من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 بيان أن الله تعالى موجود بلا مكان وبيان فضل أبِى بكر وعمر وعائشة رضى الله عنهم

الدرس الثالث والثلاثون
بيان أن الله تعالى موجود بلا مكان
وبيان فضل أبِى بكر وعمر وعائشة رضى الله عنهم

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
   درس ألقاه الـمتكلـم الفقيه الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىّ رحمه الله فِى بيته وهو فِى بيان أن الله موجود بلا مكان.
قال الشيـخ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الـحمد لله ربّ العالـمين وصلى الله على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وسلـم.
أما بعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: "أَمَا يَخْشَى الذِى يَرْفَعُ بَصَرَهُ إلى السماءِ فِى الصلاةِ أَلَّا يَعُودَ إلَيْهِ بَصَرُهُ" اهـ1
    معنـى الـحديثِ أنَّ رَفْعَ البصرِ إلى السماء أى النظرَ إلى السماء فِى حال الصلاة أمرٌ عظيمٌ يستحق هذا الإنسانُ بسببه أنْ لا يعودَ إليه بصرُهُ الـمعنَى أنَّ اللهَ تعالى لو طَمَسَ له بَصَرَهُ جزاءً له علَى رَفْعِهِ بصرَهُ فِى الصَّلاة إلى السماء كان مُسْتَحِقًّا لذلك فمِن هنا ظهر أنّ رفع البصر إلى السماء فِى الصلاة مما يَكْرَهُهُ اللهُ تعالى ولو طُمِسَ هذا الإنسانُ بصرُهُ أى ذهبَ أى لو ذهب هذا الإنسانُ بصرُهُ وعَمِىَ جزاءً علَى ما فعله لكان هذا الإنسانُ مُسْتَحِقًّا لذلك.
وروينا فِى الصحيـح من حديث أبِى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: "أَمَا يَخْشَى الذِى يَرْفَعُ رأسَهُ قبلَ الإمامِ فِى السجودِ أنْ يـحَوّلَ اللهُ رأسَهُ رأسَ حِمارٍ"2 اهـ هذا الـحديثُ الذِى رواه أبو هريرة عن النبِىّ صلى الله عليه وسلـم فيه أنَّ الذِى يرفع رأسه قبل الإمام من السجود يستحق أنْ يُحَوِّلَ اللهُ رأسَهُ رأسَ حمارٍ، الـمعنـى أنَّ رَفْعَ الرأسِ مِن السجود قبل الإمام ذنبٌ حرامٌ3 مِن جُمْلَةِ ما حَرَّمَ اللهُ تعالى على عباده فَلْيَحْذَرِ الـمُصَلُّونَ ذلك فَمَنْ تَعَمَّدَ رفع رأسه من السجود قبل الإمام فليس له مِن صلاتِهِ ثوابٌ لأنه ارتكب ذنبًا حَرَّمَهُ اللهُ تعالى فلو مُسِخَ رأسُهُ رأسَ حمارٍ حقيقةً أى لو حُوّلَتْ صورةُ وَجْهِهِ إلى صورةِ حمارٍ لكانَ جَدِيرًا بذلك لِعِظَمِ ذَنْبِهِ. هذا العبدُ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ اللهِ بـحيث إنه يَسْتَحِقُّ أنْ يُحَوّلَ اللهُ وجهَهُ وجهَ حمارٍ يعنِى فِى الدنيا ليس معناه أن الله يـحول وجهه وجه حمار فِى الآخرة
  لا بل الـمعنـى أنه الآن فِى الدنيا يستحق ذلك يستحق أن تتحول صورةُ وجههِ صورةَ حمار مِن عظم ذنبه ولـم يذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلـم رفع الرأس قبل الإمام فِى الركوع لكنه أيضًا مُحَرَّمٌ رَفْعُ الرأس من حال الركوع قبل أن يرفع الإمام عمدًا حرامٌ، مَن رَفَعَ رأسه من الركوع قبل أن يرفع الإمامُ رأسَهُ عمدًا حرامٌ لكنْ رَفْعُ الرأس من السجود قبل الإمام عمدًا أشدُّ معصيةً، لذلك الرسول صلى الله عليه وسلـم ذكر رفع الرأس من السجود قبل الإمام لكونه أشدَّ ذنبًا وكِلا الأمرين حرامٌ رَفْعُ الرأس من السجود قبل الإمام عمدًا حرام وهو أَحْرَمُ لأنَّ السجودَ هو أقرب ما يكون العبد من ربه، حالةَ السجودِ هو أقرب ما يكون من ربه كما صح فِى الـحديث. وهذا دليل على أن الله تبارك وتعالى موجودٌ بلا مكان لأنه لو كان موجودًا بالـمكان لكان الراكع أقرب إلى الله لو كان الله تعالى متحيزًا فِى سماء من السموات السبع أو متحيزًا فِى سماء من السموات السبع أو متحيزًا على سطح العرش أو فِى مُقَعَّر العرش لو كان الله تعالى كذلك كما يتوهم البِدْعِيُّونَ لـم يكن العبدُ أقربَ إلى ربه فِى حال السجود من سائر الأحوال لكنه بـما أن الله موجود بلا مكان فالأماكن كلها أى العرش والفَرْشُ بالنسبة إلى ذات الله على حَدٍّ سواء، كلُّ الأماكن بالنسبة له على حَدٍّ سواء، فلذلك كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
بعض أساطين العلـماء هو الإمامُ الـملقب بإمام الـحَرَمَينِ عبد الـملك بن عبد الله بن يوسف الـجوينـىُّ قال فِى هذا الـحديث: "لا تُخَيّرُونِى على يونُسَ بنِ مَتَّى"4  ا ه  قال فيه إيذانٌ وإعلامٌ لنا أنَّ الله تبارك وتعالى موجود بلا مكان لذلك الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام نهى عن أن يُفَضَّلَ على يونُسَ بنِ مَتَّى الذِى كان فِى بطن الـحوت بُرْهَةً مِن الزمن ابتلعَهُ الـحوتُ وكان بَطْنُ الـحوتِ مُسْتَقَرَّهُ والرسول صلى الله عليه وسلـم صعد إلى السموات السبع بل إلى ما فوقها كما أخبر عن نفسه فِى صفة عُرُوجِهِ أنه رُفِعَ إلى مستوًى يسْمَعُ فيه صريف الأقلام، معنـى الـحديث أن يونس بن متّى الذِى كان فِى قعر البـحر فِى بطن الـحوت وأنا الذِى وصلت إلى ذلك الـمستوى الذِى هو فوق السبع سموات وفوق سِدْرَةِ الـمُنْتَهَى على حد سواء بالنسبة إلى ذات الله فلا أنا أقربُ منه بالنسبة إلى ذات الله الـمُنَزَّهِ عن الـمكان ولا هو أقربُ مِنّى إليه فكلانا بالنسبة إلى ذات الله على حَدٍّ سواء، أى لستُ أنا قريبًا مِن ذات الله قُرْبًا يـجعل يونس بن متى فِى حال كونه فِى قعر البـحر فِى بطن الـحوت بعيدًا من ذات الله تعالى، الـمعنَى أن الله بـما أن الـقرب منه لا يكون بالـمسافة لكونه منزهًا عن الـمكان لا يكون أحدٌ أقربَ إلى ذات الله مِن أحدٍ أى فكلُّ العباد وكلُّ الأماكن بالنسبة إلى ذات الله على حد سواء لأن الله تعالى موجود بلا مكان وهذا هو الـمعنـى الذِى يعتقده أهل السنة الـمنزّهون لله تعالى عن مشابهة الـمخلوقين.
  اللهُ تبارك وتعالى ذَكَر فِى بعض الآيات ما ظاهرُهُ يُوهِمُ أنَّ اللهَ تبارك وتعالى فوقَ العرشِ بذاته وفِى بعض الآيات ذَكَرَ ما ظاهره يقتضِى أنَّ الله تعالى فِى هذه الأرضِ. أما ما يُوهِمُ ظاهرُهُ أنَّ الله تعالى مستقِرٌّ فوق العرش فليس هو الـمرادَ لله تعالى من معانـى تلك الآيات الـقرءانية كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ5 وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى6 فهاتان الآيتان من نظر إلى الظاهر يتخيَّلُ أنَّ اللهَ تعالى مستقر بذاته فوق السماء السابعة بل فوقَ العرش وليس ذلك مرادَ الله تعالى ليس ذلك معنـى الآيتين إنـما ذلك أمر تتوهمه أذهانُ بعضِ الناس، وأما الآياتُ التِى ظاهرُها يوهم أنَّ الله تعالى فِى الأرض كقوله تعالى مخبِرًا عن بعض أنبيائه قال: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ7 هذه الآية ظاهرُها أنَّ الله تعالى ذاتٌ مُتَحَيّزٌ فِى الأرض وأنَّ ذلك النبِىَّ قصد ذلك الـمكان، لكون ذلك شيئًا يسبق إلى الوهم ليس معنـى الآية لأنه لـم يُرِدِ اللهُ بقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ أنَّ الله بذاته مستقر متحيز على سطح العرش أو فِى ما يوازيه من جهة فوق كذلك ليس مراد الله تعالى بهذه الآية: ﴿وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ أنه متحيز فِى هذه الأرض بل معنـى كلٍّ مِن الآياتِ الثلاثِ غيرُ ظاهرِها كلٌّ مِن الآيات الثلاث معانيها غيرُ ظاهرها فإذًا قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ لا يـجوزُ أنْ نَفْهَمَ منه أنَّ الله بذاته مستقر على العرش وكذلك لا يـجوز أن نفهم من قوله: ﴿وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ أنه مستقر متحيزفِى هذه الأرض إنـما الـمراد من هذه الآيات كلّها معنًى ليس فيه تشبيهُ الله بخلقه أى ليس فيه إثباتُ الـمكان والـحيز لله تعالى فيُوَفَّقُ بين الآيات لأنَّ الـقرءان يُصَدّقُ بعضُهُ بعضًا ويقال لذلك فِى قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ أى بلا كيفٍ أى من غير أنْ يكون على معنـى الـجلوس أو الاستقرار أو الـمـحاذاة وكذلك فِى قوله: ﴿وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ إنه ليس الـمراد إثباتَ الـحيز والـمكان لله تعالى فِى هذه الأرض إنـما معناه إنّى ذاهبٌ إلى ربّى بلا كيف أى من غير معنـى الـمكان والـحيز. والذِى يقرب هذا الـمعنـى الصحيـح من الـقلب أن يعرف الإنسان أن الله تعالى كان قبل الـمكان أى قبل العرش وما دونه، ولا يُقْبَلُ أن يكون فِى مكان قبل وجود الـمكان، لا يُعقل أن يكون ذلك فلـمَّا ثَبَتَ أنَّ الله تعالى كان قبل الـمكان موجودًا بلا مكان فلا يُستغرب أن يكون الله تعالى بعد أن خلق الـمكان العرش وما تحته موجودًا بلا مكان كما قال مصباح التوحيد وصباحُ التفريد علىُّ بنُ أبِى طالب رضى الله عنه: " كان اللهُ ولا مكانَ وهو الآنَ على ما عليه كانَ" اهـ
ويَكْفِى بطريق الاختصار أنْ يُلاحِظَ الإنسانُ هذه الكلـماتِ فِى نفسه كانَ اللهُ ولا مكانَ وهو الآنَ على ما عليه كانَ وهذا مأخوذٌ مِن قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ8. أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلـم كانت أذهانُهم سَيَّالَةً أى سريعةَ الفهمِ كانوا يفهمون الـمعنـى الصحيـحَ بسماع الكلـمات يفهمون الـمعنـى الصحيـحَ لـمَّا سمعوا قولَ الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ عَلِمُوا أنَّ الله تعالى موجودٌ بلا مكان وأنه لا تَجُوزُ عليه الألوانُ لا البياضُ ولا السوادُ ولا الشُّقْرَةُ ولا الـحُمْرَةُ ولا الزُّرْقَةُ وأنه مُنَزَّهٌ عن الـحجم والـمِساحة والطول والعرض والعمق مُنَزَّهٌ عن ذلك كلّه كانوا يعلـمون مِن هذه الكلـمات: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ معانِىَ التنزيه كلَّها كانوا يفهمون مِن قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾  تنزيهَ الله عن الـمكان وتنزيهَهُ عن اللون وتنزيهَهُ عن الـمِساحة وتنزيهَهُ عن الشكل وتنزيهَهُ عن الكيفية كانوا يفهمون ذلك، هذا الأمرُ الذِى اليومَ قد يُدَرَّسُ على بعض الناس أياما عديدة ثم لا يفهمون الـمعنـى الـمقصود معنـى التنزيهِ الكافِى، أما أولئك كانوا يفهمون هذه الـمعانِىَ معانِىَ التنزيه لله تعالى عن الـمكان واللون والشكل والـحيز مِن هذه الكلـمة الـمُوجَزَةِ الـجامِعَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وكذلك يفهمون ذلك من قول الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾9 من هذه الكلـمات كانوا يفهمون التنزيهَ، التنزيهَ بجميع وجوهه كانوا يفهمون.
وأماقوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)﴾10 صح عن الصحابة تفسيره بأنه دنوّ جبريل من مـحمَّد فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا﴾ فيه ضمير يعود إلى جبريل وكذلك قوله: ﴿فَتَدَلَّى﴾ فيه ضمير يعود على جبريل والـمعنـى أن جبريل دنا من رسول الله فتدلى إليه وذلك بعد أن رجع الرسول صلى الله عليه وسلـم من الـمستوى الذِى وصل إليه وسمع فيه كلام الله ورأى الله بقلبه لا بعينه بعد أن نزل من الـمستوى الذِى كان فيه بعد أن تركه جبريل جاءه جبريل وهو نازل فدنا إليه فتدلى فِى صورته الأصلية التِى هى ذات له ستـمائة جناح ليس بالصورة التِى كان فيها حين أخذه من مكة من البيت الذِى كان نائمًا فيه ثم أتى به إلى الـمسجد الـحرام ثم أَرْكَبَهُ البراقَ رَدِيفًا له جبريلُ فِى الأمام وسيدنا مـحمَّد خلفَهُ تلك الصورةُ صورة بشر عادىّ لكنه ما لبث تحول فِى هذه الـمدة التِى انفرد فيها الرسول صلى الله عليه وسلـم وغاب عنه فظهر له أى تبدَّى له جبريل بتلك الصورة التِى هى ذات ستـمائة جناح، عن هذا يـخبرنا الله تعالى بقوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)﴾ أراد الله به أن جبريل كان فِى دنوّه من مـحمَّد كقاب قوسين أو أدنـى أى أقربُ والـقوسان هما الذراعان. هذا معنـى الآية وليس معناه أن الله اقترب من الرسول صلى الله عليه وسلـم حتى صار قريبًا منه بالـمسافة كذراعين أو أقل. لا، لأن الـقرب بالـمسافة يكون بين جسم وجسم والله تعالى ليس جسمًا ولا له مكانٌ سبـحانه.
    الله تبارك وتعالى بـما أنه منزه عن الـمكان ليس الذين فِى البـحار أو فِى الأرض السابعة فِى بُعدٍ مَكانِىّ مِن ذات الله تعالى كما أن ملائكة الله الـحافّين مِن حول العرش ليسوا قريبين مِن الله تعالى قُربًا مَسافِيًّا فهو منزه عن الـقُرْبِ الـمكانـىّ وهذا الـحديث الذِى رواه مسلـم: "أقربُ ما يكونُ العبدُ مِن ربه وهو ساجِدٌ"11 اهـ دليلٌ على هذا الـمعنـى أى أنَّ الله منزه عن الـمكان لأنه لو كان مُتـمكّنًا متحيزًا فِى العرش لكان أهلُ الأرض بعيدين مِن الله تعالى وأبعدَهم مِن الله ساجِدٌ ولكان الـملائكةُ الـحافُّون من حولِ العرشِ أفضلَ من أنبياء الله الذين كانوا نشأوا فِى الأرض ثم بعد موتهم مستقُّرهم قبورُهم. كلُّ نبِىّ مِن أنبياء الله بعد موته لا يستقر فِى الـجنة ولا فِى العرش كأولئك الـملائكةِ الـحافّين مِن حول العرش إنـما مستقرُهم قبورُهم. روينا بالإسناد الصحيـح من حديث أنس بن مالك رَضِىَ الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: "الأنبياءُ أحياءٌ فِى قبورِهِم يُصَلُّونَ"12 هذا على الدوام إلى أن يُنفَخُ فِى الصورِ ويومَ يُنفخُ فِى الصور يُغْشَى عليهم لا يموتون موتةً ثانيةً بل يُغْشَى عليهم تلك الساعةَ عند نفخةِ الصَّعْقِ التِى يموت فيها مَن كان عندئذٍ على وجهِ الأرض مِن الإنس والـجن كلُّهم يموتون تلك الساعةَ أما الأنبياءُ الذين يكونون فِى قبورِهِم يُغْشَى عليهم لا يموتون موتةً غيرَ موتتهم الأولى، مثلًا سيدنا مـحمَّد صلى الله عليه وسلـم لا يموت إلَّا الـموتةَ التِى ماتها فِى الـمدينة الـمنورة فِى بيته الذِى كانت عائشة تسكنه اختار الله تبارك وتعالى أن يكون موته وَدَفْنُهُ فِى بيتِ عائشةَ الصّدّيقَةِ بنتِ الصّدّيقِ رَضِىَ الله عنهما هذا فيه دليلٌ على فضل عائشةَ على سائر نساءِ الرسولِ صلى الله عليه وسلـم سوى خديـجةَ عائشةُ أفضلُ نساء الرسول أفضلُ أزواجِ الرسول بعدَ خديـجةَ. خديـجةُ سبقتها بالوفاة ماتت قبل الـهجرة قبل أن يهاجر الرسول فالله تبارك وتعالى لولا أنَّ لها فضلًا عنده على غيرها من أزواج الرسول لـم يكن يَتَوَفِى النبِىَّ فِى بيتها توفِى فِى بيتها ودُفن فِى الـمكان الذِى توفِى فيه حفروا له قبرًا فِى بيت عائشة دُفِنَ هناك. هذا الـحديث الذِى اتفق عليه العلـماء لا يـختلف فِى ذلك عالـم عن عالـم كلُّ العلـماء متفقون على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلـم توفِى ودفن فِى بيت عائشة رضى الله عنها لولا ما لها من الفضل العظيم عند الله ما كان لها هذا الـحظُّ هذا الـحظُّ الكبير ما كان لها ما نالت هذا  الـحظَّ الكبيرَ إلا لأنها أفضلُ عند الله تعالى مِن أزواجه اللاتِى كُنَّ فِى قَيْدِ الـحياة عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلـم. ثم أيضًا كان حظُّ أبِى بكر وعمرَ أنهما دُفِنَا بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلـم ولـم يُدْفَنْ هناك أحدٌ غيرُهما فِى هذا البيت الذِى هو بيت عائشة، بعد أنْ دُفن فيه رسول الله مات أبوها أبو بكر فَدُفِنَ فيه خلف مَنْكِبِ رسول الله ثم مات عمرُ بن الـخطاب فدفن خلف منكب أبِى بكر رضى الله عنهما ولـم يَنَلْ هذا الفضلَ أحدٌ من الصحابة لا مَن كان من أهل البيت ولا من غيرهم حتى بنتُهُ فاطمةُ ما دُفنت هناك دُفنت فِى الـجَبّانة العامة فِى البقيع كذلك عمُّهُ العباسُ كذلك الـحسنُ بن علىّ بن أبى طالب كذلك زينُ العابدين كذلك غيرُهم من أكابر أهل البيت ما نال هذا الـحظ الذِى نالـه أبو بكر وعمر. الفضلُ بتفضيل الله تعالى ليس الفضل بالعاطفية، ليس الفضل بالنسب، لو كان الفضل بالنسب كان العباسُ أَوْلَى مَن يُدْفَنُ هناك فالذِى يطعن فِى عائشة رضى الله عنها وأبِى بكر وعمرَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ ناموسةٍ أى بعوضة نفخت على جبل لتزيله
إذا أكرم الرَّحمن عبدًا بعِزَّ *****   فلن يقدر الـمخلوقُ يومًا يُهينه اهـ
الذِى جعله الله تعالى عالِىَ الرتبة عنده فهو عالى الرتبة لا أحدَ مِمَّنْ يَحْسُدُهُ أو يُناوِؤُهُ يـجعله على خلاف تلك الصفة كذلك الذِى أهانَهُ أى الذِى هو هيّن على الله فهو هيّن لا يستطيع أحد أن يـجعله من الأعْلَيْن درجةً قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ13 الإنسان الـمؤمن لا يكون كامل الإيمان حتى يُسَلّمَ لله تعالى تسليمًا ويَسْتَسْلِمَ استسلامًا أى لا يعترضَ على شَىْءٍ مما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلـم وحتى لا يعترضَ على إنسان فَضَّلَهُ اللهُ تعالى من باب الـحسد أو الأنانية لذلك فِى الـحديث الصحيـح الذِى أخرجه البخارىّ والطبرانـىّ والبيهقىّ رحمهم الله مما رواه النبىُّ صلى الله عليه وسلـم عن ربه تبارك وتعالى: "مَنْ عادَى لِى وَلِيًّا فقد ءاذَنْتُهُ بِالـحَرْبِ"ـ14 الإنسان الذِى يـحارب أولياء الله كأبِى بكر وعمر وعائشة فهو مخذولٌ ممقوتٌ لن يضرَّ أولئك بـما لهم مِن الفضل عند الله لن يضرهم شىءٌ لن يضر أبا بكر شيئًا ولن يضر عمرَ شيئًا ولن يضر عائشة شيئًا لن يستطيع أن ينقص من درجاتهم التِى كتب الله لهم مثقالَ ذرةٍ إنـما يضر نفسه هذا الإنسانُ إنـما يضر نفسه لأنه تَعَرَّضَ لِسَخَطِ الله تعالى ومَقْتِهِ.
"مَنْ عادَى لِى وَلِيًّا فقد ءاذَنْتُهُ بِالـحَرْبِ" اهـ أى لِيَعْلَمْ أنّى مُحارِبُهُ ومَن حارَبَهُ اللهُ تعالى فهو الـمـحرومُ الـهالِكُ الـخاسِرُ، الذِى يُحارِبُ وليًّا مِن أولياء اللهِ يَهْلِكُ ويَخْسَرُ ولا سِيَّمَا أبو بكر وعمر اللذان هما أفضل أولياء أمة مـحمَّد صلى الله عليه وسلـم لن يلحق بهما فِى درجاتهما حتى يكون معهما سواءً أحدٌ مِن هذه الأمةِ مهما بلغ فِى الفضل عند الله فإنَّ الله تعالى يُفَضّلُ مَن يشاءُ مِن عباده الـمؤمنين على من يشاء. هذا سيدنا مـحمد صلى الله عليه وسلـم ما عاش مِن العمر إلا ثلاثًا وستين سنةً والـقَدْرُ الذِى عاشه بعد أن نزل عليه الوحىُ ثلاثةٌ وعِشرون سنةً ومات قبله من الأنبياء من عاش ألفَ سنةٍ، هذا نوحٌ عليه السَّلام عاش أكثرَ مِن ألفِ سنةٍ وءادمُ عاشَ ألفَ سنةٍ مع ذلك اللهُ تعالى فَضَّلَ مـحمَّدًا الذِى عاش ثلاثًا وسِتّينَ سنةً فقط.
لو كان الفضلُ بطول العمر فِى العبادة فِى الإسلام لكان أولئك أفضلَ مِن رسول الله بدرجات كثيرة بدرجات مُضاعَفَةٍ ءادمُ ونوحٌ لكانَا أفضلَ مِن سيِّدنا مـحمَّد بـمراتبَ كثيرةٍ لكنه عليه الصَّلاة والسَّلام فضَّلَهُ اللهُ تبارك وتعالى هذا الفضلَ على ءادمَ وعلى نوحٍ وغيرِهما مِن الأنبياء بل وعَلَى الـملائكة الذين لا يأكلون ولا ينامون ولا يشربون بل لا يَفْتُرُونَ عن ذِكْرِ اللهِ تعالى ليلَهم ونهارَهم فِى طاعة الله، رُفِعَ عنهم النومُ والتعبُ والـجوعُ والعطشُ والشهوةُ، رُفِعَ عنهم كلُّ هذا وهم خلقوا قبلَ ءادم وإن كان لـم يَرِدْ فِى تحديد وجود الـملائكة قبل ءادم مدةٌ معيَّنةٌ فِى ذلك لكنه من الـمعلوم قطعًا أن الـملائكة خُلِقوا قبلَ ءادمَ، ومع ذلك فالنبىّ مـحمَّد صلى الله عليه وسلـم أفضل منهم.
فليس هناك طريقٌ يَصِلُ به العبد إلى مراتب الكمال إلا الإيمانُ بالله ورسوله والتسليمُ لله ولرسوله بأن يُثْبِتَ العبدُ ما أثبتَهُ الرسولُ ويَنْفِى ما نفاه الرسول.
انتهى والله سبـحانه وتعالى أعلـم.
------------------

1- رواه أحمد فِى مسنده باب حديث جابر بن سمرة السوائى .
2- رواه مسلم في صحيحه باب النهي عن سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما.
3- هذا على ما مشى عليه النووي في المجموع، وكذا قاله في شرح الروض عقب ذكر هذا الحديث، وقد قال الشبراملسي في حاشيته على النهاية ومذهبنا أن مجرد رفع الرأس قبل الإمام أو القيام أو الهُوِىّ قبله مكروه كراهة تنزيه، وأنه يُسن له العود إلى الإمام إن كان باقيًا في ذلك الركناهـ
4- رواه البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ (139) إلى قوله: ﴿فَئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَهُمْ إِلَى حِينٍ (148) ورواه مسلم في صحيحه باب ذكر يونس عليه الشَلام,
5- سورة الأنعام/الآية (18).
6- سورة طه/الآية (5).
7- سورة الصافات/الآية (99).
8- سورة الشورى/ الآية (11).
9- سورة الإخلاص.
10- سورة النجم الآية (8-9).
11-رواه مسلم في صحيحه باب ما يقال في الركوع والسجود
12- رواه البزار في مسنده باب مسند أبي حمزة  أنس بن مالك
13- سورة الحج/ الآية (18).
14 رواه البخاري فِى صحيحه باب التواضع.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2