من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 بيان بر الوالدين وخطر عقوقهما

الدرس الرابع والثلاثون
بيان بر الوالدين وخطر عقوقهما

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
    درس ألقاه الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىّ رحمه الله وهو فِى بيان برّ الوالدين وخطر عقوقهما.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الـحمد لله رب العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن وصلوات الله البرّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وحبيب ربّ العالـمين.
أما بعد فإنّ من معاصِى البدن التِى هى من الكبائر أى من الـمعاصى التِى لا تَلْزَمُ جارحةً من الـجوارح عقوق الوالدين أو أحدِهما وإن علا ولو مع وجود أقرب منه، قال بعض الشافعية فِى ضبطه هو ما يتأذّى به الوالدان أو أحدهما تأذيًا ليس بالـهيّن فِى العرف.
ومن عقوق الوالدين الذِى هو من الكبائر ترك الشخص النفقة الواجبة عليهما إن كانا فقيرين، أما إن كانا مكتفيين فلا يـجب الإنفاق عليهما، لكن ينفق عليهما من باب البرّ والإحسان إليهما، فَيُسَنُّ له أن يعطيهما ما يـحبانه، بل يسن أن يطيعهما فِى كل شىء إلا فِى معصية الله، حتى فِى الـمكروهات، إذا أطاع أبويه يكون له ذلك رفعة درجة عند الله إن نوى نية حسنة. قال الفقهاء: "إذا أمر أحد الوالدين الولد أن يأكل طعامًا فيه شبهة أى ليس حرامًا مؤكدًا يأكلُ لأجل خاطرهما ثم من غير علـمهما يتقايؤه" اهـ وقالوا: "إذا أمر أحد الوالدين ولده بفعل مباح أو تركه وكان يغتـم قلب الوالد أو الوالدة إن خالفهما يـجب عليه أن يطيعهما فِى ذلك" اهـ
ومن بر الوالدين أن يَبَرَّ مَنْ كان أبوه يـحبه بعد وفاة أبيه بالزيارة والإحسان، كذلك من كان تحبه أمُّهُ بعد وفاتها، أىْ أن يصلهم ويـحسن إليهم ويزورهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: "إنَّ مِن أَبَرّ البِرّ أن يَبَرَّ الرجلُ أهلَ وُدّ أبيهِ بعد أنْ يُوَلّى"1 اهـ أى بعد أن يموت. ومِن بِرّ الوالدين زيارتهما بعد موتهما.
    ومن أراد أن يكون بارًّا فعليه أن يطيعَهما فِى كل الـمباحات أو أغلبها. قال أهل العلـم يُشْرَعُ أن يطيع الولد والديه فِى الـمباح والـمكروه، لكن لا يـجب طاعتهما فِى كل مباح بل يـجب أن يطيعهما فِى كل ما فِى تركه يـحصل لهما غم بسببه وإلا لا يكون واجبًا، فإذا طلب أحد الوالدين من الولد أن لا يسافر وكان سفره بلا ضرورة وجب عليه ترك ذلك السفر إذا كان يغتـم بسفره. وإذا أراد الأب أو الأم منع ولدهما من الـخروج من البيت بدون إذنه فإن كان خروجه يُسَبّبُ للأب غمًّا شديدًا بـحيث يـحصل له انهيار أو شبه ذلك عندئذ لا يـجوز له الـخروج بدون إذنه بل يكون خروجه
من الكبائر لأنَّ الأذى الذِى يـحصل شديدٌ فدرجة الـمعصية فِى ذلك على حسب الإيذاء الذِى يـحصل للوالد.
وإذا طلب الأب أو الأم من ابنه شيئًا مباحًا كغسل الصحون أو ترتيب الغرفة أو تسخين الطعام أو عمل الشاى أو ما أشبه ذلك ولـم يفعل فإن كان يغتـم قلب الوالد أو الوالدة إن لـم يفعل حرامٌ عليه أن لا يفعل.
قال الله تعالى فِى سورة الإسراء: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاَهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا(24)﴾.
أمرَ الله عباده أمرًا مقطوعًا به بأن لا يعبدوا إلا إياه وأمر بالإحسان للوالدين، والإحسان هو البر والإكرام، قال ابن عباس: "لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار"2 اهـ وقال عروة: "لا تـمتنع عن شىء أحباه"3 اهـ
وقد نهى الله عباده فِى هذه الآية عن قول أفّ للوالدين وهو صوت يدل على التضجر، وأصلها نفخك الشَّىْءَ الذِى يسقط عليك من تراب ورماد والنفخ للـمكان تريد إماطة الأذى عنه فقيلت لكل مستثقل.
   وقوله: ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ معناه لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك.
﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ أى لينًا لطيفًا أحسن ما تجد كما يقتضيه حسن الأدب.
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ أىْ أَلِنْ لهما جانبك متذللًا لهما من فرط رحمتك إياهما وعطفك عليهما ولكبرهما وافتقارهما اليوم إلى مَن كان يفتقر إليهما بالأمس، وخفض الـجناح عبارة عن السكون وترك التصعب والإباء، أىِ ارفُقْ بهما ولا تغلظ عليهما. ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ أى مثل رحمتهما إياى فِى صغرى حين ربيانـى ولا تكتفِ برحمتك عليهما التِى لا بقاء لها.
وروى الـحاكم4 والطبرانـىُّ5 والبيهقىُّ6 فِى شعبه مرفوعًا: "رضا الله فِى رضا الوالدين وسخطه فِى سخطهما" اهـ وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضى الله عنهم قال: قلت يا رسول الله من أبر؟ قال: "أُمُّكَ" قلتُ ثم من؟ قال: "أمك"، قلت ثم من؟ قال: "أمك"، قلت ثم من؟ قال: "أباك ثم الأقرب فالأقرب"اهـ أخرجه أبو داود7 والترمذى8 وحسنه.
فيفهم من هذا الـحديث تقديمَ الأم على الأب فِى البر، فلو طلبت الأم من ولدها شيئًا وطلب الأب خلافه وكان بـحيث لو أطاع أحدهما يُغْضِبُ الآخر يقدم الأم على الأب فِى هذه الـحالة.
وإنـما حَضَّ رسول الله صلى الله عليه وسلـم فِى حديثه هذا على بر الأم ثلاثًا وعلى بر الأب مرة لعنائها وشفقتها مع ما تقاسيه من حمل وطلق وولادة ورضاعة وسهر ليل. وقد رأى عبد الله بن عمر رضى الله عنهما رجلًا يـحمل أمه على ظهره وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أترانـى وفيتها حقها؟ قال: "ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن قد أحسنتَ واللهُ يثيبك على الـقليل كثيرًا" اهـ
وقد قال العلـماء بوجوب الاستغفار للأبوين الـمسلـمين فِى العمر مرةً ثم الزيادة على ذلك قربة عظيمة، وليس شرطًا أن يكون هذا الاستغفار بعد وفاتهما. لكن الولدُ إن استغفر لوالديه بعد موتهما ينتفع والداه بهذا الاستغفار حتى إنهما يلحقهما ثواب كبير فيعجبان من أىّ شَىْءٍ جاءهما هذا الثواب فيقول لهما الـملك هذا من استغفار ولدكما لكما بعدكما.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلـم أنه قال: "ثلاثة لا يدخلون الـجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء" اهـ رواه ابن حبان أى لا يدخل هؤلاء الثلاثة الـجنة مع الأولين إن لـم يتوبوا وأما إن تابوا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"9اهـ رواه ابن ماجه. والديوث هو الذِى يعرف الزنـى فِى أهله ويسكت عليه مع مقدرته على منعهم ورَجُلَةُ النساء هى التِى تَشَبَّهُ بالرجال.
وأخرج البخارىُّ ومسلـمٌ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: "مِن الكبائر شتـم الرجل والديه" قيل وهل يسب الرجل والديه؟ "قال نعم يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه"10 اهـ
وروى الـحاكم بإسناد صحيـح أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: "كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم الـقيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه"11اهـ يعنـى العقوبة فِى الدنيا قبل يوم الـقيامة.
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام:" ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة الـمظلوم ودعوة الـمسافر ودعوة الوالد على ولده"12 رواه الترمذىُّ وأبو داود وابن ماجه وأحمدـ أى إن دعا عليه بـحق أما إن دعا عليه بغير حق فلا يضره ذلك.
فمن أراد النجاح والفلاح فليبرَّ أبويه تكن عاقبته حميدة فَبِرُّ الوالدين بركة فِى الدنيا والآخرة. وءَاخِرُ دعوانا أن الـحمد لله رب العالـمين.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه مسلم في صحيحه باب صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما.
2- انظر زاد المسير في علم التفسير.
3- انظر زاد المسير في علم التفسير.
4- رواه الحاكم في المستدرك باب كتاب البِّرِ والصِّلَةِ
5- رواه الطبراني في المعجم الكبير باب عبد الله بن عمرو بن العاص
6- رواه البيهقي في شعب الإيمان باب برّ الوالدين
7- رواه أبو داود في سننه باب في برّ الوالدين.
8- رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في برّ الوالدين.
9- رواه ابن ماجه في سننه باب التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
10- رواه البخاري في صحيحه باب لا يسُبُّ الرجُلُ والديهِ ورواه مسلم في صحيحه باب بيان الكبائر وأكبرها.
11- رواه الحاكم في المستدرك باب كتاب البرِّ والصِّلةِ.
12- رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في دعوة الوالدين ورواه أبو داود في سننه باب الدُّعاء بِظَهرِ الغَيْبِ ورواه ابن ماجه في سننه باب دعوةِ الوالِدِ ودعوةُ المظلومِ ورواه أحمد في مسندِه باب مسند أبي هريرة رضي الله عنه.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2