من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 رُؤيةُ النبىّ صلى الله عليه وسلـم لِربّه تبارك وتعالى بفؤاده

الدرس التاسع والأربعون
رُؤيةُ النبىّ صلى الله عليه وسلـم لِربّه تبارك وتعالى بفؤاده

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
    دَرْسٌ ألقاهُ الـمُحَدّثُ الشيـخُ عبدُ اللهِ بنُ مـحمَّدٍ الهرريُّ رحمهُ الله تعالى فِى بيته فِى بيروت وهو فِى بيان رؤية النّبِىّ صلى الله عليه وسلم لربِه تبارك وتعالى.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
    الـحمد لله رب العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن وصلوات الله البرِّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والـمرسلين.
أما بعدُ فقد روينا بالإسناد الـمتصل فِى تفسير ابن مَرْدَوَيه عن أبِى ذرٍّ الغِفارِىّ رضِىَ الله عنه أنه قال عن نبِىّ الله صلى الله عليه وسلـم: "إنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ بِعَيْنِهِ لَكِنْ رَءاهُ بِقَلْبِهِ"1 اﻫ وروينا فِى صحيـح مسلـم من حديث ابن عباسٍ رضِىَ الله عنه أنه قال: "رأى رَبَّهُ أىْ رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلـم رَبَّهُ ليلةَ الـمعراج بفؤاده مرتَين"2 اﻫ وورد عن ابن عباس رضِىَ الله عنه وعن أنس بن مالك رضِىَ الله عنه أنهما قالا: "رأى مـحمَّدٌ رَبَّهُ" اﻫ
   وظاهِرُ الروايتين الأخيرتين عن ابن عباس وأنس بن مالك رضِىَ الله عنهم يُعارِض ما ثَبت عن أبِى ذرّ وعن ابنِ عباسٍ رضِىَ الله عنهم فِى الروايتين اللتين قبلهما. وطريق الـجمع بين ذلك أن يقال إن قول ابن عباس: "رءاه بفؤاده مرتين" وقولَ أبِى ذر: "لـم يره بعينه ولكن رءاه بقلبه" مُقدَّمان على روايةِ الإطلاقِ أى فَنَحْمِلُ قولَ ابنِ عباسٍ فِى الروايةِ الـمطلقةِ "رأى مـحمَّدٌ ربّه" اﻫ على أنه أراد الرؤيةَ بالفؤاد فتلك الروايةُ تُفَسّرُ هذه الروايةَ، كذلك روايةُ أبِى ذرّ رضِىَ الله عنه: "رءاه بقلبه ولـم يره بعينه" اﻫ مُقيَّدَةٌ فتؤيدُ روايةَ ابن عباس الـمقيَّدةَ فيكونُ الـمُعَوَّلُ عليهما.
فالـقولُ الصحيـحُ أنَّ النبِىَّ صلى الله عليه وسلـم رأى ربه ليلةَ الـمعراجِ بفؤاده. اللهُ تعالى خَرَقَ العادةَ لِسَيّدِنا مـحمَّدٍ صلى الله عليه وسلـم وَجَعَلَ فِى قلبه قُوَّةً فرأى ربّه بتلك الـقوةِ.
ولا يتوهمْ أحدٌ أنَّ مَعْنَى أنه صلى الله عليه وسلـم رأى ربه بفؤاده أن الله حَلَّ فِى قَلْبِ نَبِيّهِ فرءاه الرسول صلى الله عليه وسلـم فِى قلبه فهذا ضلالٌ وَمَنِ اعْتَقَدَهُ كَفَرَ لأنّ الله تعالى لا يَحُلُّ فِى شَىْءٍ مِن خَلْقِهِ فالـحُلولُ مستحيلٌ على الله لأنّ الـحلولَ يَقْتَضِى أنْ يكونَ جِسْمًا والـجسمُ مخلوقٌ وليس إلـٰهًا.
فالـمُعْتَقَدُ الصحيـحُ الراجحُ أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلـم لَمْ يَرَ ربه ليلة الـمعراج بعينِهِ ولكنْ رَءَاهُ بفؤاده، والـقولُ الآخَرُ أى الـقولُ أنه رءاه بعينه هو مشهور لكنه خلافُ الـمعْتـمدِ والذين قالوا بهذا كثيرٌ فِى السَّلَفِ وفِى الـخَلَفِ لكن هذا لا يُخْرِجُ الشخصَ عن كونه مِن أهلِ السُّنَّةِ لأنَّ منهم مُحَدّثِينَ على عقيدة أهل السنة على تَنْزِيهِ اللهِ تعالى عن الـجسمية والـمكان والـجهة ومنهم فقهاءُ ومنهم عوامُّ فلا نُضَلّلُهُمْ بَلْ نقول هذا غَلَطٌ، والصوابُ أنه صلى الله عليه وسلـم رءاه بفؤاده.
أما الـحديث الذِى رواه مسلـم مرفوعًا أى مِن قول النبىّ صلى الله عليه وسلـم: "نورٌ أنَّى أراه"3 اﻫ فهذه الروايةُ استنكرها الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ، ومعناها عند الذين صَحَّحُوها شَغَلَ بَصَرِى نورٌ فلـم أستطع رؤية ذات الله تبارك وتعالى أى لأن نورًا شغل بصرِى. فهذا معناه عند الذين يُثبتون هذه الرواية، أما من لـم يثبتوها كالإمام أحمد فلا حاجة عنده لتأويلها، وأما من أخذ بظاهرها فاعتقد أن الله تعالى نور بـمعنـى الضوء فإنه يكفر. لو كان الله نورًا بـمعنـى الضوء لكان حادثًا ولـم يكن خالـقًا. ثم إن الله تعالى أخبرنا فِى كتابه بأنَّ النورَ بـمعنـى الضوءِ مخلوقٌ كالظُّلُماتِ فقَرَنَ بينهما، قال الله تبارك وتعالى ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ4
النورُ إذا أُطْلِقَ على الله بالـمعنـى الصحيـح فهو الـهادِى أو الـمُنِيرُ فلا يُوهِمُ نقصًا فِى حق الله تعالى، سَمَّى اللهُ نَفْسَهُ بقوله ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ5 أى اللهُ هادِى أهلِ السمواتِ والأرضِ، ويَصِحُّ أن يُفَسَّرَ بقولِ اللهُ مُنِيرُ السمواتِ والأرضِ.
والله سبـحانه وتعالى أعلـم.
------------------

1- رواه الطبراني  في المعجم الكبير باب عطاء عن ابن عباس.
2- رواه الحاكم في المستدرك باب حديث سَمْرَةَ بنِ جُنْدُبِ.
3- رواه مسلم فى صحيحه باب فى قوله عليه الصَّلاة والسَّلام:"نورٌ أنَّى أراه".
4- سورة الأنعام/ الآية (1).
5- سورة النُّور/ الآية (35).


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2