من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 بيان مسألة الـقدر

الدرس الـخامس والأربعون
بيان مسألة الـقدر

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
   درسٌ ألقاهُ الأصولِىُّ الـمـحدثُ الشيـخُ عبدُ اللهِ بنُ مـحمَّدٍ العبدرىُّ رحمهُ اللهُ تعالى يوم الأحد الثامن من شهر ربيع الثاني سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق للعشرين من نيسان سنة خمس وسبعين وتسعمائة وألف ر وهو فِى بيان مسألة الـقدر.
قال رحمه الله رحمةً واسعةً
الـحمد لله ربّ العالـمين وصلى الله على سيِّدنا مـحمَّد وعلى ءالـه  الطيبين.
    أما بعدُ فقد روينا فِى مسند الإمام أحمد 1رَضِىَ الله عنه وفِى سنن أبى داود 2 وغيرهما عن ابن الدَّيْلَمِىّ قال: أَتَيْتُ أُبَىَّ بنَ كعبٍ فقلتُ يا أبا الـمنذر إنه حدث فِى نَفْسِى شىءٌ من هذا الـقَدَر فحَدّثْنِى لعلَّ اللهَ ينفعُنِى قال: "إنَّ اللهَ لو عَذَّبَ أهلَ أرضِه وسمواتِه لعذَّبَهم وهو غيرُ ظالـمٍ لهم ولو رَحِمَهم كانت رَحْمَتُهُ خيرًا لهم مِن أعمالِهم ولو أنفقْتَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِى سبيل الله ما قَبِلَهُ اللهُ منك حتى تُؤْمِنَ بالـقَدَر وتَعْلَمَ
أنَّ ما أصابَك لـم يكن لِيُخْطِئَكِ وما أَخْطَأَكَ لـم يكُنْ لِيُصِيْبَك ولو مِتَّ على غير ِهذا دخلْتَ النار" اهـ
قال: ثُمَّ أتيْتُ عبدَ الله بنَ مسعودٍ فَحَدَّثَنِى مثلَ ذلك قال: ثُمَّ أتيْتُ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمَانِ فحَدَّثَنِى مثلَ ذلك ثُمَّ أَتَيْتُ زيدَ بنَ ثابتٍ فحَدَّثَنِى مثلَ ذلك عن النبىّ صلى الله عليه وسلـم اهـ
هذا الـحديثُ يُعَدُّ من الأحاديث التِى تكون حُجَّةً لإثبات الـقَدَر. معنـى الـقَدَرِ أنَّ اللهَ دَبَّرَ فِى الأزل كلَّ شىءٍ يدخل فِى الوجود على حسب علـمه الأزلىّ فكلُّ ما دخل فِى الوجود مِن أشياءَ عَيْنِيَّةٍ وأعمالٍ للعباد أى حركاتِهم وسكونِهم وعَقْدِ نواياهم فِى نفوسهم وكلّ ما يـحصل من نَفْعٍ أو ضُرّ أو فرحٍ أو حُزْنٍ أو راحةٍ أو تَعَبٍ أو صِحَّةٍ أو سَقَمٍ أو نشاطٍ أو فُتُورٍ وغيرِ ذلك إنـما وُجِدَ بعلـم الله ومشيئته وتقديره وأنه هو يـخلق ذلك كلَّه وأن الله تعالى هو يُقْدِرُ العباد على أعمالـهم فلولا إِقْدَارُهُ تعالى لهم ما استطاعوا أن يعملوا شيئًا من أعمالـهم ومَن أَقْدَرَهُ اللهُ تعالى ووَفَّقَه لفِعْل الـحَسَنات فذلك من فِضْلِ الله ومن يَسَّرَهُ الله تعالى لغير ذلك من الشَّرّ فَبِخِذْلانِ الله تعالى للعبد وذلك عَدْلٌ مِن الله ليس ظلـمًا، فمَنْ لـم يُؤْمِنْ بالـقَدَر لا يَقْبَلُ اللهُ تعالى له حسنةً مهما عَمِلَ وتَعِبَ فما كان من أعمال الإنسان عمدًا فهو بقَدَرِ الله وما كان خَطَأً غيرَ عَمْدٍ فهو بقَدَرٍ أيضًا فلا يـجوز أن يُقالَ كما يقول بعضُ الـجاهلين إنّ ما حَصَل خطأ من غير عمد قضاءٌ وقَدَرٌ وأما ما حصل عمدًا فلا يُقال بقضاءٍ وقَدَرٍ، بل كلُّ ما يعمله الإنسان عمدًا أو خطأً فهو بقدر الله تعالى. فما كان مِن عَمَلِ الإنسان عَمْدًا اللهُ قَدَّرَ أن يعملَهُ هذا الإنسانُ باختياره أى باختيار العبد وما كان من عمل الإنسان بغير عَمْدٍ فاللهُ تعالى قَدَّرَ فِى الأزل أن يَعْمَلَهُ العبدُ بغير اختيار فإذًا  كلٌ مُقَدَّرٌ. العملُ الذِى نَعْمَلُهُ عمدًا والعملُ الذِى نَعْمَلُهُ خطأً بلا عَمْدٍ كلٌّ بِقَدَرِ الله لأنَّ الله تعالى قَدَّرَ فِى الأزل أنَّ هذا الإنسانَ سيعملُ كذا باختياره فيكون ذلك عَمْدًا وقَدَّرَ أنَّ هذا الإنسانَ يعمَلُ كذا بغير اختياره فكلٌّ بقَدَرِ الله تعالى وكلٌ بخلق الله تعالى، فإذا تَكَلَّمَ الواحدُ مِنَّا عمدًا بكلام أو نظرَ إلى شىء عمدًا أو مَدَّ يده إلى شىء قَصْدًا فهو بِقَدَرِ الله واختيارِ العبد واللهُ تعالى هو الذِى يـخلق هذه الـحركةَ، هذا النَّظَرُ اللهُ تعالى هو الذِى يـخلقه لَسْنَا نحن نَخْلُقُه، وهذا التَّناوُلُ باليَدِ اللهُ تعالى هو الذِى يـخلقه وإن كان للعبد فيه اختيار فهو بخلق الله تعالى، فالعمل الذِى يعمله الإنسان باختياره فهو بخلق الله والعمل الذِى يعمله الإنسان بغير اختياره فهو بخلق الله.
إذًا الإنسانُ لا يـخلق شيئًا إنـما الإنسانُ يَكْتَسِبُ ومعنـى يَكْتَسِبُ أنه يُوَجّهُ إرادتَهُ نَحْوَ العمل واللهُ تعالى يَخْلُقُ ذلك العملَ فإذا أرادَ إنسانٌ أن يَتَكَلَّمَ بكلامٍ فتَكَلَّمَ فالله تعالى هو الذِى خلقَ هذا الكلامَ فِى هذا الإنسان ولولا أنَّ الله تعالى خلق فيه هذا الكلام وأَقْدَرَهُ على أن يَتَكلَّم ما استطاع أن يَتَكَلَّمَ، وهذا الذِى يدلُّ عليه قولُ الله تعالى فِى صِفَة الكُفَّار يومَ الـقيامةِ: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ3 الكُفَّارُ فِى حالٍ مِن الأحوال يومَ الـقيامة يَخْتـم اللهُ على أفواههم لأنهم كانوا أَنْكَرُوا الكُفْرَ الذِى كَفَرُوهُ جَحَدُوا كَأَنَّهُ يَخْفِى لهم هناك مِن شِدَّةِ اضْطِرَابِهِم أَنْكَرُوا قالوا ما أَشْرَكْنا اللهُ تعالى خَتـم على أَفْواهِهم أى مَنَعَها مِن الكلامِ أَعْجَزَها وأَنْطَقَ جُلُودَهم فَتَتَكَلَّمُ أَرْجُلُهُم بـما عملوا وأيدِيهِم تتكلـم وتَشْهَدُ عليهم بـما عملوا أما ألسِنَتُهم فِى ذلك الوقت لا تتكلـم، اللهُ جعل قُوَّةَ الكلامِ فِى جلودهم فِى أيديهم وأرجلهم قال الله تعالى فِى سورةِ فُصّلَتْ: ﴿قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ هذا دليلٌ على أنَّ اللهَ هو الذِى يـخلق الكلام الذِى نتكلـم به عمدًا فكيف الكلامُ الذِى نتكلـم به خطأً بغير إرادة كيف لا يكون بخلق الله تعالى كُلٌّ بخلق الله تعالى الكلامُ الذِى نتكلـم به عمدًا اللهُ تعالى هو الذِى يـخلقه فينا والكلامُ الذِى يَجْرِى على ألسنتنا بدون إرادة فالله تعالى هو الذِى يـخلقه فينا كلٌّ بخلق الله تعالى لكن الله تبارك وتعالى يَجْزِى الإنسانَ بالثوابِ الـجَزِيلِ إن تَكَلَّمَ بخير، والعبدُ ما تكلـم إلا بقدرة الله إلا بـمشيئة الله فالله تعالى يُعْطِيهِ الأَجْرَ فَضْلًا منه، وإن تَكلَّمَ بِشَرٍّ بكُفْرٍ أو بـمعصيةٍ يعاقبه فِى الآخرة وهذا العِقابُ عَدْلٌ مِن الله تعالى ليس ظلـمًا.
اللهُ تعالى هو الذِى خلق فينا الكلام والـحركة وسائرَ الأعمال أى جميعَ الأعمالِ التِى نَعْمَلُها الله سبـحانه وتعالى هو خلقها فينا مع ذلك هو الله تبارك وتعالى له أن يعاقب هؤلاء العَبِيدَ على معاصيهم فِى الآخرة وإن كان هو الذِى خلق فيهم هذا الكلام الله تبارك وتعالى له أن يعاقب هذا العبد فِى الآخرة على هذا الكلام السيّئ الذِى هو كفر أو معصية وعلى هذه الـحركة التِى هِىَ من الـمعصية أو من الكفر، له أن يعاقب هذا العبدَ وإن كان العبدُ لا يـخلق شيئًا إنـما الله تعالى يـخلق فيه حركاتِهِ وسكونَهُ حتى نوايا الـقلوبِ اللهُ تعالى هو الذِى يـخلقها.
الله تعالى هو الذِى يُقَلّبُ الـقَلْبَ والـقلبُ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِن اللّسانِ مع أنَّ اللسانَ سريعُ التَّقَلُّبِ لكِنِ الـقلبُ أسرعُ تَقَلُّبًا فالله تعالى هو الذِى يـخلق فينا كلَّ ذلك كلُّ ما نَتَكلَّمُ به إن كان عن عمدٍ وإن كان عن غير عمدٍ وكلُّ ما نَنْوِيْهِ مِن النوايا فالله تعالى هو الذِى يـخلقها فينا مع ذلك له أن يعاقب مَن عصى أى مَن خالفَ الأمرَ له أن يُعاقِبَ لأنه بعث الأنبياء والرسل فعَلَّمَ الأنبياءُ والرُّسُلُ عبادَ الله ماذا يُحِبُّ اللهُ ماذا فرضَ اللهُ على عباده ماذا حَرَّمَ اللهُ على عباده، عَلَّمُوا. بعد ذلك الإنسانُ الذِى خالفَ تَعَالِيمَ الأنبياءِ فقد استحَقَّ العذابَ فِى الآخرة، اللهُ نهانا عن كلّ الـمعاصِى مع ذلك، فإِنْ حَصَلَتْ منا معصيةٌ فالله تعالى هو خالـقُها فينا ومع ذلك له أن يُعَذّبَنا على معاصينا.
فِى اللوح الـمـحفوظ كان مكتوبًا أن هذا الإنسان يعصِى أى وكان مكتوبًا كلُّ حسنةٍ تحصل منا وكلُّ سيئةٍ تحصل منا مكتوبٌ فِى اللوح الـمـحفوظ قبل أن نُخْلَقَ بأكثرَ من خمسين ألفَ سنة أى على أننا نعملها باختيارنا ما كان من أعمالنا الاختيارية كُتِبَ أننا نَعْمَلُها باختيارنا وما نعمله بغير اختيارنا كذلك كُتِبَ أنه يـحصل منّا بغير اختيارنا.
اللهُ تعالى يأمر بالـخير ولا يأمر بالشرّ لكنه هو الذِى قَدَّرَ الـخيرَ والشرَّ فما كان من أعمالنا التِى نعملها باختيارنا اللهُ تعالى قَدَّرَ أنها تكون باختيارنا أنها تكون منا باختيارنا أى أننا نعملها باختيارنا وما كان بغير اختيارنا الله تعالى قَدَّرَ أنها تكون منا بغير اختيارنا، واختيارُنا ممزوجٌ بجَبْرٍ ليس اختيارًا مَحْضًا اختيارٌ فيه جَبْرٌ ممزوجٌ بجَبْرٍ لأنه حتى هذا الاختيارُ اللهُ خَلَقَهُ.
العبدُ مَظْهَرٌ لِجَرَيانِ تَقَادِيرِ الله تعالى فالعبد له اختيارٌ ممزوجٌ بجَبْرٍ، الـحركةُ التِى يَتَحَرَّكُها الإنسانُ قَصْدًا والـحركةُ التِى يتحركها الـمُرْتَعِشُ الذِى أصابته الرّعْشَةُ ألَا نَجِدُ فَرْقًا بين هذه وهذه هذا الاختيارُ الذِى لنا. مَن تَحَرَّكَ بإرادةٍ فهو بِقَدَرِ الله ومَن تَحَرَّكَ بدون إرادة فهو بقَدَرِ الله، الواحدُ منّا كما أنه لا يستطيع أن يَزِيدَ فِى جِسْمِهِ عُضْوًا واحدًا غيرَ الذِى خلقه الله تعالى كذلك لا يستطيع أحدٌ منّا أن يتكلَّم أو يتحرَّكَ أو يَنْظُرَ أو يَطْرِفَ بدون مشيئة الله وبدون خلقه. والدليلُ على ذلك مِن شَاهِدِ العِيَان أنَّ الواحدَ منا لـمّا يتكلـم ببعض الـحروف يتكلـم بها من شَفَتَيْهِ تخرُجُ من الشَّفَتَيْنِ بـحيث إذا لـم يُطْبِقِ الشَّفَتَيْنِ لا تخرُجُ هذه الـحروفُ وبعضُ الـحروفِ نَنْطِقُ بها من الـحَلْقِ ليس مِن الشفتين الواحد منا لا يستطيع أن يُخْرِجَ الـحرفَ الذِى جعله الله يَخْرُجُ من الشفتين أنْ يُخْرِجَهُ من الـحَلْقِ وكذلك العكسُ لا يستطيعُ، مَن يستطيع أن يتكلَّمَ بالباء وهو فاتحٌ شَفَتَيْهِ من غيرِ أن تَنْطَبِقَ من غيرِ إطْباقِهِما لا يستطيعُ أحدٌ مِنَّا أنْ يَنْطِقَ بالباء كذلك العكس حرفُ الـحاءِ لا تَطْلُعُ إلا مِن الـحَلْقِ فإذا واحدٌ مِنَّا أَطْبَقَ شَفَتَيْهِ إطباقًا لا تَخْرُجُ الـحاءُ إلا بفَتْحِهِما، هذا الدَّلِيلُ على أنَّ الإنسانَ لا يعمل شيئًا إلا بخلق الله وقَدَرِهِ.
الإنسانُ إذا يَسَّرَه الله تعالى فِى هذه الـحياةِ لعَمَلِ الـخَيْرِ أى للإيمانِ والطاعاتِ وتَجَنُّبِ الـمعاصِى ومات على ذلك فهذا بفضل الله تعالى، اللهُ تعالى تَفَضَّلَ وتَكَرَّمَ عليه بهذه النّعَم فللّهِ الفَضْلُ والِمنَّة على هذا العبدِ اللهُ تعالى هو الذِى له الِمنَّةُ عليه. العبدُ ليس له على الله مِنَّةٌ ماذا يَدَّعِى على الله، هو خَلَقَ جسمَه هو خلقَ كلَّ ما فيه العين واليد وحاسة السمع وحاسة اللـمس وحاسة الشم إلى غيرِ ذلك ثم هو الذِى مَكَّنَهُ من الـمَشْىِ ومَكَّنَهُ من النُّطْقِ بالـخير ومَكَّنَهُ مِن تناول عمل الـخير، هو الذِى يسَّرَ عملَ البِرّ والإحسانِ لهذا العبدِ فالعبدُ ليس له على الله مِنَّةٌ بل اللهُ هو الذِى له مِنَّةٌ على العبد. فالأنبياء الذين هم أفضل خلق الله ليس لهم على الله مِنَّة بل الِمنَّةُ لله عليهم. كذلك الـملائكةُ الذين منذ خُلِقُوا فِى طاعة الله تعالى لا يَفْتُرُون عن ذكر الله لا نومَ يَشْغَلُهُم عن طاعة الله ولا أكلَ ولا شربَ حتى هؤلاء اللهُ تعالى له الـمنة عليهم مع أن الواحد منهم مَضَى له من العمر ما يعلـم الله من آلاف السنين.
أمَّا مَن يَسَّرَهُ اللهُ للكفر والـمعاصى فلا يَلُومَنَّ إلا نفسَه اللهُ تعالى هو خلق فيهم هذا الكفرَ وهذه الـمعاصىَ والعبدُ له فيه اختيارٌ لكنه اختيارٌ ممزوجٌ بجَبْرٍ له فِى ذلك، واللهُ تعالى لا يكون ظالـمًا إذا عَذَّبَ هذا العبدَ فِى الآخرة على كُفْرِه ومعاصيه لا يكون ظالـمًا.
ثم هذا الكافرُ إذا عَذَّبَه اللهُ تعالى فِى الآخرة بالعذابِ الأليمِ فهو مُسْتَحِقٌّ لهذا واللهُ تعالى عَدْلٌ فِى ذلك لا يلحقُه ظُلْم. إذا عذّب هذا الكافرَ على كفره الذِى هو خلقه فيه وعذب العصاة مَن شاء مِن عصاة الـمسلـمين من شاء أن يعذبهم على هذه الـمعاصِى التِى عملوها بخلق الله ومشيئته وقَدَرِه فاللهُ تعالى لا يكون ظالـمًا لأنه حاكمٌ ليس له ءامرٌ ولا ناهٍ هو الآمِرُ وهو الناهِى لا ناهِىَ فوقَه ولا ءامِرَ فوقه.
نحن العباد لولا أن الله تعالى أمرَ ونهى ما كان علينا عقابٌ على أى عملٍ نعمَلُهُ لكنه سبـحانه وتعالى أمرنا على أَلْسِنَةِ الأنبياءِ، الأنبياءُ أبلغُونا أنَّ اللهَ أمركم بكذا افْعَلُوا كذا افعلوا كذا افعلوا كذا ونهاكم عن كذا لا تفعلوا كذا لا تفعلوا كذا لا تُشْرِكُوا ولا تقتلُوا النفسَ التِى حرَّم الله إلا بالـحق ولا تظلِـموا لولا ذلك ما كان علينا سؤال فِى الآخرة لكن الله تبارك وتعالى بعث الرسل والأنبياء فأبلغونا فانقطع العذرُ عنا ليس لنا عذرٌ.
الله تعالى هو خالـقنا وخالـق ما فينا ليس له شريكٌ فِى ذلك، هو خالـق حركاتِنا وسَكَناتِنا ليس له شريكٌ فِى ذلك، فعّال لـما يريد، فالذِى لا يُؤْمِنُ بهذا بل يعتقدُ خلافَه فقد ضاع عمرُه مهما عمِل من الإحسان إلى الناس فِى هذه الـحياةِ ومهما قدَّم من العَطْفِ على الـمساكين والفقراءِ والأراملِ والأيتامِ فإنه ليس له ذَرَّةٌ من الثوابِ فِى الآخرة لأنه ما ءامن بالـقَدَر. أليس قال الرسولُ صلى الله عليه وسلـم فِى هذا الـحديث الذِى سبق ذكره: "ولو مِتَّ على غير ذلك دخلتَ النارَ" اهـ ومذكورٌ فِى هذا الـحديث: "لو أنفقتَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا فِى سبيل الله ما قَبِله الله منك" اهـ
مَن لـم يُؤمنْ بالـقَدَر لو كان يتَصَدَّقُ بـمِثْلِ جَبَل أُحُدٍ الذِى فِى الـمدينة مِن الذهب للجهاد فِى سبيل الله لو عَبَّأَ الـجيوشَ وأَمَدَّهُم بهذا الـمالِ الكثير لا يقبل الله منه شيئًا وليس له عند الله ذرةٌ مِن الـحسنات.
الإيمانُ بالـقَدَرِ يَتْبَعُ الإيمانَ بالله تعالى فمَنِ اعترفَ أن الله تعالى موجود وأنه لا يشبه شيئًا لكن اعتقدَ خلافَ الإيمانِ بالـقدر فإنه لا ينفعه عملٌ عمِله فِى الدنيا لا ينفعه عمل من الأعمال وكلُّ أعمالِه هَبَاءٌ مَنْثُورٌ.
ثم الله تبارك وتعالى أخبر فِى كتابه الذِى أنزله على نَبِيّهِ وفِى الكتب التِى أنزلها على أنبيائه قبل نبينا مـحمد أخبر أن الإنسان عليه أن يعملَ ما أُمِرَ به على ألسنة الأنبياء وينتهِى عمّا نُهِىَ عنه على ألسنة الأنبياء.
ومن جملة ما نهى عنه على ألسنة الأنبياء أنه لا يضر الـمرءُ نفسَهَ الله تعالى قال فِى الـقرءان الكريم: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ4. ومعناه تَجَنَّبُوا الأسباب التِى يكون فيها عادةً العَطَبُ والـهلاكُ تَجَنَّبُوها، بعد أن أخبرنا أن كل شىءٍ يدخل فِى الوجود فهو بـمشيئة الله وخلقه وأنه لا يقع شىء إلا بخلقه وتقديره أَمَرَنَا بِتَوَقّى الـمهالكِ معناه أنتـم اسْعَوْا فِى الأسباب ويكونُ ما قَدَّرْتُ ويَتَنَفَّذُ ما قَدَّرتُ. الإنسانُ لـمّا يـخرج لحاجته صباحًا إلى خارج منزله ماذا يعتقدُ إن كان مؤمنًا، يعتقدُ إن كان مؤمنًا إنْ كان كُتِبَ لى وقَدَّرَ الله تعالى فِى الأزل أنّى فِى سَعْيِى هذا يُصيبنِى كذا وكذا من الـخير مما يَنفعنِى فلا بد أن يـحصل وإن لـم يقدّر لى الله تعالى فِى الأزل أن أنال خيرًا فِى ذهابِى هذا لا أنال شيئًا. على هذا الاعتقاد يكون خروجه من منزله إن كان مؤمنًا. فالله تعالى أمرنا بالإيمان بالـقَدَرِ وأمرنا بالسَّعْىِ بتحصيل الـمصالـح الدينية وما لا نَستغنِى عنه من الـمصالـح الدنيوية أيضًا أمرنا بالأمرين فعلينا أن نـمتثل.
ثم الله تبارك وتعالى جعل عِلْمَ الإنسان علـمًا مـحدودًا ما أعطى للإنسان علـمًا مطلقًا ليس له حدٌّ ولا نهايةٌ حتى الأنبياء ما أعطاهم العلـم بكل شىء وكذلك الـملائكةُ ما أعطاهم العلـم بكل شىء فالشىءُ الذِى وُجِدَ وحصل علِمنا أنه حصل بـمشيئة الله وتقديره وأما الشَّىْءُ الذِى لـم يـحصُلْ فما أخبر الله تعالى فِى كتابه بأنه سيصير نؤمن بأنه سيصير  ولو لـم يصر بعد، نؤمن بأنه لا بد أن يصير. انتهى.
والله سبـحانه وتعالى أعلـم وأحكم.
------------------

1- رواه أحمد في مسنده باب حديث زيد بن ثابت عن النبيِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
2- رواه أبو داود في سننه باب في القدر.
3-  سورة فصلت/الآية (21).
4-  سورة النساء/الآية (29).


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2