من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 وجوب التسليم لحكم الشرع

الدرس الـحادى عشر
وجوب التسليم لحكم الشرع

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
  درسٌ ألقاهُ الـمـحدثُ الشيـخُ عبدُ اللهِ بنُ مـحمَّدٍ الـهررىُّ رحمهُ اللهُ تعالى وهو فِى بيان وجوب التسليم لحكم الشرع.
قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة:
الـحمد لله رب العالـمين والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مـحمَّد.
أما بعدُ فقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾1قال تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ الـمعنـى أنه يـجب التسليمُ للشرع فِى كل شَىْءٍ، كلُّ ما جاء به شرعُ اللهِ يـجب التسليم له، يـجب التسليم لرسول الله فِى كل ما جاء به مِن تحليلٍ أو تحريمٍ أو حكمِ الـجِناياتِ. لا يصح أن يُؤمَنَ ببعضٍ ويُكْفَرَ ببعض. هذه الآيةُ فيها نَفِى الإيمان لـمن لا يُسَلّمُ للشريعة تسليمًا مُطلقًا. يـجب تصديقُ رسولِ الله فِى كلّ ما جاء به فِى أصول العقيدة وفِى الأحكام وفِى الـحدود فيـجب الـحذرُ من أناسٍ يَدَّعُونَ أنه ليس لازِمًا أى ليس واجبًا تطبيقُ كُلّ أحكامِ الشريعةِ.
بعضُ أهلِ العصر من الدكاترة الذين يتخرجون باسم جامعة كذا وجامعة كذا يُحرّفون شريعة الله يُسايِرون الكفار فإنهم لـما يسمعون من الكفار انتقادَ شرع الله فِى بعض أحكام دين الله مثلِ قتل الـمرتد إذا لـم يرجع إلى الإسلام يسايرونهم فِى ذلك. الـمرتدُّ فِى شرع الله، الـمسلـم الذِى خرج من الإسلام بقولٍ أو فعلٍ يقتضِى الكفرَ يُدْعَى إلى الرجوع إلى الإسلام ثلاثةَ أيامٍ فإن لـم يَتُبْ يقتله الـخليفةُ أو نائبُه، واجبٌ عليه.
وقد سبق فِى شرع غيرنا قتلُ الـمرتد، موسى عليه السلام حكمَ بقتلِ أناسٍ عبدوا العِجْلَ مع أنهم رَجَعُوا حَكَمَ بقتلهم أما فِى شرعنا إن رجعَ لا يُقتَل. والكفارُ الذين درسوا بعض الـمسائل التِى فِى التوراة يعلـمون ذلك، يعلـمون أن موسى عليه السلام ذهب إلى الطُّورِ بأمر الله تعالى وترك قومَهُ الذين نَجَوْا معه مِن فرعون وكانوا سِتـمائَةِ ألفٍ وهؤلاء بنو إسرائيل ذريةُ يعقوبَ ذريةُ يوسفَ عليه السلام وإخوتِهِ كان بلغ عددُهم نحو ستـمائة ألفٍ فِى نحو أربعِمائةِ سنةٍ ومكث سيدنا موسى فِى غيبته أربعين ليلةً فَفُتِنَ أكثرُ بَنِى إسرائيلَ برجل صاغَ عِجلًا من ذهبٍ، هذا الذهبُ كانوا حملوه من مصر، حُلِىٌّ كانَ عوارِىَ لبعض الكفار وكان فيهم رجل أصله من عُبّاد البقر ظاهرًا مسلـم جمعوا هذا الذهب وصاغه هذا الرجل عجلًا صار هذا العجل يَخُورُ ويمشِى فقال لهم هذا الرجلُ هذا إلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ موسَى فصدّقه كثيرٌ منهم فعبدوا العجل، فلـما رجع موسى عَلِمَ بـما فعلوا فَحَكَمَ بقتل سبعين ألفًا الذين عبدوا العجل. البـحّاثون من هؤلاء الأوروبيين يعرفون هذا لكن بـما أنهم ابتعدوا من شرائع الأنبياء كلَّ البعد ينتقدون حكم الـمسلـمين الذِى هو فِى دين الله الذِى جاء به سيدنا مـحمد. قَتْلَ الـمرتد يَعيبون، كذلك يَعيبون قتلَ الزانِى الـمُحْصَنِ أى الزانِى الذِى كان تزوّج زواجًا شرعِيًّا وقضَى وَطَرَه وهذا أيضًا الزانِى الـمـحصن فِى شرع موسى عليه السلام كان يُقتَل، الرجل والـمرأة إن كانا مـحصَنَينِ ثم زنَيَا. اليهودُ الذين كانوا فِى زمن الرسول فِى الـمدينة جاؤوا إلى الرسول فقالوا هذان زَنَيا وهما مُحْصَنانِ فقال لهم: "ما تَجِدُونَ فِى التوراةِ" قالوا نَجِدُ الفضيـحةَ لهما، قال: "ألا تجدون فِى التوراة الرجم" أى الـقتل رميًا بالـحجارة، قالوا لا، قال: "ائتوا بالتوراة"، وفِى ذلك الوقت التوراة التِى بأيديهم كان فيها ما هو صحيـح لـم يُبَدَّل أو كانت كلُّها صحيـحةً لكن حكموا بغير ما فيها فجاء شخص من علـمائهم فبدأ يقرأُ فِى التوراة ووضع يده على ءاية الرجم وكان هناك يهودِىٌّ أسلـمَ اسمه عبدُ الله بن سلام لـما رءاه وضع يده على موضع فِى التوراة وصار يقرأ ما قبل الـموضع الذِى وضع عليه كفه وما بعده قال له ارفع يدك فرفع يده فإذا ءَايَةُ الرجم أى الآية التِى تَحْكُمُ بأنَّ الزانِىَ الـمـحصن يرجم بالـحجارة حتى يموت، ثم طُبّقَ عليهما الرجم هذين اليهوديين اللذين زنَيا.2
هذا أى حكم الرجم كانت نزلت ءايةٌ فِى النصّ عليه ثم نُسِخَتْ تلاوتُها، الله نسَخَها تِلاوَةً وأبقَى حُكمَها، الآن لا تُقرأ قرءانًا لكن حكمها باقٍ، من حيث التلاوةُ لا تُقرأ قرءانًا، الآن لا توجد فِى الـمصحف، الصحابة قرأوها مُدّة من الزمن على أنها قرءان ثم نسخَ اللهُ تعالى تلاوتَها. وهذا عالـمُ اليهودِ الذِى وضع يده على ءاية الرجم يسمَّى ابن صُورِيا كان من الذين حَرَّفوا حكم التوراة.
صَحَّ عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: "من جَحَدَ الرجمَ فقد كفر بالرَّحمن" اهـ وفِى لفظٍ: "مَن كفر بالرجم فقد كفَرَ بالرَّحمن"3 اهـ هذا إن بلَغَه أن شريعة الله فيها رجم الزانِى الـمـحصن أما من لـم يبلُغْه فإن أنكَرَ لا يُكَفَّر.
ءَايَةُ الرجم التِى كانت فِى الـقرءان هى: الشيـخُ والشيـخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا ألبَتَّة نَكَالًا مِن اللهِ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ4. هذه الآية كانت فِى سورة الأحزاب، سورة الأحزاب اليوم ثلاثة وسبعونَ ءَايَةً كانت أولَ ما أُنْزِلَتْ طويلةً مثلَ سورة البقرة ثم نَسَخَ الله أكثرَها وأبقَى ثلاثةً وسبعينَ ءَايَةً.الشيـخُ والشيـخَةُ معناه الثَّيّبان أى شخصان تزوجا بالـحلال وجامع الذكر منهما زوجته وجامع الأنثى منها زوجُها أما غيرُ الثَّيّب فعقابُه جلدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ، الـحاكمُ الـخليفةُ يَجْلِدُ مائةَ جلدةٍ الرجلَ والـمرأةَ ثم يُغَرَّبان أى يُنفَيان سنةً كاملةً يبقيان مَنفِيَّيْنِ، هذا حكم الزانِى البِكر.
منذ ستين سنة أو أكثر فِى مصر بعضُ من يَدَّعِى العلـم من الـخَوَنَةِ حَرَّفُوا قطعَ يدِ السارق، السارقُ فِى شريعة الله إن سرق ما قيمته ربع دينارٍ ذهبًا تُقطع يده إن سرقه من الـمكان الذِى يُحفظ فيه عادةً تُقطع يدُه اليُمنَى أوّلَ مرّة، هذا ورد فيه ءاية فِى سورة الـمائدة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38)﴾ 5 بعضُ الـخوَنَة من أهل مصر ممن يدعِى العلـم قال وجدنا لهذه الآية حلًّا قال معنـى: ﴿اقْطَعُواْ﴾ أعطوهم مالًا بالعطاء هذا العطاء يكون قطعًا بدل قطع اليد، قال بدل قطع اليد مشايـخنا استنبطوا هذا الـحكم اهـ هذا باطل. هذا تحريف للشريعة. السارقُ الذِى سرق ما يساوِى ربعَ دينارٍ ذهبًا مِن مكان يُحفَظ فيه عادةً مِن مكانٍ حِرزٍ لذلك الـمالِ إن بلغَ أمرُهُ الـحاكمَ وجب على الـحاكم إذا ثبتت السرقة على الشخص عنده قَطْعُ يَدِهِ مِن مَفْصِلِ الكفّ ثمَ يُحْسَم يُغْمَس فِى الزيت الـمُغْلَى، لا يبقى الدم ينزِف.
ثم أيضًا فِى مصر حرّفوا حكم الطلاق منذ ستين سنة أو سبعين سنة. مـحاكمهم الآن أفسدَتْ حكمَ الطلاق تركوا الـمذاهب الأربعة وتَبِعوا رجلًا حَرّفَ دين الله اسمه أحمد بن تيمية أخذوا بكلامه وتركوا الـمذاهب الأربعة. وهذا الرجل كان مُشَوّشًا على الـمسلـمين أُخِذَ فاجتـمعَ عليه الـقضاةُ وولاةُ الأمور والعلـماءُ فِى مصر حكموا عليه بأن يُحبَسَ حبْسًا طويلًا من دون تحديد وذلك فِى أوائل الـقرن الثامن فقضَى فِى السجن سنتين فمات فأُخرِجَ مَحمولًا. هذا الرجل الـخبيث أحمد بن تيمية هو الذِى حَرَّفَ حكمَ الطلاقِ، قال إنَّ الرجل إذا حلف بالطلاق على وجه اليمين تكفِى الكفارةُ. عندهم اليوم إذا قال شخص طلقت زوجتِى ثلاثًا يعتبرونه طلاقًا واحدًا لأنه ليس مُفَرَّقًا إنـما يكون الطلاق ثلاثًا عندهم إذا كان مُفَرَّقًا أما إذا جُمِعَت الثلاثُ بلفظٍ واحدٍ لا يتعبرونه طلاقًا ثلاثًا يعتبرونه طلاقًا واحدًا معناه يـجوز له أن يرتجعها بقول أرجَعْتُكِ إلى نِكاحِى وهذا من جملة ما أفسده الـخَوَنَةُ فِى مصر من أمر الدين. تركوا الـمذاهب الأربعة لقول هذا الرجلِ الـخبيث ابن تيمية ثم بعدما شاع فِى مصر تبعهم أناسٌ من غير أهل مصر. فِى سوريا فِى دمشق كان رجل مُسِنٌ يَتَزَيَّا بِزِىّ شيـخ كان أهل الشام يقصدونه إذا طلّقوا ثلاثًا معلّقَة يذهبون إليه فيقول هات خمسةً وعشرين ليرة كفّارةً وارجع إلى زوجتك. هذا الرجلُ عُرِف فِى دمشق واشتهر قوله باسم مذهب الكلاب سماه أهل البلد مذهبَ الكلاب ومع ذلك كان الناس الذين ما عندهم تقوَى يذهبون إليه، يقصده بعض الناس الذين ليس لهم عناية بالدين.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- سورة النساء/ الآية (65).
2- رواه البخاري في صحيحه باب أحكام أهلِ الذِّمَّة وإحصانِهم إذا زَنُوا ورُفِعوا إلى الإمامِ.
3- رواه ابن حبان في باب ذكر إخفاء أهل الكتاب ءاية الرَّجم.
4- رواه الحاكم في المستدرك باب تفسير سورة الأحزاب بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
5- سورة الـمائدة/الآية (38).             


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2