من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 الاجتهاد والتقليد

الدرس العاشر
بيان أن إنكار صفة الـقدرة لله تعالى
على كل شىء ضلالٌ بالإجماع

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
درسٌ أملاه الـمُحَدّثُ الشيـخُ عبدُ اللهِ بنُ مـحمَّدٍ الـهررىُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق لسنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وألف ر فِى بيته فِى بيروت وهو فِى بيان وجوب ثبوت صفة الـقدرة لله تعالى.
قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة:
    الـحمد لله رب العالـمين وصلَّى اللهُ على سيَّدنا مـحمَّد وسلـم.
وبعدُ فقد أجمع علـماء الإسلام أنه يـجب على الـمكلف معرفةُ أن الله تعالى مُتَّصِفٌ بالـحياة والعلـم والـقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وقالوا إنَّ مَن أنكر كونَ اللهِ تعالى متصفًا بصفة منها يكونُ غيرَ عارِفٍ بالله تعالى وإيمانُهُ غير صحيـحٍ.
     وما ذكره بعضُ الناس مِن أنَّ طائفة من العلـماء ذهبوا إلى أنه لا يكفرُ ولا يفسقُ مسلـمٌ فِى جهله بشىء مِن ذلك وأنه يُؤْجَرُ على اجتهاده فِى شىء مِن ذلك فلا يثبت ذلك الـمذكورُ عن ابنِ أبى لَيْلَى وأبى حنيفةَ والشافعِىّ وسفيانَ وداودَ ولا عن أحد من الصحابة، والعَجَبُ العُجابُ قولُهُ لا خلافَ فِى ذلك أصلًا.
وأما احتجاجُهُ بالرَّجُلِ الذِى أَوْصَى بأَنْ يُحْرَقَ جَسَدُهُ إذا مات ويُذَرَّ رمادُهُ فِى البر والبـحر فالـحديثُ مُؤَوَّلٌ بأنَّ معنـى لَئِنْ قدر اللهُ علَىَّ لَيُعَذّبَنـّى عِذابًا ما عَذَّبَهُ أحدًا، أنه بـمعنـى التضييق لا بـمعنـى الشك فِى قدرة الله، فالرجلُ لـم يكن شاكًّا فِى قدرة الله على كل شىء إنـما قصدُهُ أنه إنْ عَذَّبَهُ اللهُ فِى قبره فإنَّ عذابَهُ شديدٌ. كان مسلـمًا وكان نبّاشَ قُبورٍ يأخذُ الأكفان ويبيعُها لذلك خاف عند موته خوفًا شديدًا كان فِى حالةٍ كحالةِ الـجُنونِ مِن شِدَّةِ الـخوفِ فقال ما قال وهو لا يعقل.
وكيف يُعذر مَن يشك فِى قدرة الله عليه أو على إنسان غيره.
ولا يستطيع هذا الزائغُ أنْ يأتِىَ بنصٍّ ثابتٍ عن واحدٍ مِن هؤلاءِ الذين يَذْكُرُهُمْ. أما ابن حزم فيـحتـمل أن يقول بذلك لأن ابن حزم ليس فِى عِداد الأئمة الـمجتهدين فكيف يُعَدُّ مجتهدًا مَن فَرقَ فِى البول بين أن يبولَ الشخصُ فِى الـماء وبين ما إذا كان فِى وعاء ثم صَبَّ هذا البولَ فِى الـماء بأن الأول ينجّس الـماءَ والثانِى لا ينجّس فهل لهذا اعتبار فِى معنـى الاجتهاد.
وليس التأويلُ الـمذكورُ باطلًا كما زَعَمَ هذا الزائغُ بل له وجهٌ صحيـحٌ. ولـمزيد إيضاحِ الـمسألةِ ننقل روايةَ البخارِىّ مِن طريق أبِى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلـم قال: "كان رَجُلٌ يُسْرِفُ على نَفْسِهِ فلـمّا حَضَرَهُ الـموتُ قال لِبَنِيهِ إذا أنا مِتُّ فأحرقونِى ثم اطحنونِى ثم ذُرُّونِى فوالله لئن قدر الله علَىّ ليعذبنَّنِى عذابًا ما عذّبه أحدًا. فلـما مات فُعل به ذلك فأمر اللهُ الأرض اجْمَعِى ما فيك منه فَفَعَلَتْ فإذا هو قائم فقال ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْتَ قال يا ربّ خَشْيَتُكَ فغفر له" اﻫ ثم نتبعه بكلام الشارح الـحافظ ابن حجر العسقلانِىّ قال ما نصه فِى الـجزء السادس: قولُهُ لئن قدر الله علىَّ فِى رواية الكَشْمَيْهِنِى لئن قدر علىّ ربّى ، قال الـخطابى قد يُستشكل هذا فيقال كيف يغفر له وهو منكر للبعث والـقدرة على إحياء الـموتى والـجواب أنه لـم ينكر البعث وإنـما جهل فظن أنه إذا فُعل به ذلك لا يُعاد فلا يعذب وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنـما فعل ذلك من خشية الله، وهذا من الـخطابِىّ مـحمول على أنه أراد أنه صدر منه لكونه قريب عهد بالإسلام فلا يمنع ظنه ذلك صحة إسلامه لأن قريب العهد بالإسلام يعذر فِى أشياء يظنها وهى خلاف الشرع كما نص عليه الفقهاء فِى كتاب أحكام الـمرتد فَظَنُّ قريب العهد بالإسلام أنه إن فُعل به ذلك يسلـم من عذاب الله لا يمنع صحة إسلامه لأن هذا ليس جهلًا بأصل العقيدة بل هذا من توابع العقيدة بل العذاب على بعض الـجرائم كجريمة نبش الـقبور التِى كانت جريمة هذا الإنسان إذا ظن الـجاهل الـقريب العهد بالإسلام أنه يسلـم من هذه العقوبة إذا فُعل به هذا الفعل لا يمنع صحة إسلامه اهـ ثم قال: قال ابن قتيبة قد يغلط فِى بعض الصفات قوم من الـمسلـمين فلا يكفرون بذلك ورَدَّه ابنُ الـجوزِىّ وقال: "جحدُ صفة الـقدرة كُفرٌ اتفاقًا" اﻫ قال الـحافظ: وإنـما قيل إن معنـى قوله: لئن قدر الله علَىّ أى ضَيَّقَ وهى كقوله تعالى فِى سورة الطلاق: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾1 أى ضيق. وأما قوله: لَعَلّى أَضَلُّ اللهَ فمعناه لعلّى أَفُوتُهُ، يقال ضَلَّ الشىءَ إذا فات وذهب وهو كقوله تعالى فِى سورة طه: ﴿لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾2 ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال: أنت عبدِى وأنا ربك، أو يكون قوله لئن قَدَّرَ (الله) علَىَّ بتشديد الدال أى قدر علَىَّ أن يعذبنـى لَيُعَذِبَنّى أو على أنه كان مثبتًا للصانع وكان فِى زمن الفترة فلـم تبلغه شرائط الإيمان وأظهر الأقوال أنه قال ذلك فِى حال دهشته وغلبة الـخوف عليه حتى ذهب بعقله لـما يقول ولـم يقله قاصدًا لحقيقة معناه بل فِى حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسِى الذِى لا يؤاخذ بـما يصدر منه، وأبعد الأقوال قول من قال إنه كان فِى شرعهم جواز الـمغفرة للكافر انتهى. وأما رواية لعلّى أضل الله فقد فسرها شارح الـقاموس الزبيدِىُّ بقوله: أى أغيب عن عذاب الله.
فكل ما يذكر من التأويل إنـما يـحتاج إليه على تقدير أنه قال ذلك وهو فِى حال التكليف أى العقل والإرادة وإلا فلا حاجة إلى ذلك.
وقد تبين من كلام ابن الـجوزِىّ الـمار أن الشك فِى قدرة الله كفر بالإجماع إن كان من الـجاهل أو من غيره فلو كان الـجهل فِى ذلك عذرًا يمنع الكفر عن صاحبه لكان الـجهل فِى سائر أمور الدين عذرًا يسقط عن صاحبه العقوبة فِى الآخرة ومعنـى ذلك أن الـجهل خير من العلـم وكفِى بذلك خزيًا لقائل هذه الـمقالة.
وليست هذه الـمسألة أى قدرة الله والـجهل بها كبعض أمور الدين التِى قد تخفِى على قريب عهد بالإسلام أو ناشئ بأرض بعيدة عن أهل العلـم بأمور الدين وهى التِى قال الفقهاء يُعذر مَن جهلها فلا يكفر وذكروا لذلك مثال إنكار وجوب الصلاة وإنكار حرمة الزنا وأما قدرة الله على كل شىء فمسألتها من أظهر عقائد الإيمان أنها من خصائص الألوهية كعلـمه بكل شىء.
وأما احتجاج هذا الكاتب بقول الـحواريين لعيسى: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء3 فالـجواب عنه أمران أحدهما ما قيل إن ذلك صدر منهم قبل أن يثبت يقينهم كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فِى سورة الـمائدة: ﴿قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ كما قد حصل لبعض أتباع موسى أن قالوا: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ﴾4
وهل يفهم من ذلك أن هؤلاء حين قالوا تلك الكلـمة كانوا مؤمنين معذورين بقولهم هذا؟! والثانـى أنَّ معنـى يستطيع يـجيب أى هل يـجيـبك ربك يا عيسى إذا طلبت منه ذلك وهذا تفسيرٌ صحيـحٌ لغةً كما ذكره صاحب البـحر الـمـحيط فِى تفسيره والـمفسر اللغوِىّ الراغب الأصبهانِىّ فِى مفرداته ويؤيد هذا قراءة الكسائِىّ هل تستطيع رَبَّك أن يُنَزّل علينا مائدة معناه هل تطلبُ لنا مِن ربك أن ينزل لنا مائدةً وهذا الوجه يتعين الـمصير إليه لـما عُلِمَ للحواريين مِن الثناء الـمشهور الـمتواتر على الألسنة. قال صاحب البـحر فِى تفسيره قال الـمفسرون والـحواريون وهم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولـم يشكُّوا فِى قدرة الله تعالى على ذلك، قال ابن الأنبارِىّ وهو أحد أئمة اللغة: "لا يـجوز لأحد أن يتوهم أن الـحواريين شكوا فِى قدرة الله وإنـما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه هل تستطيع أن تقوم معِى وهو يعلـم أنه مستطيع ولكنه يريد أن يقول له هل يسهل عليك، وقال الفارسِىّ: معناه هل يَفْعَلُ ذلك بـمسألتك إياه، وقال الـحسن: لـم يشكُّوا فِى قدرة الله وإنـما سألوه سؤالَ مُسْتَخْبِرٍ هل يُنزل أم لا فإن كان يُنزل فاسأله لنا اهـ وقال صاحب البـحر أيضًا فِى تفسيره الـمختصر من البـحر الـمسمَّى بالنهر الـمادّ من البـحر وقرأ الكسائِىّ هل تستطيع بالتاء وربك بالنصب وهو على حذف مضاف تقديره سؤال ربك فالـمعنـى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل وهذه الـقراءة أحسن فِى الـمـحاورة من قراءة الـجمهور اهـ فتبين وظهر مما أوردناه أن صاحب الـمقالة أبعد فِى النُّجعة من غير طائل غير أنه يُمَوّهُ على أمثالـه ومَن هو أضعف منه فهمًا وأعجبُ ما فِى كلامه أنه لـم يكتف بنفِى الكفر عمن شك فِى قدرة الله بل نفِى عنه التفسيق أيضًا.
ومما يناسب ما نحن فيه أنه ورد حديثان صحيـحان أحدهما أخرجه البخارِىُّ والثانِى أخرجه أصحاب السنن الأربعة فحديث البخارِىّ هو ما رواه من طريق أبى هريرة رضِىَ الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: "إذا اجتهد الـحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر"5اﻫ والـحديث الآخر رواه أصحاب السنن الأربعة من طريق بُرَيدة رضِى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلـم قال: "الـقضاةُ ثلاثةٌ قاضٍ فِى الـجنة وقاضيان فِى النار فالذِى فِى الـجنة قاضٍ قَضَى بـحقٍّ بعلـمٍ واللذان فِى النار قاضٍ قَضَى بِجَوْرٍ وقاضٍ قَضَى بجهلٍ" اﻫ هذان الـحديثان مَوْرِدُهُمَا فِى فروع الشريعة وليس فِى أصول الدين والعقيدة فحديث البخارِىّ هو فِى الـحاكم الـمستوفِى لشروط الاجتهاد كعمر بن عبد العزيز وشُرَيْحٍ والشَّعْبِىّ فإنه إن أصاب كان له أجران وإن أخطأ فله أجرٌ وحديثُ بُريدة فِى الـقاضِى الذِى ليس من أهل الاجتهاد فيقضِى بلا علـم وهو جاهل فقال الرسول صلى الله عليه وسلـم عن هذا: "إنه فِى النار"
فإذا كان هذا فاسقًا بشهادة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم هذا فكيف يقول هذا الكاتب إن الـجاهل بصفات الله تعالى كالـقدرة على كل شىء معذور لا يكفر ولا يفسق، بل هو ومن اتبعه ممن يهدمون دين الله وهم يَدَّعُونَ أنهم دُعاةُ دينِهِ فليعلـموا ذلك وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وليعلـموا أنَّ نصوص الشرع ءاياتُ الـقرءان والأحاديثُ الثابتةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلـم ليس فيها تناقضٌ وإنـما داءُ الـجهل بـمآخِذِ الأحكام يَجْعَلُ صاحِبَهُ يَظُنُّ كأنَّ نصًّا يُناقض نصًّا.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- سورة الطلاق/ الآية (7)
2- سورة طه/الآية (52).
3- سورة المائدة/ الآية (112).
4- الأعراف/ الآية (138).
5-رواه البخاري في صحيحه باب أجرِ الحاكمِ إذا اجتهدَ فأصابَ أو أخطأَ.
رواه أبو داود في سننه بابٌ في الوضوءٍ من النَّوم، والترمذي في سننه باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصرِ وبعد الفجرِ، والنَّسائيُّ في سننهِ باب ذكر ما أعدَّ اللهُ تعالى للحاكمِ الجاهلِ، وابن ماجه في سننه بابُ الحاكمِ يَجْتَهِدُ فَيُصيبُ الحَقَّ.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2