من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 بيان أقل الإسلام والإيمان وأكملهما

الدرس السادس والثلاثون
بيان أقل الإسلام والإيمان وأكملهما

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
درس ألقاه الأصولىُّ الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىّ رحمه الله تعالى فِى النصف الثانـى من شهر جمادى الأولى سنة ثمان أو أربعمائة وألف من الهجرة فِى سويسرة الـموافق للسابع من شهر كانون الثانـى من العام سمة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف ر وهو فِى بيان أقل الإسلام والإيمان وأكملها وماذا يـحصّل العبد إذا نال كلًّا من الـمرتبة الدنيا والعليا.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
    الـحمد لله رب العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن وصلوات الله البرِّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والـمرسلين. اللهم علـمنا ما جهلنا وذكرنا ما نسينا وانفعنا بـما علـمتنا وزدنا علـمًا ونعوذ بك من حال أهل النار.
أما بعد فقد رُوّينا فِى الصحيـحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: "أُمرتُ أنْ أُقاتِلَ الناسَ حتى يَشهدوا أنْ لا إله إلَّا اللهُ وأنّى رسولُ اللهِ فإذا قالوها عَصَمُوا مِنّى دماءَهم وأموالَهم إلّا بِحَقّ الإسلام" اهـ وفِى لفظ: "إلا بِحَقّهَا"1 اهـ
هذا الـحديث أصح الأحاديث الصحاح رواه عن رسول الله عدد من أصحابه ورواه عنهم عدد كثير من التابعين وفيه دلالة على أن شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنَّ مـحمَّدًا رسول الله فيها كفاية للإيمان والإسلام لأن اللفظ إذا قارنه التصديق الـقلبىّ فهذا هو الإيمان والإسلام.
لكن إذا انفرد التصديق الـقلبى عن النطق بالشهادتين فذاك لا يَكْفِى بالنسبة لـمن لـم يكن مولودًا بين أبوين مسلـمين بل أراد أن يدخل فِى الإسلام بالنسبة لهذا الإنسان لا بد للحكم عليه بالإسلام من النطق بالشهادتين، أما إن كان مولودًا بين أبوين مسلـمين فيكفيه لصحة إيمانِهِ وإسلامِهِ اعتقادُهُ معنـى الشهادتين ولو لـم ينطق بهما لفظًا، فمن اعتقد معنـى الشهادتين فِى قلبه ثم لـم يستحضر شيئًا من أصول الإيمان ولا من الأعمال البدنية كالصلوات الـخمس وصوم رمضان لـم يستحضر شيئًا من ذلك إنـما قلبه صدق بهذا الـمعنـى معنـى الشهادتين ولـم يستحضر سوى ذلك من أمور الإسلام والإيمان لكنه لـم يُنْكِرْ بل ذهنه خال من الاستحضار والإنكار والشك، ذهنه خال من الأمور الثلاثة فهذا مسلـمٌ مؤمنٌ. لا يقال إنه لـم يعرف بقية أصول العقيدة فلـم يعرف الصلوات الـخمس ولا صيام رمضان

 ولا ما هو معنـى ذلك فلا يكون مسلـمًا بل بـمجرد استحضاره معنـى الشهادتين أى الاعتقاد بهما أى بـمعناهما صح له الإسلام والإيمان، أما إن قارن هذا النطقَ الإنكارُ أو الشكُّ فذلك الذِى لا يصح له إيمان ولا إسلام.
ليس من شرط صحة الإيمان والإسلام استحضار بقية أمور الإسلام وأمور الإيمان لأن أمور الإسلام أى معظم أمور الإسلام هو ما جاء فِى حديث جبريل عليه السلام الذِى رواه عمر بن الـخطاب رضى الله عنه، وهو أى معظم أمور الإسلام: "شهادة أن لا إله إلَّا الله وأن مـحمَّدًا رسول الله وإقام الصَّلاة" أى الـمداومة عليها "وإيتاء الزكاة" أى إعطاء الزكاة الواجبة لـمستحقيها "وصيام رمضان وحج البيت لـمن استطاع إليه سبيلًا" هذه معظم أمور الإسلام.
وأما معظم أمور الإيمان فهى "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والـقدر خيره وشره". هذه الأمور ليس شرطًا استحضارها لصحة الإسلام والإيمان إنـما الشرط لتحقق الإسلام والإيمان فِى الشخص هو اعتقاد معنـى الشهادتين أى والنطق بهما وأما ما سوى ذلك فليس شرطًا لحصول أصل الإسلام والإيمان. إنـما هو من أعظم الأمور التابعة لهما أى للإسلام والإيمان.
فإذا فرضنا أنَّ إنسانًا ذِهْنُهُ خالٍ عن كل أمور الدين إلا عن معنـى الشهادتين صَحَّ أن يُحكم عليه أنه مؤمن مسلـم لكن يُشترط لصحة ذلك أن لا يقترن هذا الاعتقادُ بـما ينقضه وهو الشك فِى حقّية أمرٍ من هذه الأمور أو الإنكار بالـقول فإنه إذا اقترن ذلك أى الشك أو الإنكار بهذه الأمور فإن معرفة معنـى الشهادتين لا تكون معتبرةً عند الله تبارك وتعالى.
قد يتوهم بعض الناس أنه إذا لـم يـجمع الإنسان تلك الأمور الـخمسة كلها، شهادةُ أن لا إله إلَّا الله وأن مـحمَّدًا رسول الله هذا أمر واحد ثم الأمر الثانـى إقامة الصَّلاة ثم الأمر الثالث إيتاء الزكاة ثم الأمر الرابع صوم رمضان ثم الأمر الـخامس حج البيت، يظن بعض الناس أنَّ من لـم يـجمع هذه الأمور الـخمسة لا يكون له إسلامٌ وهذا غلطٌ. ليس شرطًا فِى حصول أقل مسمى الإيمان والإسلام اجتـماع هذه الأمور أى أن يـجمع الشخص هذه الأمور كلها.
كذلك ليس شرطًا فِى حصول الإيمان الذِى فسّره الرسول بستة أشياء وذلك بقوله فِى حديث جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالـقدر خيره وشره" اهـ2 ليس شرطًا اجتـماع الأمور الستة. يظن بعض الناس أنَّ هذه الأمور الستة إذا لـم تجتـمع فِى الشخص أى إذا لـم يستحضر هذه الأمور الستة ليس بـمؤمن، هذا ليس صحيـحًا إنـما الشرط لحصول أصل الإيمان وأصل الإسلام الشهادتان أى الاعتقاد بـمعناهما بشرط أن لا يقترن بذلك شك أو إنكار هذا هو أصل الإيمان والإسلام فمن حصل له هذا الاعتقاد بـمعنـى الشهادتين فهو مسلـم مؤمن إنـما لا يكون إسلامه وإيمانه كاملَين إلا أن يـجمع بقية الأمور ويؤدى ما سوى ذلك من الواجبات ويـجتنب الـمـحرمات كلها.
وأعظم الـمـحرمات الكفر ثم أمور أخرى بعضها أشد من بعض، رأس الـمـحرمات وأكبرها وأشدها هو الكفر إن كان شركًا وإن كان غيرَ شركٍ لأنَّ الكفر يكون بالإشراك بالله تعالى ويكون بغير الإشراك كتكذيب الرسول وغير ذلك من أنواع الكفر.
بعض الناس يظن أن قول بعض الناس "أركان الإسلام خمسة" أن الإسلام لا يصح إلا باجتـماع الـخمس. توهَّم هذا الـمعنـى من قول الفقهاء أركان الصلاة كذا وكذا لأن معنـى أركان الصلاة الأمور التِى لا تصح الصلاة إلا باجتـماعها، يَتوهم من هذه العبارة وليس هذا قصدَ الفقهاء بقولهم ذلك فلا يـجوز أن يتوهم الإنسان من قول الفقهاء أركان الصلاة كذا أركان الصيام كذا أنه لا يُعتد بالإيمان والإسلام إلا إذا اجتـمعت هذه الأمور كما لا يعتد بالصلاة إلا إذا اجتـمعت أركانها جميعًا فإن هذا فهمٌ غلط لا يقاس هذا على هذا.
ثم إن الإيمان والإسلام لهما مرتبتان الـمرتبة العليا والـمرتبة الدنيا أى الأقل. الـمرتبة العليا لا تصلح إلا باعتقاد معنـى الشهادتين وبأداء جميع ما افترض الله على عباده من الأعمال الـقلبية والأعمال البدنية وباجتناب ما حرم الله من الأعمال الـقلبية والأعمال البدنية وهذه هى الـمرتبة العليا. أما الـمرتبة الدنيا أى الأقل فهى اعتقاد معنـى الشهادتين وفرق كبير بين هاتين الـمرتبتين.
الـمرتبة التِى هى الأقل تضمن لصاحبها إنْ تَجَنَّبَ الكفرَ النجاةَ من الـخلود الأبدىّ فِى النار ثم دخول الـجنة إما بعد عذاب على ذنوبه مِن تركه لأداء الواجبات أو ارتكابه للكبائر وإما بلا عذاب يسبق دخولَه إياها، ثم بعد دخوله إياها ينالُ أربعة أشياء حياة لا موت بعدها وشباب لا هَرَمَ بعده وتنعُّم لا بؤس بعده وصحة لا سُقْمَ بعدها. هذه الأربعة مضمونة بفضل الله تبارك وتعالى لكل مسلـم بعد دخوله الـجنة وأما صاحب الـمرتبة العليا فِى الإيمان والإسلام فعندما يكون فِى حال مفارقة الدنيا يبشره مَلَك الـموت الذِى وكله الله تعالى بقبض الأرواح الـمسمى بعزرائيل بقول السلام عليك يا وَلِىَّ الله، ثم إنه بعد الدفن أى بعد أن يُدفن لا يـحصل له نكد ولا شىء من الـمشقات لا تُسَلَّطُ عليه هامة من هوام الأرض ولا وحشة ولا يَتكدر من ظلـمة الـقبر ولا ضِيقِهِ لأن الله تبارك وتعالى يُوَسّعُ له قبره سبعين ذراعًا فِى سبعين ذراعًا ومنهم من يوسع له مدَّ البصر. وأما ظلـمة الـقبر فإنه يكفيه الله تعالى ذلك بأن يُنَوَّر له قبره بنور كالـقمر ليلة البدر أى أربع عشرة من الشهر العربىّ أى الشهر الـهلالىّ. ثم له كذلك نعيمٌ لـم يطلع الله تعالى عليه بشرًا ولا ملكًا أخفاه الله تبارك وتعالى للصالـحين.
الصالـحون الذين هم كانوا يؤدون الواجبات كلها الـقلبية والبدنية ويـجتنبون الـمعاصىَ كلَّها، هؤلاء يـخصهم الله تبارك وتعالى من بين أهل الـجنة بنعيم لـم تره عين حتى خُزّان الـجنة من الـملائكة لـم يروه، أما أهل الـمرتبة الدنيا التِى هى أقل فإن لهم من دخول الـجنة تلك الأمور الأربعة ويشاركون غيرهم فِى نعيم الـجنة إلا فِى تلك الأمور التِى هِىَ خاصة بالصالـحين والتِى أخفاها الله تبارك وتعالى ولـم يُطْلِعْ عليها أنبياءه ولا ملائكته حتى خُزان الـجنة.
ثم إن هذا الـحديث حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّى رسول الله"3 اهـ دليلٌ واضح على أن الإنسان إذا وحَّد الله تبارك وتعالى أو أفرده بالعبادة أو لـم يتذلل نهاية التذلل لغير الله فهذا كاف للإيمان والإسلام ولا يُشترط ما يدعيه أولئك الـمشبهة الذين يُحَرّمُونَ التوسل والاستغاثة بالأولياء والأنبياء فإنهم أحدثوا أمرًا ابتدعوه هم قالوا لا بد من توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال. هذا أمر لا يشهد به كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولو كان الأمر كما زعموا لـم يقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلـم فِى هذا الـحديث الذِى رواه عبد الله بن عمر رضى الله عنهما وغيره الذِى أوله: "أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنـى رسول الله" اهـ.
لو كان الأمر كما زعم أولئك لـم يقتصر رسول الله على هذه الـجملة بل لذكر ما ادعاه أولئك ولقال حتى يوحدوا توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال، هل سمعتـم من هؤلاء هذه العبارة، مذكور فِى كتبهم فِى مؤلفاتهم يقولون لا بد من ثلاثة أمور توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال. إنا لله وإنّا إليه راجعون. ثم مما يدل على بطلان قولهم الـحديث الثابت فِى سؤال الـقبر فإنه ورد بلفظين لفظ الشهادة لا إله إلَّا الله وشهادة أن مـحمَّدًا رسول الله واللفظ الآخر رواه أبو داود وغيره أن الـملكين اللذين يسألان الـمقبورين قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: "إنهما يَسألان هذا السؤال مَن ربُّك وما دينك ومن نبيك" فلـم يَقُلْ رسول الله صلى الله عليه وسلـم فِى هذا الـحديث إنهما يقولان هل وحّدت توحيد الألوهية هل وحّدت توحيد الربوبية هل وحّدت توحيد الأفعال فمن أين افْتَرَوْا هذه الفِرْيَةَ، هذا قولٌ لـم يسبقهم إليه غيرهم لا من السلف ولا من الـخلف إنـما هى بدعةٌ وضلالةٌ اختصوا بها أىِ انفردوا بها من بين الناس فالـحذرَ الـحذرَ من مطالعة كتبهم إلا لـمن كان من أهل التـمييز أى صار عنده من الـمعرفة بعلـم الدين ما يميز به الـحق من الباطل ولا تَعْلَقُ بقلبه هذه الشبه التِى هم يوردونها فِى مؤلفاتهم وأما مَن كان ضعيف الفهم فيُخشَى عليه أن يَعْلَقَ بقلبه شَىْءٌ من تلك الأقوال الفاسدة والشأنُ فِى الفهم ليس الشأن فِى كثرة الـمطالعة وتصفح أوراق مؤلفات كبار متعددة، هم يقصدون أن يؤيدوا ما ادَّعَوْهُ مِنْ أنَّ مَنْ صرف إلى غير الله الرجاءَ أو الاستعانةَ أو الاستغاثةَ أو نحوَ ذلك مشركٌ أرادوا أن يؤيدوا ذلك الـقول الفاسد بهذا التقسيم أما نحن فنأخذ بـما جاء به الـحديثُ أنّ مَن اعتقد بـمعنـى الشهادتين كفاه ذلك وأنَّ ذلك كاف لتوحيد الله فِى ذاته وفِى صفاته وفِى فعله أىْ أنه لا شريك له فِى ذلك.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه البخاري باب وجوب الزكاة، ومسلم باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله.
2- رواه مسلم في صحيحه باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة، ورواه أحمد في سننه باب مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3- رواه البخاري في صحيحه باب {فَإِن تَابُواْ وَأقَامُواْ الصَّلاة وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} ورواه مسلـم فِى صحيحه باب الأمر بقِتَال النَّاس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2