِّغِينَ عَنِ اللَّهِ يُرَدِّدُونَ هُمْ مَنْ ذَا الَّذِى يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ مَنْ ذَا الَّذِى يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ ذَا الَّذِى يَسْأَلُنِى فَأَعْطِيَهُ يُرَدِّدُونَ هَذَا إِلَى الْفَجْرِ ثُمَّ عِنْدَ الْفَجْرِ يَصْعَدُونَ إِلَى أَمَاكِنِهِمُ الَّتِى هُمْ مَأْمُورُونَ بِالسُّكْنَى فِيهَا. وَالْمَلائِكَةُ كَثْرَةٌ يَنْزِلُ مِنْهُمْ كُلَّ لَيْلَةٍ قِسْمٌ إِلَى قِسْمٍ مِنَ الأَرْضِ عَلَى حَسَبِ ثُلُثِ اللَّيْلِ لِذَلِكَ الْقِسْمِ مِنَ الأَرْضِ.
هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ لَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ يَنْزِلُ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ عَلَى حَسَبِ حَالِ تِلْكَ الأَرْضِ يَنْزِلُ فِى الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ فَعَلَى قَوْلِهِمُ الْفَاسِدِ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَهُ عَمَلٌ إِلَّا أَنَّهُ نَازِلٌ طَالِعٌ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------