من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 النهي عن الغلو في الدين

الدرس الأول
النَّهى عن الغلوّ فِى الدِّين

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات    درس ألقاه الـمـحدث الصوفِى الفقيهُ الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىُّ رحمه الله تعالى فِى ألمانية وهو فِى بيان النَّهْىِ عن الغلو فِى الدِّين وممن سمعه منه الشيـخ سمير بن سامى الـقاضِى والشيـخ نبيل بن مـحمد الشريف والشيـخ عبد الرزاق بن مـحمَّد الشريف والشيـخ مـحمَّد بن مصطفِى البكرى والشيـخ جميل بن مـحمَّد حليم.
قال الشيـخ رحمه الله رحمةً واسعةً:
الـحمد لله ربِّ العالـمين وصلاة الله البرّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين وعلى ءالـه الطيبين الطّاهرين.
   أما بعد فقد قال الله تعالى: ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ1 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلـم لابن عباس غَداةَ مِنًى: "الْقُطْ لِى حَصًى مِثْلَ حَصَى الـخَذْفِ" قال ابن عباس فَالْتَقَطْتُ له قال: "بِمِثْلِ هذا فَارْمُوا بِمِثْلِ هذا فَارْمُوا وإيّاكُمْ وَالغُلُوَّ فإنَّ الغُلُوَّ أَهْلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ" اهـ الـحديث رواه ابنُ حِبّانَ فِى الصحيـحِ2.
الآيةُ الكريمةُ والـحديثُ الشريفُ كِلَاهُمَا يَنْهَيَانِ عن الغُلُوّ والغُلُوُّ مُجاوَزَةُ الـحَدّ، اللهُ تبارك وتعالى نَهانا عن أنْ نتجاوزَ الـحَدَّ فِى تعظيمِ أَحَدٍ مِن خَلْقِهِ. الأنبياءُ يُعَظَّمُونَ إلى الـحَدّ الذِى يليق بهم فلا يَجوزُ أنْ يُوصَفوا بأكثرَ مِن ذلك، لا يَجوزُ وصفُ النَّبىّ بأوصافِ الربوبيةِ وكذلك لا يـجوزُ تعظيمُ الولىّ فوقَ منزلتِهِ، لا يَجوزُ رَفْعُهُ إلى فوقِ منزلته فلا يـجوز تعظيم الولىّ تعظيمًا يُساوِى تعظيمَ الأنبياءِ إنـما يُعَظَّمُونَ إلى ما دون ذلك.
اللهُ تعالى ذَمَّ أَهْلَ الكتابِ لأنهم غَلَوْا، اليهودُ غَلَوْا فِى تَعْظِيمِ عُزَيْرٍ، وعُزَيْرٌ إمّا هو نَبِىٌّ وإمّا هو وَلِىٌّ، لـم يَثْبُتْ فِى حديثٍ صحيـحٍ أنَّه نَبِىٌّ أمَّا وِلايَتُهُ فلا شك فيها، غَلَوْا فِى مَحَبَّةِ عُزَيْرٍ عليه السَّلامُ فقالوا عنه ابنُ اللهِ والسببُ فِى ذلك أنَّه اسْتَحْضَرَ التوراةَ فِى بيتِ الـمَقْدِسِ لأنَّ بُخْتَ نَصَّرَ الكافرَ الذِى سَلَّطَهُ اللهُ على اليهودِ فَقَتَلَ منهم مِائةَ ألفِ نَفْسٍ وَشَرَّدَ منهم عددًا كثيرًا وأحرق نسخ التوراة ثم بعدَ سبعينَ سنةً عادوا إلى بيت الـمقدس فلَمّا وَجَدُوا عُزَيْرًا يـحفظُ التوراةَ عن ظَهْرِ قلبٍ قالوا هذا ما وصلَ إلى هذه الدرجةِ إلَّا لأنّه ابنُ اللهِ.
وأمّا النصارَى فإنّهم غَلَوْا فِى مـحبة الـمسيـحِ رفعوه إلى فوقِ منزلته، منزلةُ النبىّ أنْ يكونَ أفضلَ خَلْقِ اللهِ أفضلَ مِن الـملائكةِ وأفضل مِن سائر البشر هذه منزلةُ النبىّ أمّا أنْ يكونَ له عِلْمٌ كعِلْمِ اللهِ أو قدرةٌ كقدرةِ اللهِ فلا يـجوزُ ذلك لا يَصِحُّ عقلًا ولا شرعًا. النصارَى قالوا فِى حَقّ الـمسيـحِ إنّه ابنُ اللهِ كان فينا ما شاء ثم صعد إلى أبيه يَعْنُونَ اللهَ وقال بعضُهم إنّه هو اللهُ كان فِينَا ما شاءَ ثم صَعِدَ إلى السماءِ، والفريقُ الثالثُ قالوا فِى غُلُوّهِمْ اللهُ ثالِثُ ثلاثةٍ أىْ الـمسيـح والروح الـقدس والله تعالى ومنهم من قال الـمسيـحُ وأُمُّهُ واللهُ رَبُّ العالَمينَ.
ثُمَّ فِى أُمَّةِ مـحمَّدٍ صلى الله عليه وسلـم أُناسٌ غَلَوْا فقال بعضُ الـمُجازِفِينَ وهو سودانـىّ كان فِى الـمدينةِ الـمنوَّرةِ ويَنْتَسِبُ إلى الطَّرِيقَةِ الـقادِرِيَّةِ قال ذاتَ يومٍ فِى حَدِيثِهِ الرسولُ يَعْلَمُ كُلَّ شىءٍ فَرَدَّ عليه أحدُ إخواننا قال له: لا يـجوز هذا لو كان الرسولُ يَعْلَمُ كُلَّ شىءٍ ما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لًاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ3هذه الآيةُ فيها دلالةٌ على أنَّ الرسولَ لا يَعْلَمُ الغَيْبَ أىْ لا يَعْلَمُ كُلَّ الـخَفِيَّاتِ لا يعلـم كل الـخفيات إلَّا اللهُ لا جبريلُ ولا أىُّ مَلَكٍ مِن ملائكةِ اللهِ ولا أىُّ نَبِىّ، سيدُنا مـحمَّد ومَن قَبْلَهُ لا يَعْلَمُ أحدٌ مِن الأنبياءِ جميعَ الغَيْبِ أىْ كُلَّ الـخفيات أى كلَّ ما يَخْفِى علينا بل جميعُ ما يَخْفِى علينا لا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ، قال الـخَضِرُ لـموسَى حين اجتـمعا عليهما الصَّلاة والسلام كانا فِى السفينة التِى ركباها فجاء عصفور فَنَقَرَ مِنقارَهُ فِى البـحر فقال الـخضر لـموسى: "يا موسى ما عِلْمِى وعِلْمُكَ فِى جَنْبِ عِلْمِ اللهِ إلَّا كما نَقَرَ هذا العصفورُ من البـحر"4. هذا والـخضر له مِن العُمر ما لـم يُعْطَهُ أحدٌ مِن الأنبياءِ، الـخضرُ على الـقولِ الـمُعْتـمدِ نَبِىٌّ ليس وليًّا فقط. كان قَبْلَ موسى بزمانٍ ثم لـما اجتـمع بـموسى قال له هذا. هذا دليلٌ على أنه لا يَعْلَمُ أحدٌ من الـخلق جميعَ الغَيْبِ.
اللهُ تَعالى يُطْلِعُ أنبياءه وملائكتَهُ على بعضِ الغيب وهذا الذِى يُطْلِعُهُمْ عليه شىءٌ قليلٌ قليلٌ قليلٌ بالنسبة لِمَا لا يَعْلَمُهُ إلّا اللهُ.
فهذا السودانـىُّ تَجَرَّأَ وجعل رسولَ اللهِ مِثْلَ اللهِ مُساوِيًا للهِ تعالى قال له أَخُونَا هذا الذِى رَدَّ عليه أليس رسولُ اللهِ أَرْسَلَ عددًا سَبْعِينَ شخصًا مِن أصحابه إلى قبيلةٍ لِيُعَلّمُوا الدّينَ طَلَبَ بعضُ أهلِ تلك الـقبيلةِ منه صلى الله عليه وسلـم أنْ يُرْسِلَ لهم مَن يُفَقّهُهُمْ فِى الدّينِ فأَرْسَلَ لهم سبعينَ رجلًا كانوا يُسَمَّوْنَ الـقُرَّاءَ مِن خِيارِ الصحابةِ فاعترضتهم بعضُ الـقبائل فِى الطريق فقتلوهم، قال أخونا هذا لهذا السودانِىّ لو كان الرسولُ يَعْلَمُ الغيبَ هل كان يُرْسِلُ هؤلاءِ إلى تلك الـقبيلةِ وهو يَعْلَمُ أنهم يُقتلون ويُحصدون أَكانَ يُرْسِلُهُمْ قال نعم كان على عِلْمٍ بذلك وأَرْسَلَهُمْ، مِن شِدَّةِ العِنادِ قال نعم. هذا ينتسب إلى الطريقة الـقادرية وشيـخُهُ فِى الطريقة الـقادرية الذِى ينتسب إليه إنسانٌ تَقِىٌّ مِن العلـماءِ الأتقياءِ مجاورٌ فِى الـمدينة الـمنورة لكن هذا الذِى يَنتسب إليه طَلَعَ مُلْحِدًا.
مَن ساوَى بينَ اللهِ وبينَ أحدٍ مِن خَلْقِهِ مِن نَبِىّ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلك فقد كَفَرَ، الله تعالى لا أحدَ يُشابِهُهُ فِى شىءٍ مِن الصفاتِ عِلْمُهُ ليس كعِلـمنا قدرتُهُ ليست كقدرَتِنا وإرادتُهُ ليست كإرادَتِنا وذاتُهُ ليس كذواتِنا مُنَزَّهٌ عن مُشابهةِ الـمخلوقين.
ومِن الغُلُوّ الذِى هو داخلٌ تحتَ النَّهْىِ الذِى وَرَدَ فِى الـقرءانِ والنَّهْىِ الذِى وَرَدَ فِى الـحديثِ قولُ أصحابِ الطريقةِ التّجَّانِيَّةِ فِى دَفْتَرٍ لهم يُسَمُّونَهُ أحزاب وأوراد الطريقة التجانية، مذكورٌ فِى هذا الدفتر هذه الصيغةُ (اللهم صَلّ وسلـم على سيدنا مـحمد عَيْنِ ذاتِكَ الغَيْبِيَّةِ) يعنِى الـمؤلف أن الرسول عينُ ذات الله. هؤلاء كثرةٌ مَنْبَعُهُمْ مِن الـمَغْرِبِ، هذه الطريقةُ نَبَعَتْ مِن الـمغرب مِن مدينة فاس ثم امتدتْ إلى ما يليها مِن البلاد وما أكثرَ الـمنتسبينَ إليها فِى السودان وفِى السّنِغَالِ وفِى نَيْجِيريَةَ وفِى مِصْرَ حتّى إنّه كان لهم زعيمٌ أَصْلُهُ تُونُسِىٌّ يُسَمَّى مـحمدَ الـحافِظ رجلٌ مُعَمّرٌ وله اطّلاعٌ فِى الـحديثِ هو عالِـمٌ لكن الله أَضَلَّهُ هو زعيمُ هذه الطائفةِ التّجَانِيَّةِ كنتُ أُنْكِرُ على الـموجودين فِى بيروت مِن هذه الطائفة فاسْتَنْجَدُوا بشيـخهم الذِى هو فِى الـقاهرة مـحمد الـحافظ التجانـىّ ثم كتب إلىَّ كتابَا يَتَضَمَّنُ الدفاعَ عن هذه الصيغةِ اللهم صَلّ وسلـم على سيدنا مـحمَّد عينِ ذاتِكَ الغيبيةِ يدافع عن هذه الصيغة التِى هِىَ صريـحةٌ فِى توحيدِ اللهِ والنَّبِىّ أىْ أنَّهما واحِدٌ، كلـمةُ عَيْنِ ذاتِكَ الغيبيةِ معناه يا اللهُ مـحمدُ الذِى هو أنتَ صَلّ وسَلّمْ عليه، صار فِى هذا الـمكتوب يُدافع عنها لكن لـم يأتِ بطائل إنـما مُجَرَّدُ الدفاعِ. هذا مِن جُملة الغُلُوّ الذِى حَصَلَ مِن هذه الأُمَّةِ فِى هذا العصرِ بل وقبل هذا لأنّ هذه الطريقةَ فِى الـقَرْنِ الثانـى عَشَرَ الـهجرىّ طَلَعَتْ ظَهَرَتْ. أما ذلك السودانـىُّ الذِى ذَكَرْتُ لكم الذِى هو ينتسب إلى الطريقة الـقادرية فهو مِن أهلِ عصرِنا، هذا الكلامُ الذِى صَدَرَ منه كان منذُ ثلاثِ سنواتٍ.
ورجلٌ ءاخَرُ فِى الـمدينة كان هناك أناسٌ اجتـمعوا للاحتفال بليلة سَبْعٍ وعشرينَ مِن شَهْرِ رَجَبٍ فَفِى أثناءِ الاحتفالِ أحدُ الـحاضرينَ قال اللهُ يَتَشَرَّفُ بِعُرُوجِ سيدنا مـحمَّدٍ فِى هذه الليلةِ، هذا مِن الغُلُوّ الذِى مِن نَوْعِ الكُفْرِ لأنّ اللهَ تبارك وتعالى لا ينتفع بأحد مِن خلقه لا بسيدنا مـحمَّد ولا بأىّ نبىّ ولا بجبريلَ ولا بأىّ مَلَكٍ، الله مُنَزَّهٌ عَن الانتِفاعِ لأنّ اللهَ كامِلٌ لا يَقْبَلُ الزيادةَ ولا النُّقصانَ كَمالُهُ أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ الأزلىُّ لا يزيدُ ولا ينقصُ، اللهُ تعالى كامِل بكمال أزلىّ أبدىّ لا يزدادُ ولا ينقصُ، هو كامِلٌ فِى الأزلِ بكمالٍ لا يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصانَ. هذا الذِى قال اللهُ يتشرفُ بعروجِ النَّبِىّ بهذه الليلةِ هذا جَعَلَ اللهَ تعالى كالـمخلوق لأنّ الـمخلوقَ هو الذِى يزداد تَرَقّيًا إلى الكمالِ أو ينقصُ، الأنبياءُ يزدادون تَرَقّيًا والـملائكةُ كذلك يزدادون تَرَقّيًا.
فيـجبُ اجتنابُ الغُلُوّ فِى تعظيم الأنبياءِ وفِى تعظيم الأولياءِ.
ومما حصل مِن الغُلُوّ فِى تعظيم الأولياءِ أنّ رجلًا مِن الأولياء الـمشهورِينَ فِى الـحَبَشَةِ يُقال له أبو مـحمد هذا ظهرتْ له كراماتٌ كثيرةٌ باهرةٌ مِن جُمْلَتِها أنه حصلتْ غارَةٌ مِن الكفار فِى ناحيةٍ، هذه الغارةُ جاءتْ إلى بلدِ هذا الولىّ أبى مـحمد فَذَبَحَتْ مُرِيدًا له ماتَ ثُمَّ الناسُ هَيَّؤُوهُ للدَّفْنِ لكنْ قالوا ننتظر قُدومَ الشيـخِ، الشيـخُ كان غائبًا، فحضرَ الشيـخُ فقيل له يا سَيّدَنَا خادمُكُم فلانٌ الغارةُ ذَبَحَتْهُ قَتَلَتْهُ ذَبَحَتْهُ ذَبْحًا وها قد هَيَّأْناهُ للدفن فتضرَّعَ الشيـخُ إلى اللهِ تعالى فأحيا هذا الـمَيّتَ بقُدرة الله بإذن الله فأهلُ تلك الناحيةِ غَلَوْا فِى تعظيم هذا الشيـخِ حتَّى إنَّهم عَمِلُوا قَصِيدَةً بِلُغَةِ الـحبشةِ فيها إنّ أبا مـحمد مثلُ الصَّمَدِ أى مثلُ اللهِ هذا مِن جملة الغلوّ الذِى هو كُفْرٌ. اللهُ تبارك وتعالى أَمَرَنَا بالاعْتِدالِ لا نَرْفَعُ الأولياء إلى ما فوقَ منزلتِهم أىْ لا نَصِفُهُمْ بأوصافِ الربوبيةِ لا نُشَبّهُهُمْ بالله ولا ننقصهم عما هو لائقٌ بهم أى عنِ الـمنزلة التِى تليقُ بهم أما التعظيمُ الذِى هو دونَ الغُلُوّ فهو شىءٌ يـحبه الله تعالى، اللهُ تعالى عَظَّم نبيَّهُ مـحمَّدًا فَقَرَنَ اسمَهُ باسْمِهِ ويَكْفِيهِ تعظيمًا أنّه يُذْكَرُ مَع اسمِ اللهِ فِى الأذانِ جَهْرًا وفِى الإقامةِ كذلك أشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللهُ وأشهدُ أنَّ مـحمَّدًا رسولُ اللهِ، هذا الذِى يـحصل فِى الأذان وضمن الصلاةِ هذا تعظيمٌ بالِغٌ للنَّبِىّ صَلَّى الله عليه وسلـم، الله تعالى عَظَّمَهُ.
كان بعض ملوك التتار الذين أسلـموا قال ما أعلَى تعظيمٍ يُعَظَّمُهُ إنسانٌ قال له بعض الـجاهلين أنتَ بلغتَ فِى التعظيم أعلى منزلة فقال لا إنّ الذِى بلغَ أعلَى منزلةٍ هو مـحمَّدٌ يُذكر فِى الأذان مع اسم الله تعالى هذا التعظيمُ الذِى هو أعلَى تعظيم.
التعظيمُ الذِى ليس فيه غُلُوٌّ فهذا قُرْبَةٌ إلى الله تعالى ومَن تَحاشَى ذلك تَوَهُّـمًا منه أنّه إخلالٌ بتوحيدِ اللهِ فهو فاسِدُ الـقلبِ فاسِدُ الاعتقادِ، ذَكَرَ لِى أحدُ أصدقائنا مِن أهلِ بيروتَ أنّه كان فِى مسجدٍ فقال الـخطيبُ فِى خطبة الـجمعة لا يـجوز تعظيمُ الرسولِ، قال اعترضتُ عليه وقلتُ كيفَ تقولُ هذا وقد قال الله تعالى: {وَعَزَّرُوهُ} قال له: "عَزَّرُوه" معناه نَصَرُوُهُ فقال نصروه فِى الآية بعدَ هذا فانقطعَ تَظاهَرَ بأنه يريدُ صلاةَ النفلِ فاستقبلَ الـقبلةَ فكبَّر. هذا أيضًا إلحادٌ، هذا كفرٌ كيفَ يقول مَن يَدَّعِى الإسلامَ لا يـجوزُ تعظيمُ الرسولِ. اللهُ عَظَّمَهُ، هذه الشهادة لَمَّا نقول مـحمَّدٌ رسولُ الله أليست تعظيمًا.
أما التبرك بقبر النبىّ صلى الله عليه وسلـم بزيارة قبره فهذا ليس مِن الغُلُوّ فِى شَىْءٍ فمن زار قبر النبىّ صلى الله عليه وسلـم للتبرك أى ليعطيَهُ اللهُ البركةَ بزيارتِهِ لقبر النبىّ فقد عمل عملًا يُحِبُّهُ اللهُ تعالى.
كذلك التوسلُ بالنبىّ صلى الله عليه وسلـم فِى حال حياته وبعد مماته قُرْبَةٌ إلى الله تعالى ليس من الغلو الذِى يُنافِى توحيدَ الله تعالى، الذِى يتوسلُ بالنبىّ صلى الله عليه وسلـم أى يَطلب من الله تعالى أن يقضِىَ له حاجَتَهُ لأجل نبيّه صلى الله عليه وسلـم أو يكشفَ عنه كربةً فهذا عملٌ يـحبه الله تعالى سواء كان فِى حال حياة النبىّ وحضوره أى فِى مجلسه أو كان بعد وفاته عند قبره أو فِى مكانٍ ءاخرَ، كلُّ ذلك قُربة إلى الله، ولـم يكن فِى العصور الـقديمةِ الصَّدْرِ الأولِ والذِى يليه أحدٌ مِن أهلِ العلـم يُنْكِرُ التوسلَ بالنبىّ صلى الله عليه وسلـم لـم يكن أحدٌ ينكر التوسل بالنبىّ فِى عهد الصحابة أو فِى ما بعد ذلك إلى أنْ ظَهَرَ رجلٌ فِى الـقَرْنِ السابع الـهجرىّ فِى أواخره فَحَرَّمَ التوسلَ بالنبىّ قال لا يـجوز التوسل بالنبىّ إلا بـحضوره فِى حياته أما التوسل به بعد وفاته فحرامٌ وكذلك التوسل به فِى حال حياته فِى غير حضرته كذلك حرام، وهذا الرجل هو أحمد بن تيمية لـم يسبقه أحدٌ مِن علـماء الإسلام إلى مثل ذلك بل كلهم يَرَوْنَ التوسلَ بالنبىّ فِى حياته وبعد مماته جائزًا، لا يَثْبُتُ عن أحدٍ من الصحابة إنكارُ ذلك ولا عن أحد التابعين ولا عن أحدٍ مِن تَبَعِ الأَتْبَاعِ ولا مَن بعد ذلك فاعلـموا ذلك أيها الإخوان ولا يُهَوّلَنَّكُمْ هؤلاء الذين يُحَرّمُونَ ذلك ويُورِدُونَ الآياتِ لِيُوهِمُوا الناسَ أنَّ الـقرءانَ يُحَرّمُ ذلك ويوردون الأحاديثَ لِيُوهِمُوا الناسَ أنَّ أحاديثَ النبىّ تُحَرّمُ ذلك فإياكم وإياهم.
الذين يُحَرّمُونَ التَّوَسُّلَ ليس لهم دليلٌ إلا التـمويهُ يُورِدُونَ ءاياتٍ فِى غير مـحلّها ويوردون أحاديثَ فِى غير مـحلّها كما يوردون أحاديثَ لا أساسَ لها ولا صحةَ، مِن جملتها أنَّ هؤلاء يقولون إنَّ أبا بكرٍ الصديقَ رَضِىَ اللهُ عنه قال قُومُوا بِنَا نستغيثُ برسولِ اللهِ من هذا الـمُنافِقِ فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلـم فقال إنه لا يُستغاثُ بِى إنـما يُستغاثُ بالله عزَّ وجلَّ هذا الـحديثُ ليس له إلَّا إسنادٌ واحدٌ وهذا الإسنادُ الواحِدُ فيه راوٍ ضعيفٌ لا يُحْتَجُّ به، هذا عندهم عُمْدَةٌ للـمُحَرّمِينَ للتوسلِ والاستغاثةِ هذا عندهم عمدة وهو لا يصحُّ الاحتجاجُ به لأنَّ فيه راويًا هو ابنُ لَهِيعَةَ مع أنّ الـمُطَّلِعينَ منهم اطلعوا على حديثٍ هو ضِدُّ هذا وهو مما رواه البخارىُّ فِى الصحيـح مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ بنِ الـخطاب رضى الله عنهما أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلـم قال: "إنَّ الشمسَ تَدْنُو من رؤوس الناس يومَ الـقيامة فإذا بهم استغاثوا بآدم"5 اهـ انظروا قال عليه الصلاة والسلام استغاثوا بآدم بهذا اللفظِ، هذا فِى البخارىّ صحيـحٌ ثابتٌ. ثم هؤلاء مِن عَمَى قلوبِهم كأنهم لا يَرَوْنَ هذا الـحديثَ الذِى فِى البخارىّ ويـحتجون بهذا الـحديث الذِى ما له صحة.
ثم إنَّ أعمًى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلـم يقول له: يا رسول الله ادعُ اللهَ أنْ يَكْشِفَ عَنْ بَصَرِى فقال له: "إنْ شئتَ صبرتَ وإن شئتَ دعوتُ لك" قال يا رسول الله ليس لى قائدٌ وقد شَقَّ عَلَىَّ ذهابُ بصرِى قال له: "ائتِ الِميضَأَةَ  فتوضأْ وَصَلّ ركعتينِ ثم قُل اللهم إنّى أسألك وأتوجَّهُ إليك بنبيّنا مـحمَّدٍ نَبِىّ الرَّحمةِ يا مـحمَّدُ إنّى أَتَوَجَّهُ بِكَ إلى رَبّى فِى حاجَتِى وَتُسَمّى حاجَتَكَ لِتُقْضَى لِى"6 اهـ هذا لفظُ الطبرانـىّ، وقد روى الطبرانـىُّ فِى هذا الـحديث أن الصحابىّ الذِى روى الـحديثَ عثمانَ بنَ حُنَيْفٍ قال: "فَوَاللهِ ما تَفَرَّقْنَا ولا طال بِنَا الـمجلسُ حتَّى دَخَلَ الرجلُ عَلَيْنَا الـمَجْلِسَ وقد أَبْصَرَ" اهـ ثم يقول الطبرانـىّ بالإسناد نفسه: "إنَّ رجلًا كان يتردَّدُ إلى عثمانَ بنِ عَفَّانَ فِى حاجةٍ له فلـم يقضِها له فَشَكَا ذلك إلى عثمان بن حنيف أى الصحابىّ الذِى كان مع الرسول عندما جاء الأعمى فعلَّمه عثمانُ التوسل الذِى علـمه الرسول صلى الله عليه وسلـم للأعمى" اهـ هذا الـحديثُ فيه التوسلُ بالنبىّ فِى حياته فِى غير حَضْرَتِهِ أى فِى غير مجلسه وفيه التوسل بالنبىّ بعد وفاته فِى أيام عثمان بن عفان.
يقول الطبرانـىُّ بعد أن يذكر الـحادثتين حادثةِ الأعمى وحادثةِ الرجلِ الذِى كانت له حاجةٌ إلى عثمان بن عفان والـحديثُ صحيـحٌ7. هكذا يقول هذا دليل الـمُجَوّزِينَ للتَّوَسُّلِ بالنبىّ والاستغاثةِ به ولهم أدلة أخرى إن شاء الله سنشرحها فِى دروس أُخَر.
انتهى والله سبـحانه وتعالى أعلـم.
------------------

1- سورة النساء / الآية (171).
2- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر وصف الحصى الذِى يرمى به.
3- سورة الأعراف/الآية (188)
4- رواه مسلم في صحيحه باب فضائل الخضر
5- رواه البخاري في صحيحه باب مَن سألَ الناسَ تَكَثُّرًا.
6- رواه الطبراني في المعجم الكبير باب ما أَسْنَدَ عثمان بن حُنَيْفٍ، ورواه الحاكم في المستدرك باب كتاب الدعاء والتكبير والتَّهليل والتَّسبيح والذِّكرِ.
7-رواه الطبراني في معجمه الكبير باب ما أسند عثمان بن حُنَيْف والصغير باب من اسمه طاهر.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2