من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 الاجتهاد والتقليد

الدرس التاسع
الاجتهاد والتقليد

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
درس ألقاه الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىّ رحمه الله تعالى وهو فِى بيان الاجتهـــــــــاد والتقليد.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الـحمد لله رب العالـمين والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
    أما بعد فإن الاجتهاد: هو استخراج الأحكام التِى لـم يرد فيها نصٌّ صريـح لا يـحتـمل إلا معنـى واحدًا فالـمجتهد مَنْ له أهليةُ ذلك بأن يكون حافظًا لآيات الأحكام وأحاديث الأحكام مع معرفة أسانيدها ومعرفة رجال الإسناد ومعرفة الناسخ والـمنسوخ والعام والـخاص والـمطلق والـمقيد ومع إتقان اللغة العربية بـحيث إنه يـحفظ مدلولات ألفاظ النصوص على حسب اللغة التِى نزل بها الـقرءان ومعرفة ما أجمع عليه الـمجتهدون وما اختلفوا فيه لأنه إذا لـم يعلـم ذلك لا يؤمن عليه أن يـخرق الإجماع أى إجماع من كان قبله.
ويُشترط فوق ذلك شرط وهو ركن عظيم فِى الاجتهاد وهو: فقه النفس أى قوة الفهم والإدراك ويشترط فِى الـمجتهد أيضًا العدالة وهِى السلامة من الكبائر ومن الـمداومة على الصغائر بـحيث تغلب على حسنات الشخص من حيث العدد. وأما الـمقلد فهو الذِى لـم يصل إلى هذه الـمرتبة.
والدليل على أن الـمسلـمين على هاتين الـمرتبتين قوله صلى الله عليه وسلـم: "نَضَّرَ اللهُ امرَأً سَمِعَ مَقَالتِى فَوَعَاهَا فَأَدَّاها كما سَمِعَهَا فَرُبَّ مُبَلَّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ" اهـ1رواه الترمذىّ وابن حبان. الشاهدُ فِى الـحديث قوله: "فرب مبلَّغ لا فقه عنده" اهـ وفِى روايةٍ: "ورُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع" اهـ فإنه يفهمنا أن من الناس مَنْ حظه الرواية فقط وليس عنده مقدرة على فهم ما يتضمنه الـحديث من الـمعانـى. وفِى لفظ لهذا الـحديث "فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أَفْقَهُ منه" اهـ وهاتان الروايتان فِى الترمذى وابن حبان.
وهذا الـمجتهد هو مَوْرِدُ قوله صلى الله عليه وسلـم "إذا اجْتَهَدَ الـحاكِمُ فأصابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وإذا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"2 رواه البخارىُّ، وإنـما خَصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلـم فِى هذا الـحديث الـحاكمَ بالذّكْرِ لأنه أحوج إلى الاجتهاد مِنْ غيره فقد مضى مجتهدون فِى السلف مع كونهم حاكمين كالـخلفاء الستة أبى بكر وعمر وعثمان وعلِىّ والـحسن بن علِىّ وعمر بن عبد العزيز.
فيكون معنـى حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلـم دعاءً لهؤلاء الذين يسمعون الـحديثَ مِنْ رسولِ الله ثم يـحفظونه فَيَرْوُونَهُ لغيرهم مِنْ غير أن يزيدوا فيه أو يُحَرّفُوهُ بِنَضْرَةِ وجوههم يوم الـقيامة، ثم بَيَّنَ أنَّ أكثر هؤلاء لا يستطيعون أن يستخرجوا الأحكام مِنْ حديث رسول الله وفِى لفظٍ لهذا الـحديث: "فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ" معناه رُبَّ حاملِ علـمٍ إلى غيره بروايته لحدِيثِى لا يدرك معنَى هذا الـحديث الذِى يـحمله حتى يستنبط منه الأحكام ويـجتهد أى أنَّ الأكثر هذه حَالَتُهُمْ.
فإذا كان أصحابُ رسول الله الذين يستـمعون منه الـحديث أكثرهم ليس له مقدرة على أن يستخرجوا الأحكام من حديثه عليه الصلاة والسلام فما بال مَن بعدهم كأهل عصرنا هذا. فهذا الـحديث يقطع الطريق على الـمُدَّعِينَ للاجتهاد من غير أن يكونوا مستأهلين ويكشف أنهم تائهون ليسوا على الاستقامة.
وقد عَدَّ بعض علـماء الـحديث الذين أَلَّفُوا فِى كتب مصطلح الـحديث الـمُفْتِينَ فِى الصحابة أقلَّ من عشرة وبعضهم عَدَّ نحوَ مِائَتَيْنِ منهم بلغ درجة الاجتهاد فإذا كان الأمر فِى الصحابة هكذا فَمِنْ أين يَصِحُّ لكل مسلـم يستطيع أن يقرأ الـقرءان ويطالعَ فِى بعض الكتب أن يقول أولئك رجالٌ ونحن رجالٌ فليس علينا أنْ نُقَلّدَهُمْ. وقد ثبت أنَّ أكثر السلف كانوا غير مجتهدين بل كانوا مقلدين للـمجتهدين فيهم.
وفِى صحيـح البخارىّ أنَّ رجلًا كان أجيرًا لرجل فزنـى بامرأته فسأل أبوه فقيل له إنَّ على ابنك مائة شاة وأَمَةٌ ثم سأل أهل العلـم فقالوا له إنَّ على ابنك جلد مائة وتغريب عام. وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلـم مع زوج الـمرأة فقال يا رسول الله إنَّ ابنِى هذا كان عسيفًا أى أجيرًا على هذا وزنـى بامرأته فقيل لِى إنَّما على ابنك جلدُ مِائَةٍ وتغريبُ عامٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: "الـمائةُ شاةٍ والوليدةُ رَدٌّ عليه وإنَّ على ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وتغريبَ عامٍ" اهـ3
فهذا الرجل مع كونه مِنَ الصحابة سأل أناسًا من الصحابة فأخطأوا الصواب ثم أفتاه الرسول صلى الله عليه وسلـم بـما يوافق ما قالـه أولئك العلـماء، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلـم أفهمنا أنَّ بعضَ مَنْ كانوا يسمعون منه الـحديث ليس لهم فقه أى مقدرة على استخراج الأحكام من حديثه وإنـما حظهم أن يرووا عنه ما سمعوه مع كونهم يفهمون اللغة العربية الفصحى فما بالُ هؤلاء الغوغاءِ الذين يتجرؤون على قول أولئك رجالٌ ونحن رجالٌ يعنون أنَّ الـمجتهدين كالأئمة الأربعة رجالٌ وهم رجالٌ فلهم أنْ يـجتهدوا مثلهم.
ثم هناك حديثٌ ءَاخَرُ يوضح هذا الـمعنـى رواه أبو داود وغيره أنَّ رجلًا كان فِى سفر فأجنب فِى ليلة باردة وكانت برأسه شَجَّةٌ فقال لرفقائه: أنا أصابتنِى جنابة وبرأسِى شجةٌ فقالوا له: اغْتَسِلْ فاغْتَسَلَ فمات لأنَّ الـماء فِى تلك الليلة التِى
كانت شديدة البرد لـما دخل فِى شَجَّتِهِ أودى به أى أهلكه فمات فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلـم فقال: "قتَلَوُهُ قَتَلَهُمُ اللهُ هَلَّا سَأَلُوا إذْ جَهِلُوا" اهـ4 الـمعنـى هؤلاء ليسوا أهلًا للفتوى لـماذا لـم يسألوا مَنْ هم أهلٌ للفتوى فَتَوَلَّوُا الفتوى بأنفسهم، مِنْ غضبه عليهم قال: "قتلهم الله" اهـ هؤلاء كانوا من الصحابة، ولسانُهُمْ عَرَبِىٌّ لُغَتُهُمْ لغةُ الـقرءان لغةُ الـحديث، مع هذا ما كانوا وصلوا إلى حَدّ الاجتهاد أىِ الاجتهاد الصحيـح بل أَفْتَوْا مِنْ غير أن يكونوا مجتهدين فقال الرسول صلى الله عليه وسلـم: "هَلَّا سألوا إذْ جَهِلُوا" معناه ما كان لهم حقٌّ أن يُفْتُوا بل كان حقهم أن يسألوا غَيْرَهُمْ ممن هم مِنْ أهل الفتوى أى مِنْ أهل الاجتهاد، هذا الـحديث أيضًا دليل على أنه لا يصلح لكل إنسان أن يكون مجتهدًا كما يزعم بعض أهل هذا العصر، يكتفون بأفكارهم لا هم مجتهدون ولا يتبعون الـمجتهدين الذين رزقهم الله ذلك الفهم والـحفظ كالأئمة الأربعة وغيرهم. لكن الأئمة الأربعة مذاهبهم مدونة، تلاميذهم سجلوا فتاويهم واجتهاداتهم، أما الـمجتهدون الآخرون فِى ذلك الزمن وفيما قبل ذلك ما دُوّنَتْ مذاهبهم بل انقرضتْ، أتباعهم الذين كانوا يأخذون باجتهادهم انقرضوا، كان عددٌ كثيرٌ مِن الـمجتهدين بعضُهُمْ مِنَ الصحابة وبعضُهُمْ مِنَ التابعين وبعضُهُمْ مِنْ أتباع التابعين وبعضُهُمْ مِنْ تَبَعِ الأتباع كان عدد كثير من الـمجتهدين فِى هذه العصور لكن مذاهبهم انقرضت كان مذهبهم معمولًا به فِى بعض البلاد نحو مِائَتَىْ سنة، الإمام الأوزاعىُّ كان أتباعه يوجدون فِى بر الشام والـمغرب نحو مائتى سنة ثم هؤلاء تحولوا إلى الشافعية والـحنفية والـمالكية فانقرض مذهب الأوزاعىّ أى لـم يبقَ أحد يـحفظه ولا مؤلفاته بقيت بين أيدى الناس بل تلفت وكذلك مجتهدون غيره.
ثم مع هذا كله نحن لا نقول باب الاجتهاد مغلقٌ مسدود على كل إنسان بل نقول إنه صعب جدًا. نقول يـجوز أن يكون فِى هذا العصر مجتهدٌ رزقه الله مِنَ الفهم والـحفظ كما رزق أولئك لكن الذِى هو أهل لهذا يرى أنه ليس ضروريًّا أن يُظْهِرَ نَفْسَهُ ويقولَ يا أيها الناس أنا مجتهد كما كان أولئك الأئمة مجتهدون فخذوا بـمذهبِى واتبعونِى، لا يَرَى ذلك أمرًا ضروريًا يقول ما عليه الناس من اتباع مذاهب الأئمة الـمجتهدين الأربعة يكفيهم ليس ضروريًّا أن أظهر نفسى وأقولَ للناس يا أيها الناس أنا فِى هذا العصر رَزَقَنِى اللهُ تعالى درجةَ الاجتهادِ فاتبعونِى بدل أن تتبعوا الشافعىَّ أو مالكًا أو أبا حنيفة أو أحمد بن حنبل لا يرى ذلك من الضرورىّ بل يسكت لأنه يرى أنَّ ما هم عليه مِن اتباع الـمذاهب الأربعة حقٌّ.
والدليلُ على أنَّ باب الاجتهاد مفتوح لـمن هو أهلٌ لذلك ما قالـه الإمامُ علىُّ بن أبى طالب رَضِىَ الله عنه لِكُمَيْلِ بن زياد: "لن تَخْلُوَ الأرضُ مِن قائمٍ لله بِحُجَّةٍ"5 اهـ رواه أبو نعيم والـخطيب البغدادىُّ وغيرُهـما.
ثم الاجتهاد يكون فِى الأحكام ليس فِى أصول العقيدة، أصولُ العقيدة ليس فيها اجتهادٌ بل اتباع ما كان عليه الرسول مما تلقاه الصحابة عنه ثم التابعون الذين لـم يَلْقَوْا رسولَ الله واتبعوا الصحابة أى فِى  أصول العقيدة تلك6وهكذا تسلسل إلى عصرنا هذا. عند جمهور الأمة فِى الاعتقاد وفِى أصول العقيدة لا اختلاف، لذلك الصحابةُ لـم يـختلفوا فِى أصول العقيدة أى فِى ما يتعلق بـمعرفة الله والأمور الاعتقادية التِى تحصل فِى الآخرة كالإيمان بوجود الـجنة ووجود جهنـم والـحساب والـميزان ورؤية الله للـمؤمنين بأبصارهم من غير أن يشبه شيئًا من الأشياء وأن الله خالـق كل شىء من الأجسام وأعمال العباد الظاهرة والـقلبية أن ذلك كله الله خالـقه لا خالـق للأجسام ولا للحركات والسكنات وتقلب الـقلوب إلا الله. فِى هذا لـم يـختلف الصحابة، وكذلك جمهور الأمة على هذه العقيدة.
أما الاختلاف فِى الفروع أىْ فروع الأحكام فقد حصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلـم. هناك مسئلة لـم تحدث فِى زمن الرسول صلى الله عليه وسلـم أىْ لا ذكرت فِى الـقرءان ولا الرسول ذكرها وهى أن الرجل إذا مات وترك جَدًّا وإخوةً فاجتهد أصحاب رسول الله فكان اجتهادُ بَعْضِهِمْ أَدَّاهُ إلى أنَّ الـجد يرث مع الأخوة أىْ يشارك الـجَدّ مع الإخوة فيأخذ الـجدُّ حصته مِن مالِ ابنِ ابنِهِ وإخوةُ الـميت يأخذون حصتهم، واجتهد ءَاخَرُونَ من الصحابة فأدّاهم اجتهادهم إلى أنَّ الـجد مثل الأب فلذلك هو يرث أىْ الـجدُّ فقط يأخذ الـمالَ والإخوةُ لا يأخذون شيئًا. مثل هذا الاختلاف فِى الأحكام ليس فيه ضرر إذا كان مِمَّنْ هو أهلٌ للاجتهاد لأنَّ الذين قالوا الـجَدُّ هو وَحْدَهُ يأخذ الـميراث لأنه مثل الأب هم سيدُنا أبو بكر وبعضٌ مِنَ الصحابة وافقوه، والذين قالوا الأخوةُ والـجَدُّ يشتركون فِى الـميراث كذلك من أكابر الصحابة مثل سيدنا علىّ وزيد بن ثابت. لا هؤلاء عابوا على هؤلاء ولا هؤلاء عابوا على هؤلاء اجْتِهادَهُمْ فالـمذاهبُ الأربعة هذا شأنهم، بعضهم اجتهد فوافق اجتهادُهُ اجتهادَ أبِى بكر وبعضهم اجتهد فوافق اجتهادُهُ اجتهادَ سيدنا عَلِىّ فلا بأس على هؤلاء ولا على هؤلاء.
فينبغِى لأهلِ كُلّ بلدٍ أن لا يـخرجوا عن الـمذاهب الـمعتبرة بدعوى الاجتهاد لأنفسهم أو لأناس شَذُّوا وتَصَدَّرُوا هذا الـمنصب منصب الاجتهاد وليسوا بأهل بل هم من أبعد الناس عن هذا الـمنصب.
فالنصيـحةُ للجميع أن لا يلتفتوا لهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم مجتهدين وهم ليسوا من أهل الاجتهاد.
وكم من الـمُحدّثين حفظوا من متون أحاديث رسول الله عشراتِ الألوف ومِنَ الأسانيدِ ما يزيد على مِائَةِ ألفِ يـحفظون ذلك عن ظهر قلبٍ مِنْ غير مراجعة لـما تَلَقَّوْهُ من أمثالـهم لـم يَدَّعُوا الاجتهاد بل كان قسمٌ منهم مالكيين وقسم منهم شافعيين كالـحافظ ابن حجر الذِى قيل عنه أمير الـمؤمنين فِى الـحديث من كثرة مـحفوظاته لأحاديثِ رسول الله ورواةِ أحاديث رسول الله، حتى هذا كان شافعيًّا كان قاضيًا على مذهب الشافعىّ، وكذلك مـحدثون كانوا يـحفظون عشراتِ ألوف الرواة مِنَ الصحابة، كان يعرف أحدهم أن أبا هريرة وحده كان له ثَمَانِمِائَةِ راوٍ أىِ الذين سمعوا منه الـحديثَ عددهم ثمانِمِائة وأنَّ عدد الذين أخذوا عن الإمام عَلِىّ كذا وكذا وأن عدد الذين أخذوا عن أبِى بكر كذا وكذا مع حفظهم لهذا عن ظهر قلب ومع ذلك ما ادَّعَوُا الاجتهادَ كان هذا شافعيًّا أو مالكيًّا أو حنفيًّا أو حنبليًّا فكيف بهؤلاء الذين تصدَّرُوا اليومَ منصبَ الاجتهاد بغير أهلية، لا يـحفظ أحدهم عشرة أحاديث بأسانيدها من أنفسهم إلى رسول الله،  كيف يَصِحُّ لهم دعوى الاجتهاد وكيف يصح للناس أن يتبعوا هؤلاء ويتركوا الـمذاهب الـمعتبرة.
ثم وظيفةُ الـمجتهدِ التِى هِىَ خاصةٌّ له الـقياسُ أىْ أنْ يعتبر مالـم يَرِدْ به نَصٌّ بـما ورد فيه نَصٌّ لشبهٍ بينهما. فالـحذرَ الـحذرَ مِنَ الذين يـحثون أتباعهم على الاجتهاد مع كونهم وكون متبوعيهم بعيدين عن هذه الـمرتبة.
فهؤلاء يُخَرّبُونَ ويَدْعُونَ أتباعهم إلى التخريب فِى أمور الدين، وشبيهٌ بهؤلاء أناسٌ تَعَوَّدُوا فِى مجالسهم أن يوزعوا على الـحاضرين تفسير ءَايَةٍ أو حديثٍ مع أنه لـم يسبق لهم تَلَقٍّ معتبر من أفواه العلـماء فهؤلاء الـمُدَّعُونَ شَذُّوا عن علـماء الأصول لأن علـماء الأصول قالوا الـقياسُ وظيفةُ الـمجتهدِ وخالفوا علـماء الـحديث أيضًا، فالنصيـحةُ عدمُ الالتفاتِ إلى كلام هؤلاء عدم الـخروج عن الـمذاهب الـمعتبرة. فَمِمَّنْ ادَّعَى منصب الاجتهاد فَشَوَّشَ على الـمسلـمين فِى العقيدة والأحكام رجل ظهر فِى أواخر الـقرن السابع الـهجرى يقال له أحمد بن تيمية أفتى فتاوًى مخالفةً للشريعة الإسلامية ضد ما كان عليه علـماء الإسلام قبله بلغت ستين مسئلة كما قال الـحافظ ولِىُّ الدينِ العراقىُّ، ومن جملتها قوله الذِى يزور قبرَ نبىّ أو ولِىّ لطلب البركة مِن الله بزيارته لهذا النبىّ أو هذا الولِىّ مشركٌ كافرٌ إلا الذِى يزور للسلام عليه والدعاء له هذا زيارته شرعية. وكذا عمل ابن تيمية بلبلةً فِى مسائل عديدة.
هو كان نشأ فِى دمشق فعلـماءُ الشام عملوا له مجلس مناظرة فحاجُّوه غلبوه فِى الـحجة ثم أظهر أنه تاب وأمضى بخطه رجعتُ إلى ما عليه الـجماعة، ثم تركوه ثم عاد للتشويش ثم أخذوه وهكذا تكرر منه هذا الشذوذُ والتشويشُ على الـمسلـمين، ثم الـمَلِكُ السلطان مـحمد بن قلاوون الـملك الناصر الذِى كان مقره فِى الـقاهرة استدعاه وقال وجهوه إلينا من الشام إلى مصر، فَوَجَّهُوهُ إلى هناك ثم أمر الـملكُ مـحمد بن قلاوون العلـماءَ بأن ينظروا فِى أمره فاجتـمع قاضِى قضاةِ الشافعية وقاضِى قضاةِ الـمالكية وقاضِى قضاةِ الـحنابلة وقاضِى قضاةِ الـحنفية هؤلاء الأربعةُ كل واحد منهم قاضِى الـقضاةِ ليسوا من العلـماء الصغار، اجتـمعوا فنظروا فِى أمره قالوا هذا الرجلُ ضالٌّ يـجب التحذير منه ويلزم حبسه الـحبس الطويل. فردوه إلى الشام فوضع فِى السجن إلى أن مات.
هذا الذِى يقال عنه اليوم عند بعض الناس الـمخدوعين شيـخ الإسلام ابن تيمية.
وهذا شأنه، وهذه الـقصة أن قضاة الـمذاهب الأربعة حكموا عليه بالـحبس الطويل رواها عِدَّةٌ من الـمؤرخين منهم تلـميذٌ لابن تيمية اسمه صلاح الدين الصفدىُّ له تاريـخٌ سماه عيونَ التواريـخ يقول فِى ذلك هذا التفصيل أنَّ ابنَ تيمية أخذوه من الشام إلى مصر ثم الـملك أصدر الـمرسوم بـحبسه وأصدر مرسومًا يُقرأ على الـمنابر فِى بر الشام فقرئ على الـمنابر فِى بر الشام وفِى مصر فِى التحذير منه ومن أتباعه ثم مات ابن تيمية فخفت فتنته ثم بعد ثَلاثِمِائَةِ سنةٍ فِى نجدٍ رجلٌ يقال له مـحمد بن عبد الوهاب طالع كتب ابن تيمية فشوش على الـمسلـمين بتلك الفتاوى التِى كان ابن تيمية أنشأها وهِىَ سارية إلى اليوم فِى نجد الـحجاز هؤلاء يُنسبون إلى ذلك الرجل مـحمد بن عبد الوهاب يُقال لهم الوهابية.
كان لابن عبد الوهاب أخ اسمه الشيـخ سليمان. كان مخالفًا لأخيه الذِى شذ عن أئمة الـمسلـمين واتبع ابن تيمية حتى إنه ألّف فِى الرد عليه، وَرَدَّهُ هذا موجودٌ اليوم فِى بَرّ الشام ومصرَ وتركية واسمه "فصل الـخطاب فِى الرد على مـحمد بن عبد الوهاب".
هذا الرجل الشاذ شوّش على الـمسلـمين، يكفر الـمسلـمين بغير حق وأتباعُهُ إلى اليوم يقتدون به فِى التشويش فاحذروهم، يوردون الأحاديث فِى غير مواضعها والآيات الـقرءانية فِى غير مواضعها فيوهمون الناس أنَّ كلامَهُمْ صحيـحٌ موافق للقرءان والـحديث فاحذروهم كلَّ الـحذر هؤلاء مفتونون ومَن اتبعهم فهو مفتونٌ تائِهٌ عن الـحقّ زائغٌ ضالٌّ وكذلك كل من شذ عن أئمة الـهدى وأئمة الاجتهاد فَحَلَّلَ وَحَرَّمَ على خلاف ما كان عليه علـماء الإسلام فِى السلف والـخلف. علـماء الإسلام كلهم من الصحابة إلى ذلك العصر الذِى ظهر فيه ابن تيمية وإلى اليوم يعتبرون زيارة قبور الأنبياء والأولياء للتبرك جائزًا فقد روى الـحافظ الـخطيب البغدادى بالإسناد أنَّ الشافعىَّ رَضِىَ الله عنه قال: "إنـى لأتبرك بأبِى حنيفة وأَجِىءُ إلى قبره فِى كل يوم زائرًا فإذا عرضتْ لِى حاجةٌ صَلّيْتُ ركعتين وجئتُ إلى قبره وسألتُ الله تعالى الـحاجة عنده فما تبعد عنـى حتى تُقْضَى" اهـ علـماء الإسلام ما كان أحدٌ منهم ينكر هذا حتى جاء هذا الرجل ابن تيمية فأنكر وشَوَّشَ على الـمسلـمين وتَشْوِيشُهُ هذا إلى يومنا سائر بين الناس على لسان أتباعه التيميين فاحذروهم كل الـحذر وَحَذّرُوا منهم ولا يَكْفِى أن تحذروا أنتـم لأنفسكم بل واجب عليكم أن تحذّروا غيركم  لأنهم مندسُّون بين الناس هنا وهناك فاحذروهم وحذّروا منهم حتى تسلـموا وتنطفئ فتنتهم.
وبعد هذا البيان الـموجز اتضح لذى عينين بصيرتين مَن هو الـمجتهد الـمستأهل ليتبعه غيره، ألهمنا الله السهر على عقيدة أهل السنة والـجماعة وجنبنا الله الفتن ما ظهر منها وما بطن. وسبـحان الله والـحمد لله رب العلـمين.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه الترمذي في سننه باب فضل نشر العلم، ورواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر وصْف الغِنًى الذي وصفنَاهُ قَبْل.
2- رواه البخاري في صحيحه باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب  أو أخطأ.
3- رواه البخاري فِى صحيحه باب إذا اصطلحوا على صلح جَوْرٍ فالصُلْحُ مَرْدودٌ.
4- رواه أبو داود في سننه باب المجروح يَتَيَمَّم، والبيهقي في السنن الكبرى باب المسح على العصائب والجبائر.
5- رواه أبو نعيم في حلية الأولياء باب وصية علِيٍّ لِكُمَيْلٍ بن زيادٍ.
6-وهذه الأصول تشهد لها كُلّها الأدلةُ العقليةُ.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2