من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 سؤال العبد يوم الـقيامة

الدرس الـخمسون
سؤال العبد يوم الـقيامة

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
    درس ألقاه الـمـحدث الصوفِى الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىّ رحمه الله في السادس من شهر شوال سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق للتاسع من أيلول سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وألف ر وهو فِى بيان سؤال العبد يوم الـقيامة.
قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة:4
    الـحمد لله رب العالـمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف الـمرسلين.
أما بعد فإن الله تبارك وتعالى قال فِى كتابه العزيز: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾1 الـهوى هو كل ما تـميل إليه النفس مما يلائمها من غير داعٍ دينـىّ بل لـملائمة الطبع وموافقته مِن شهواتٍ مـحرمة وإرادةِ عُلُوّ فِى الأرض وترفُّعٍ على الناس وأن تكون كلـمةُ الشخص نافذةً على غيره وإرادتُهُ نافذةً فِى الناس مِن غير وقوف عند حد الشرع .
الله تبارك وتعالى وَعَدَ مَن خاف مقام ربه أى خاف سؤال يوم الـحساب ونهى نفسه عن هواها جنة الـمأوى أى أن يكون مأواه الـجنة وعده أن يكون مأواه الـجنة التِى لا نكد فيها ولا خوف ولا ضيق ولا شكوى مرض أو عذاب وجعل مَنْ لـم يَخَفْ مقام ربه ولـم يَنْهَ نفسه عن الـهوى مآله سيّئًا جعل مآله سيّئًا.
ثم إن الـهوى منه ما هو ظاهر يعرف صاحبه أنه شَرٌّ كالشهوات الـمـحرمة الـمألوفة الظاهر أمرها للخاص والعام ومنه ما هو خفِىّ لا يهتدِى لـمعرفته إلا قليل من الناس، حتى إن الذين يزعمون أنهم من أهل الذكر عندهم هوى لبَّسَ عليهم الشيطان الأمر فظنوه قُربة إلى الله وهو بُعْدٌ مِنَ الله، ظنوه قُربًا من الله وهو بُعْدٌ من  الله. مثالُ ذلك أنهم انشغلوا بـمراعاة الأنغام وتنسيق الـحركات وأَدَّى بهم ذلك إلى تحريف اسم الله فكثير من أهل الطريقة  ولا سيما الشاذلية تَعَوَّدُوا أن يـحرّفوا اسم الله بدل أن يقولوا الله باللفظ الصحيـح يقولون ءاه وذلك لأنها أخف على ألسنتهم وتوافق الـحركات السريعة فِى اهتزازاتهم ورقصهم. ولقد بلغ الضلالُ ببعضهم إلى أن قال الذكر بها أى بآه أقرب للفتوح من الذكر بلفظ الـجلالة الله فصاروا يعملون هذا أىِ الذكرَ بها مراعاةً لحركاتهم التِى اعتادوها فصاروا يشمئزون من الذِى يذكر معهم بلفظ الله. حصل مرة بدمشق اجتـماعهم مع هؤلاء ودخل معهم شخصٌ يريد الذكر الصحيـح فصار يقول الله الله فانزعجوا منه لأنهم كانوا تلك الساعة يقولون ءَاه ءَاه بترتيب خاص مطابق لحركاتهم فأرادوا منه أن يقول مثل ما يقولون ءَاه ءَاه فكلـموه فلـم يوافقهم بل ظل يقول الله الله فزاد نفورهم منه لأنه يُغَيّر عليهم الإيقاع فأرادوا منه أن يـخرج من الـحلقة من شدة نفورهم ومـحافظة على هواهم فهؤلاء فَتَنَهُمْ هواهم لكن الشيطان لبَّس عليهم الأمر فخُيّل إليهم أن عملهم هذا فِى حب الله وهو فِى الـحقيقة معصية لله لأن تغيير اسم الله حرامٌ. وأضافوا إلى ذلك أنهم تلك الساعة يرقصون رقصًا فيه تثنٍّ وتكسرٌ وهو حرام على الرجال والنساء أى أن الرقص إذا كان فيه تثنٍّ وتكسرٌ أى إنهم يتكسرون ويتثنون فِى رقصهم وهذا حرام على الرجال والنساء وأما الرقص الـخالى من التثنّى والتكسّر فهو مباح للرجال والنساء كما إذا كان قفزًا إلى فوق فإنه جائز. فهذا نوع من أنواع الـهوى الـخفِى الذِى لا يظنه كثير من الناس قبيـحًا إلا أهل الفهم والـمعرفة أو الذوق السليم فإنهم يدركون أن هذا شىء قبيـح. هذا يُدْرِكُ بواسطة علـم الدين والـمعرفة بأحكامه وهذا يُدْرِكُ بذوقه السليم أن هذا عمل مرفوض غير مستحسن فِى ميزان العمل الذِى يفرق فيه بين العمل الصحيـح والعمل الـخبيث.
ومن الـهوى أعمالٌ ظاهرها عبادات لكن فِى النفس إليها طموح من أجل الرياء. الرياء يشجع الإنسانَ على فعلها لأجل أن يعجب الناس بذلك العمل.
ومن الـهوى الـخبيث الذِى يهلك صاحبه حب العلو والسيطرة لأن النفس يلائمها ذلك فيـخفِى على أكثر النفوس أنَّ الـخيرَ للنفس فِى ترك هواها فالذِى يريد أن يعطى نفسه هواها هو يظن أنه يُكْرِمُ نَفْسَهُ يظن أنه يكرمها وهو فِى الـحقيقة مُهِينٌ لها فالذِى يريد أن تنفذ إرادته لينظر قبل الإقبال هل إرادته هذه موافقة لـمرضاة الله أو مخالفة وذلك باعتبار ميزان الشرع فإن وجدها موافقة لـمرضاة الله تعالى أقدم على تنفيذها مع الـحذر من أن يـختلط بها مِنْ حظوظ النفس ما يـخالف مرضاة الله وإن وجدها مخالفةً لـمرضاة الله باعتبار ميزان الشرع كفَّ عنها وأعرض فيكون أحيا نفسه وأكرمها، فأما إذا تبع ميله الـموافق لنفسه فيكون أهلكها، فالأمر بالـحقيقة أن إحياء النفس إماتة هواها وإماتتها إعطاؤها هواها.
الـقرءان الكريم دلنا على شفاء النفس الذِى يـحييها بهذه الكلـمة الـموجزة: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى2 ثم أرشدنا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى ءَالِهِ إلى ما يشرح ذلك للعقل فقد روينا فِى الصحيـح أنه صلى الله عليه وسلـم قال: "ليس الشديدُ مَن غَلَبَ الناسَ ولكن الشديد مَن غَلَبَ نَفْسَهُ"3اهـ الـحديثُ سهلٌ على اللسان ولكن تطبيقه على النفس صعب شاق لا يُوَفَّقُ للعمل به على التـمام إلا ذو حظ عظيم فإن فِى العمل به مخالفة النفس الأمارة بالسوء فقد ذكر الله عن يوسف الصديق عليه الصَّلاة والسَّلام أنه قال: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيَ4
فَفِى ذلك إشارة إلى أن أغلب الناس نفوسهم أمارة بالسوء تَسْتَوْلِى عليهم ليس عقولُهُمْ تستولِى على نفوسهم بل الأمر فيهم بالعكس، أراد يوسف عليه السلام بذلك أن شأن النفس الـميل إلى الشهوات الـمـحرمة ولا معصوم عن ذلك إلا من عصمه الله.
قال بعض العلـماء فِى الـحث على كسر النفس وحظها:
وحظُّها إنْ تـمتْهُ كنتَ مُحْيِيَهُ ***** واتركْ هَوَاهَا وحَاذِرْ أَنْ تُوَلّيَهُ
يعنـى أن حياة الإنسان فِى مخالفة هواه أى أن الـحياةَ الشريفة الـمـحمودة العاقبة فِى مخالفة النفس وأن موتها أى هلاكها فِى تولية الـهوى على النفس فمن وَلَّى هواه على نفسه فقد أهلكها.
إذا عُلِمَ ذلك فلا ينبغِى للحاكم أن يـحبّ العلوّ فِى الأرض أى أن تنفذ مشيئته كيف ما كان الأمر من غير نظر إلى مرضاة الله، ولا ينبغى للوالد أو الوالدة أن يكون مـحبا للعلوّ والسيطرة على ولده بل يعتبر العاقل نفسه أنَّ كل ما على وجه الأرض عبد لله وأنَّ الله هو حاكم الـجميع وله الطاعة على الـجميع ولا أحد يستحق الطاعة على غيره من العباد إلا بإذن الـخالـق العظيم فمن لاحظ ذلك وعمل به فقد عاش حياة سعيدة هنيئة .
رَوَينا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: "رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ وهو لها مُهِينٌ" اهـ5 يعنـى أنَّ كثيرًا من الناس يكرمون أنفسهم بـحسب الظاهر بإعطائها ما تشتهيه وبتنفيذ إرادتها يكرمونها بذلك وهم قد أهلكوها باعتبار الـحقيقة، أهلكوها وما أكرموها بل أهانوها "وَرُبَّ مُهِيٍن لِنَفْسِهِ وهو لها مُكْرِمٌ" اهـ وإنـما يصيبُ الإنسانَ كثيرٌ مِن الـهلاك مِن طريقِ حب نفوذ الإرادة من غير تَقَيُّدٍ بشريعة الله هذا يُهلك الناس كثيرًا.
لنقتدِ بالأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام كانوا يُؤْذَوْنَ مِنْ قِبَل أممهم فيصبرون ويقابِلُونَ ذلك الأذى بالإحسان وذلك كالشجرة الـمثمرة تُخْبَطُ بالعصا وتُعْطِى الثمرَ وذلك لأن مقصودهم مرضاة خالـقهم لا يطلبون فِى مقابل دعوتهم الناسَ إلى الـخير والرشاد أجرًا من الناس وإنـما يطلبون مرضاة ربهم.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- سورة النازعات/ الآية (40-41)
2- سورة النازعات/ الآية (40).
3- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر الإخبار بأنَّ الشديد الذى غلبَ نفسَهُ عند الشهوات والوساوس.
4- سورة يوسف/ الآية (53).
5- رواه البيهقي فِى شعب الإيمان فصل فى زهد النَّبِىّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وصبره على شدائد الدنيا.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2