من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 رد بعض شبه الـمشبهة وبيان معناها على مذهب أهل السنة والـجماعة

الدرس الثامن والأربعون
رد بعض شبه الـمشبهة وبيان معناها على مذهب أهل السنة والـجماعة

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
   درس ألقاه الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرِىّ رحمه الله تعالى وهو فِى بيان كيفية رَدّ بعض شبه الـمشبهة وبيان معناها على مذهب أهل السنة والـجماعة.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الـحمد لله رب العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن صلوات الله البرِّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والـمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين.
أما بعد فقد روينا فِى صحيـح مسلـم وشعب الإيمان للبيهقِىّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فَطُوبَى للغُرَباء" قيل ومن هم الغرباء يا رسول الله قال "الذين يُصْلِحُونَ مِن سُنَّتِى ما أفسد الناس"1اهـ وسنة الرسول صلى الله عليه وسلـم هِىَ شريعته أىِ العقيدة والأحكام.
فِى هذا الـحديث بشارة لـمن يتـمسك فِى هذا الزمن الذِى فسدت الأمة فيه بسنة الرسول أى شريعته.
إذا قال الـمشبه الـخارج عن هذه السنة إن الـقرءان والـحديث يدلان على أن الله تعالى متحيز فِى جهة فوق كيف يُرَدُّ عليه الردُّ يكون بالدليل النقلِىّ والدليل العقلىّ لأن هذه الفرقة فرقة التشبيه تقول لفظًا نثبت لله ما أثبت لنفسه والذِى يريدونه حقيقةً أنهم يثبتون لله مشابهة الـخلق ويقولون لفظًا وننفِى عنه ما نفِى عن نفسه ويريدون بذلك نَفِى تنزيه الله عن التحيز فِى الـمكان والـجهة وعن الـجسمية أوصاف الـجسم كالـحركة والسكون والانتقال والانفعال إلى غير ذلك من صفات الـحجم. الـقدماءُ منهم كان قسم منهم يقول هو حجم لطيفٌ نور يتلألأ أما هؤلاء الذين فِى هذا العصر يقولون عن الله جسم كثيف بدليل قولهم إنه فِى الآخرة لَمَّا يقال لجهنـم هل امتلأت فتقول هل من مزيد إن الله تعالى يضع قدمه فيها على أنه جارحة ولا يـحترق فهذا دليل على أنهم مجسمة وأن الله عندهم جسم كثيف.
إذا أورد أحد الـمشبهة حديث الـجارية يقال له: هذا الـحديث يـخالف الـحديثَ الـمتواترَ الذِى رواه خمسةَ عشر أو ستة عشر صحابيًّا. وهذا الـحديث الـمتواتر الذِى يعارض حديث الـجارية قوله عليه الصَّلاة والسَّلام "أُمِرْتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله وأنّى رسول الله"2 اهـ هذا الـحديث معناه أنه لا يُحْكَمُ بإسلام الشخص إلا بالشهادتين. وحديث الـجارية فيه أن الرسول اكتفِى بالـحكم لإسلام الـجارية التِى جاء بها صاحبها ليمتحنها الرسولُ ليعتقها إن كانت مؤمنةً بأنها قالت فِى السماء. فِى هذا الـحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلـم قال لها: "أين الله" قالت فِى السماء قال: "مَن أنا" قالت رسول الله قال: "أعتقها فإنها مؤمنة"3 اهـ هذا اللفظ رواه مسلـم من طريق صحابِىّ واحدٍ وبين هذا الـحديث وبين الـحديث الـمتواتر الذِى رواه خمسة عشر صحابيًا تعارضٌ لأن حديث الـجارية يوهم أنه يكفِى أن يقول الشخص الله فِى السماء للحكم عليه بالإيمان وهذا خلاف الـحق لأن قول الله فِى السماء عقيدة اليهود بهذا يرد عليهم.
فإن قال قائل إن هذا الـحديث حديث الـجارية وافق عليه شُرَّاحُ مسلـمٍ النووِىُّ وغيره الـجواب أن يقال إن هؤلاء ما حملوه على الظاهر بل أوّلوه النووِىُّ وغيره الذين شرحوا كتاب مسلـم ما حملوه على الظاهر كما أنتـم حملتـموه على الظاهر إنـما قالوا معنـى: "أين الله" سؤال عن عظمة الله وليس سؤالًا عن التحيز فِى مكانٍ لأنه يُقال فِى اللغة أين فلان بـمعنـى ما دَرَجَتُهُ ما عُلُوُّ قَدْرِهِ

 فإذا قال فِى السماء معناه رفيع الـقدر عالِى الـقدر على هذا حمله النووِىُّ وغيره من شراح مسلـم ما حملوه على الظاهر كما حمله الوهابية على الظاهر. يقال للوهابية فإن تركتـم حمله على الظاهر وأوّلتـموه كما أوّلوه لـم يلزمكم الكفر بالنسبة لهذه الـمسئلة كما أن أولئك لـما حملوه على خلاف الظاهر وأوّلوه تأويلًا أى أخرجوه عن الظاهر ما فسروه على الظاهر سَلِمُوا من الكفر أما لو حملوه على الظاهر وقالوا هذا دليل على أن الله متحيز فِى السماء لكان حكمهم كحكمكم وهو التكفير. ثم إن كلـمة فِى السماء فِى اللغة وكلـمة أين تأتِى للسؤال عن الـحيز والـمكان وتأتِى للسؤال عن الـقدر والدرجة تستعمل للتحيز وتستعمل لرفعة الـقدر أى لعلو الدرجة واللهُ وصف نفسه بأنه رفيع الدرجات أى أنه أعلـم من كل عالـم وأقدر من كل قادر ونافذ الـمشيئة فِى كل شىء.
أما احتجاج هؤلاء الـمشبهة بآية: ﴿ءًأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَآء﴾ فالجواب أن يقال لهم: ﴿مَّن فِي السَّمَآء﴾  الـمراد الـملائكة وليس الـمراد بكلـمة ﴿مَّن﴾ اللهَ. لأن الـملائكة لو أمرهم الله أن يـخسفوا بالـمشركين الأرض لخسفوها بهم كذلك الآية الأخرى التِىذ تليها الـملائكة هم يُرْسِلُونَ الريـح فالله تعالى لو أمرهم بأن يرسلوا ريـحًا تبيد الكفار لفعلوا هذا معنـى الآيتين: ﴿ءًأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ4 والآية التِى تليها ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا5. وهذه الآية تُفَسَّرُ بـما ورد فِى الـحديث الصحيـح: "ارحموا مَن فِى الأرض يرحمكم مَن فِى السماء" اهـ6 ووردت رواية صحيـحة أخرى "ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء" اهـ7 هذه الروايةُ فَسَّرَتْ ﴿مَّن فِي السَّمَآءِ﴾ الـمذكورةَ فِى الآية بأنَّ الـمراد بـمن فِى السماء الـملائكة لأن الله لا يُعَبَّرُ عنه بأهل السماء إنـما يُعَبَّرُ بأهل السماء عن الـملائكة لأنهم سكانها أى سكانُ السموات وبهذا يُجاب عن تـمسك الـمشبّهة بالاحتجاج بهاتين الآيتين.
ثم كلُّ ءَايَةٍ يتـمسكون بها يدل ظاهرها على أنَّ الله حجم متحيز فِى جهةِ فوق وأنه يتحرك ينزل وينتقل إلى تحت إلى السماء الدنيا وأنه يوم الـقيامة ينزل إلى الأرض مع الـملائكة بذاته كما هو ظاهر الآية: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا8 يـجاب عن هذا كله بأن هذه الآيات تفسيرها على الظاهر يُؤَدّى إلى التناقض فِى الـقرءانِ والـقرءانُ منزهٌ عن التناقض لأن هذه الآيات لو فُسّرَتْ على الظاهر لعارضتها ءَايَاتٌ أخرى ظاهرُها أنَّ الله فِى جهة الأرض كقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ9 ظاهرُ هذه الآية أنَّ اللهَ هنا فِى مـحيط الأرض بـحيث يكونُ الذِى يصلّى إلى الـجنوب أو إلى الشمال أو إلى الـمشرق أو إلى الـمغرب يكون اتَّجَهَ إلى ذات الله وهذا لا يقولون به. يُقال لهم تلك الآياتُ قُرْءَانٌ وهذه الآية وأمثالـها قرءان وأنتـم لا تحملون هذه الآيات التِى ظواهرها أن الله فِى جهة تحت وأمثالَهَا كآية: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ10 هذه الآية تخبر عن إبراهيم أنه لـما ترك قومه الذين لـم يقبلوا منه تَرْكَ عبادةِ الأوثانِ: ﴿قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ ظاهر هذه الآية أن الله متحيزٌ فِى فلسطين لأن إبراهيم كان قاصدًا أن يذهب إلى فلسطين وأنتـم لا تقولون بظاهر هذه الآية ولا تلك الآية وكل تلك التِى فسرتـموها على الظاهر والتِى لـم تفسروها على الظاهر قُرْءَانٌ على هذا يلزمكم التناقض فِى الـقرءان فلا سبيل للنجاة من لزوم التناقض فِى الـقرءان إلا أن تؤول الآيات التِى ظواهرها أن الله متحيز فِى جهة فوق والآيات التِى ظواهرها أن الله فِى جهة تحت يـجب أن لا تُحْمَلَ على الظاهر هذه تؤول وهذه تؤول. ثم التأويلُ بعضُ أهل السنة قالوا بلا كيف أى ليس بـمعنـى الشكل والكمية أو يقال على ما يليق بالله كما فِى ءَايَةِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى11 لِنَفِى التحيز والـجلوس على العرش عن الله وفِى ءَايَةِ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ12 يُقال فَثَمَّ قِبْلَةُ الله كما قال بعض السلف كما قال مجاهد الذِى أخذ العلـم عن ابن عباس رضِىَ الله عنهما وأما ءَايَةُ: ﴿وقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ معناه أى إلى الـمكان الذِى أعبد فيه ربّى بلا إيذاء لأن قومه رموه فِى النار فلـم يـحترق ومع هذا لـم يُسَلّمُوا له لـم يَتْبَعُوهُ فِى الإسلام. والـحمد لله أولًا وءاخرًا.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه مسلم في صحيحه باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وأنه يأرز بين المسجدين ورواه البيهقي باب في الصبر على المصائب.
 رواه البخاري في صحيحه باب وجوب الزكاة، ومسلم في صحيحه باب من لقِىَ الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار.
3- رواه مسلم في صحيحه باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.
4- سورة الـملك/الآية (16).
5- سورة الـملك/الآية (17).
6- رواه الترمذي فِى سننه باب ما جاء فى رحمة المسلمين.
7- رواه ألحاكم في المستدرك كتاب البرّ والصلة.
8- سورة الفجر/الآية (22).
9- سورة البقرة/الآية (115).
10- سورة الصافات/الآية (99).
11- سورة طه/الآية (5).
12- سورة البقرة/الآية (115).


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2