من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 أعمالنا أعلام الثواب والعقاب

الدرس السابع عشر
أعمالنا أعلام الثواب والعقاب

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
    درس ألقاه الـمـحدث الفقيه الأصولىّ الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىّ رحمه الله تعالى فِى بيروت وهو فِى بيان أن أعمالنا أعلام الثواب والعقاب وفِى بعض مخالفات ابن تيمية للإمام أحمد.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
    الـحمد لله رب العالـمين له النعمة وله الفضل والثناء الـحسن صلوات الله البرّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء الـمرسلين وسلامه عليهم أجمعين.
أما بعـــــــــد فقد رُوّينا بالإسناد الـمتصل فِى كتاب الـقدر للبيهقىّ رحمه الله تعالى من طريق الشريف العثمانـىّ قال: "سمعت الإمام أبا الطيب سهل بن مـحمد يقول أعمالنا أعلام الثواب والعقاب" اهـ هذا الإمام سهل بن مـحمد أبو الطيب ذَكَرَ الـحاكم فِى مستدركه أنه هو مجدد الـقرن الرابع بعد أن ذكر أنَّ مجدد الـقرن الأول عمر بن عبد العزيز لأنه كان على رأس الـمائة الأولى ومجدد الـقرن لابد أن يكون حيًّا على رأس الـمائة وذكر أنَّ مجدد الـقرن الثانـى كان الإمام الشافعىَّ مـحمدَ بنَ إدريس وأن مجددَ الـقرن الثالث الإمام الفقيه الشافعىّ ابن سُرَيـج رَضِىَ الله عن الـجميع ثم قال فِى الإمام أبِى الطيب سهل بن مـحمد سليمان: 
والرابع الـمشهور سهلُ مـحمَّد                                                أضحى إمامًا عند كل موَّحدِاهـ
كان سهلُ بن مـحمد رَضِىَ الله عنه من الأشعرية، الأشعرية هم والـماتريدية أهل السنة والـجماعة فلا يتجاوز الـحق فِى الـمعتقدات هاتين الفرقتين لأن هذين الإمامين الأشعرىَّ والـماتريدِىَّ اعتنيا بتلخيص ما كان عليه السلف من الـمعتقد كما أنَّ كثيرًا من الأعلام فِى الـحديث والفقه والتقوى والورع كانوا من الأشاعرة يعرف ذلك من يعرف الـحقيقة ومن يـجهلها جهل ذلك.
الـمشبهة يعادون الأشعرية قديمًا وحديثًا لأن مشربهم بعيد عن مشرب الأشعريةِ، الأشعريةُ ينزّهون اللهَ عن مشابهة الـخلق بأىّ وجه من الوجوه أما الـمشبهة فأُشْرِبُوا حبَّ التشبيه، يقرأون قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾1 لفظًا ويـخالفونه معنـى. إنَّما ءَامَنَ بهذه الآية مَن نزّه الله عن مشابهة الـخلق بكل الوجوه كما قال أبو جعفر الطحاوىُّ ومَن وصف الله بـمعنـى من معانِـى البشر فقد كفر اهـ هؤلاء ءَامَنُوا بقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ أمَّا الذين يقولون إنَّ الله فِى جهة كذا ويعتقدون مُقْتَضَى ذلك فهؤلاء ما ءَامَنُوا بها كذلك الذين يقولون إنَّ الله استوى على عرشه بـمعنـى جَلَسَ ثم يُتْبِعُونَ ذلك بكلـمةِ لا كجلوسنا، هؤلاء لا ينفعهم قولهم لا كجلوسنا شيئًا، هم شبَّهوا بقولهم إنَّ الله جلس على العرش، هذا عين التشبيه، فبعد هذا لا ينفعهم قولهم لكن لا كجلوسنا لأنَّ الـجلوس فِى اللغة العربية معروف معلومٌ ما هو على اختلاف كيفياته. فالـجلوس معنًى من معانِى البشر على أىّ كيفية كان، ومن اعتقد فِى الله ذلك فقد شبّهه وينطبق عليه قول أبِى جعفر الطحاوىّ: "ومن وصف الله بـمعنـى من معانـى البشر فقد كفر".
أما الذين يقولون لله يد لا كأيدينا ويعنون بهذا الكلام أن لله يدًا بـمعنـى الصفة لا بـمعنـى الـجسم والـجارحة فهذا كلامٌ صحيـح لأن الله تعالى أضاف لنفسه اليدَ والعينَ والوجهَ إضافةَ صفاتٍ فمن اعتقد أن الله تبارك وتعالى منزّه عن الصورة والشكل والأعضاء فقال بناءً على هذا الاعتقاد لله يد لا كأيدينا لله عين لا كأعيننا لله وجه لا كوجوهنا فهو على صواب.
أما الرّجْلُ ما ورد على أنه صفة لله بل ورد على معنًى ءَاخَرَ وهو جزءٌ من خلقه، يُقال فِى لغة العرب  رِجلٌ من جراد أى فَوْجٌ من جراد، فالـحديث الذِى ورد فيه ذِكْرُ الرّجل مضافًا إلى الله، جاء فيه أنّ الله تبارك وتعالى يملأيوم الـقيامة جهنـم بفوج من خلقه كانوا من أهلها فِى عِلـم الله تعالى لأنّ أهل النار لا يدخلون النار دفعة واحدة كلهم، لا بل يدخل فوج ثم بعد ذلك فوج ثم بعد ذلك فوج فالفوج الأخير مِن خلقه الذين هم حِصَّةُ جهنـم عبَّر  عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلـم بقوله: "يُقال لجهنـم هل امتلأتِ فتقول هل مِن مَزِيد فيضعُ الـجبار رِجْلَهُ فيها فينزوِى بعضها إلى بعض فتقول قط قط"2اهـ رواه البخارىُّ. أى اكتفيتُ اكتفيتُ معناه وجدتُ مِلْئِى وجدتُ ما يملأنِى. فرِجْلهُ فِى هذا الـحديث معناه الفوج الأخير الذين يُقَدّمُهُمْ للنار، تقول العرب رِجْلٌ من جراد أى فوج من جراد. أما مَن تَوَهَّمَ مِن هذا الـحديث أن لله رِجلًا بـمعنـى عضو فهو كافرٌ مشبّهٌ لله بخلقه لا ينفعه انتسابه إلى الإسلام لأنّ مَنْ لـم يعرف الله لا تصح عبادته.
كذلك روايةُ الـقَدَم "فيضعُ فيها قدَمَهُ"3 اهـ معناه الشّىء الذِى يُقدّمُهُ الله لجهنـم. كذلك قال أئمة اللغة الـقدمُ ما قدّمه الله تعالى للنار ليس بـمعنـى أنّ له عضوًا فيقدم هذا العضو للنار أى يدخله فيها، تنزَّه ربنا عن أن يكون له عضو.
وقول أهل الـحق لله عين ليست كأعيننا معناه أنها صفةٌ. عينُ الله صفةٌ من صفاته كما يقال علـم الله قدرة الله، ليس بـمعنـى العضو والـجارحة. مَنْ حملهُ على معنـى الـجارحة فقد شبَّه الله بخلقه. ومن تـمويه هؤلاء الـمجسمة الـمشبهة أنهم يقولون لفظًا لله عينٌ لا كأعيننا ويدٌ لا كأيدينا ووجهٌ لا كوجوهنا ويعتقدون الـجوارح والأعضاء فِى الله، هؤلاء خالف كلامهم معتقدهم فلا ينفعهم قولهم هذا فلا يكونون مُنَزّهِينَ لله، بل هم مُشَبّهُونَ لله، فيدخلون تحت هذه الـجملة التِى نقلها أبو جعفر الطحاوىُّ رحمه الله عن أهل السنة والـجماعة الذين منهم أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف الـقاضِى يعقوب ابن إبراهيم الأنصارِىّ ومـحمد بن الـحسن الشيبانِىّ.
فالأشعريةُ مُعتقدُهُم معتقد السلف هو أن الله تعالى منزّه عن الـجوارح والأعضاء والـحدود والغايات والأركان.
وقد حدث فِى عصرنا هذا مؤلفاتٌ والعياذ بالله تَسُوقُ الناس إلى اعتقاد الـحدّ لله تعالى بالعبارة الصريـحة تنطق بأن لله تعالى حدًّا فمن لـم يؤمن أنَّ له حدًّا عندهم ليس مسلـمًا. إلى هذا الـحد توصلوا. والـحدُّ عن الله منفِى على لسان السلف كما أنه منفِى بقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لأن كل شَىْءٍ من الأجرام له حَدٌّ.
فالله تعالى لو كان له حَدٌّ لكان له أمثال لا تُحصر لكان العرشُ مِثلًا له ولكان الإنسانُ مِثلًا له وكذلك البهائم والأحجار والأشجار والأرض والسموات والنجوم والكواكب لأن كل هذه الأشياء لها حدٌّ فلو كان الله له حدٌّ لكان له أمثالٌ لا تُحْصَى ولا تُحْصَرُ ولا تُعَدُّ فيناقض ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾. هو الله تبارك وتعالى نَفِى عن نفسه أن يكون له مِثلٌ على الإطلاق لا مثلٌ واحدٌ ولا أمثال كثيرٌ. نَفِى عن نفسه ذلك على الإطلاق. هؤلاء لفساد أذهانهم يقيسون الـخالـق على الـمخلوق. على زعمهم الشَّىْءُ الـموجودُ لا بد له من حَدٍّ لذاته فقاسوا الـخالـق على الـمخلوق فجعلوا له حدًّا وهم فِى ذلك اقْتَدَوْا بأسلافهم كابن تيمية ومن كان على شاكلته وهو أى ابن تيمية اقتدى بـمن قبله من الـمجسمة الـمنتسبة للإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه.
الإمام أحمد نفْسُهُ نقلَ عنه أبو الفضل التـميمىُّ الذِى هو رئيس الـحنابلة ببغداد فِى كتابه الذِى سماه "اعتقاد الإمام الـمبجل أحمد بن حنبل" نقل عنه عبارةً صريـحة فِى نَفِى الـحدّ عن الله. هذا أبو الفضل التـميمىّ قبل ابن تيمية بزمان وهو من رؤوس الـحنابلة ومن كبارهم. لكن فِى عصر أبِى الفضل التـميمىّ وقبله بقليل وبعده كان أناسٌ ينتسبون للإمام أحمد بن حنبل ويـخالفونه فِى الـمعتقد. يُثبتون لله الـحَدَّ. ابن تيمية لحق هؤلاء لـم يلحق بأحمد ولا بالذين كانوا على طريقته بل انتسب انتسابًا إلى أحمد من غير موافقة له فِى الـمعتقد بل وفِى الأعمال. خالفه فِى أشياء كثيرةٍ فِى نحو ست وثلاثين مسئلة من جملتها إنكارُ التوسل برسول الله بعد موته بل وفِى حال حياته إلا أن يكون بـحضرته بأن يقول فِى حضور رسول الله فِى حياته قبل موته اللهم أسألك بـمـحمد أن تفعل بِى كذا وكذا هذا هو الـجائز عنده. عنده التوسلُ بالرسول صلى الله عليه وسلـم لا يـجوز إلا أن يتوسل الشخص به فِى وجهه فِى حياته بل يعتبر ذلك شركًا فخالف بهذا السلف والـخلف.
الإمام أحمد بن حنبل ثبت عنه أنه قال عند الـقحط وعند انقطاع الـمطر يَتوسلُ الداعِى الذِى يصلّى صلاة الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلـم. هذا نَصُّ أحمد. أحمدُ يرى هذا التوسل حسنًا وابنُ تيمية يراه حرامًا أو شركًا. انظروا إلى البُعد الذِى بين الرَّجلين. ومع هذا يقول ابنُ تيمية عن الإمام أحمد من باب الاعتزاز به لأنه معروف بالعلـم والورع والزهد والـحديث يقول عنه: إمامُ هدى، وهو حقًّا إمامُ هُدًى، لكن ابن تيمية لـم يتبعه إنـما انتسب إليه انتسابًا. الإمامُ أحمد يقول: "مطلوب شرعًا عند الـقحط أن يتوسل الداعِى الـمستسقِى أى الذِى يطلب من الله الـمطر بالرسول" هكذا كلام أحمد ثم جاء ابن تيمية بعده بقرون فخالفه وهو ينتسب إليه انتسابًا و يعتزّ به يقول إمامنا، وهذا من جملة تـمويهات ابن تيمية أنه يقول عن أحمد بن حنبل إمامنا. إن كان أحمد بن حنبل إمامَهُ وهو تابع له لـماذا يُحَرّمُ أو يَجْعَلُ شركًا أمرًا اعتبره أحمد بن حنبل سُنة.
كذلك أحمد بن حنبل يَعتبر من حلف برسول الله فحَنِثَ أنَّ عليه كفارةً كما أن الذِى يـحلف بالله ثم يـحنَث عليه كفارةٌ، أما ابن تيمية يـجعل الـحلف بغير الله شركًا مطلقًا كالذِى يـحلف بغير الله وهو يعظمه كتعظيم الله. هذا الأخير أى الـحلف بغير الله مع تعظيمه كتعظيم الله هو الـمراد بـحديث: "من حلف بغير الله فقد أشرك" اهـ4
 أى من حلف بغير الله معظّمًا له كتعظيم الله فقد أشرك. أما الذِى يـحلف بغير الله على غير ذلك الوجه فليس حرامًا فضلًا عن أن يكون إشراكًا. هذا مع أنَّ الـمعروف فِى مذهب الإمام أحمد بن حنبل أن الـحلف بغير الله حرام لكنه مع ذلك جعل الـحلف بالرسول مُثْبِتًا للكفارة عند الـحِنْث.
أما أبو حنيفة رحمه الله فهو كان يَكْرَهُ أن يُقال أسألك بـحَقّ فلان، يقول اللهُ ليس لأحدٍ عليه حق أى أمر يَلْزَمُهُ وهو مجبور عليه، والأمر كذلك الله تعالى ليس عليه لأحد مِن خَلْقِهِ دَيْنٌ ولا حَقٌّ يَلْزَمُهُ يكون هو إن تركه ظالـمًا، الله منزه عن ذلك، إنـما الله تبارك وتعالى تفضل على عباده الـمؤمنين بأن يكرمهم إنْ هم أَدَّوْا ما عليهم وسمَّى ذلك فِى بعض الـمواضع حقًّا، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ5 أى أننا نتفضل ونتكرم عليهم ليس الـمعنـى أنه فرض على الله، لا شىْء واجبٌ على الله فرضٌ. فإذًا يرجع كلام أبِى حنيفة فِى كراهيته لقول الرجل أسألك بـحق فلان أن هذه العبارة بخصوصها توهم أنَّ على الله حقًّا لازمًا لغيره لا لأنه يمنع التوسل بأهل الفضل على الإطلاق. ثم غير أبِى حنيفة يرى أن هذه العبارة لا تُوهم ذلك إنـما معناها أسألك بـما لفلان عندك من الفضل والكرامة أن تعطينا كذا وكذا، فالـقول الصحيـح الراجح هو أنه لا بأس بأن يقول الـمسلـم اللهم إنـى أسألك بـحقّ مـحمد أو بـحقّ إبراهيم أو بـحقّ موسى أو بـحقّ علىّ بن أبِى طالب أو بـحقّ أبِى بكر أو نحوَ ذلك، هذا هو الـقول الصحيـح الراجح، أما أبو حنيفة فرأيه أن قول اللهم أنِى أسألك بـحق فلان يوهم أنّ على الله حقًّا لازمًا له لغيره من عباده ومن هنا كان يتحاشَى هذه العبارة ويكرهها لكنها فِى الـحقيقة ليست كذلك لأنه لا يُفهم منها عند الـمسلـمين فِى أدعيتهم ذلك الـمعنـى الذِى حَذِرَهُ أبو حنيفة رحمه الله إنـما يُفهم منها أنَّ هذا سؤالٌ لله تبارك وتعالى بـما لفلان من عباده الصالـحين عنده من الكرامة والدرجة.
ولـم يكن بين الـمسلـمين إنكارٌ للتوسل بالرسول فِى حضوره وفِى غير حضوره فِى حياته وبعد وفاته. الـمسلـمون مجمعون على جواز ذلك، وعلى هذا كان أصحاب رسول الله.
كان الرسول ذات يوم جالسًا مع جمع من أصحابه فجاءه رجل أعمى فقال يا رسول الله أدعُ اللهَ لِى أن يكشف عن بَصَرِى قال: "إنْ شئتَ صبرتَ وإنْ شئتَ دعوتُ لك" قال إنه شق علىَّ ذهاب بصرِى وليس لِى قائدٌ قال له: "ائتِ الـمِيضَأَةَ" (أى مـحل الوضوء) "فتوضأ وصلّ ركعتين ثم قل اللَّهم إنّى أسألك وَأَتَوَجَّهُ إليك بنبيك مـحمَّد نَبِىّ الرحمة يا مـحمدُ إنّى أتوجه بك إلى رَبّى فِى حاجتى هذه لِتَقْضِيَها"6
فذهب الرجل ففعل ذلك أى خرج من عند الرسول فتوضأ وصلَّى ركعتين ثم قال هذه الكلـمات مِنَ التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلـم أى من سؤال الله تعالى برسوله مـحمَّد صلى الله عليه وسلـم فَفُتِحَ بَصَرُهُ فعاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلـم وهو لـم يفارق مجلسه، يقول رَاوِى الـحديث عثمانُ بن حُنَيْف الذِى كان مع الرسول صلى الله عليه وسلـم عندما سأل هذا الأعمى قال: "فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الـمجلس حتى دخل علينا الرجل وقد أبصر"7 اهـ الـمعنـى ظاهرٌ أن هذا الرجل ما قال هذه الكلـمات فِى وجه رسول الله بل تغيب عنه فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم دخل. وهذا ينقض كلام ابن تيمية بأنه لا يـجوز التوسل إلا بالـحىّ الـحاضر.
ثم هذا الصحابِىُّ عثمان بن حُنيف بعد وفاة الرسول عَلَّمَ رجلًا كانت له حاجة عند عثمانَ بنِ عفانَ أن يتوسل بهذا التوسل ففعل الرجل فَقَضَى له عثمان حاجته. قبل أن يفعل هذا كان عثمان من شدّة شغل بالـه كان يَنْسَى ما كان يلتفت إليه لكن ببركة هذا التوسل بالرسول حَرَّكَ اللهُ عثمان بن عفان فقضى له حاجته، اعتنـى به، اللهُ تعالى جعل قلبه يعطف على هذا الرجل فقضى له حاجته.
وهذا الـحديث صحيـح عند أهل الـحديث لكنّ مُنَاصِرِى ابن تيمية فِى عمًى عن هذا الفهم.
نعود إلى قول الإمام أبِى الطيب سهل بن مـحمَّد رضى الله عنه: "أعمالنا أعلام الثواب والعقاب"8اهـ

     أعلام جمع عَلَم أى علامة يعنـى أنَّ أعمالنا التِى نعملها من حسنات وسيئات أى من طاعات وقُرُبَات لله تعالى ومن معاصٍ بـما فيها من الكفر أعلامٌ أىْ علاماتٌ للثواب والعقاب وذلك بـما أنه ثبت عند أهل الـحق أن الله تبارك وتعالى شاءَ وعَلِمَ وقدَّر ما يفعل العباد، فَمَن عَلِمَ اللهُ تعالى وشاء أن يكون طائعًا له فلا بُدَّ أن يكون كذلك ومن علـم الله وشاء أن يكون عاصيًا له فلا بد أن يكون كذلك.
فإذًا الأعمالُ أى الطاعاتُ التِى نفعلها والـمعاصِى التِى يفعلُها العبادُ علاماتٌ على أنَّ هذا يُثاب بالنعيم الـمقيم وهذا يُجازَى بالعذاب الـمقيم، فالثواب فضلٌ من الله والعقابُ عدلٌ منه ليس ظلـمًا. وإنـما قلنا إن هذه علامات لأن أعمال العباد هذه ليست بخلقهم بل بخلق الله، الله يـخلقها فيهم، فالـمؤمنون إيمانهم وطاعتهم بخلق الله فيهم، لـم يـخلق أحد منهم شيئًا من ذلك، والكافرون والعصاة لـم يـخلقوا شيئًا من ذنوبهم مِن كُفْرٍ ومعاصٍ دون الكفر بل الله خالـق ذلك كله. فإذًا هذه الأعمالُ علاماتٌ لكون هذا الفريق من أهل النعيم الـمقيم حيث تفضل عليه بأن وفقه للأعمال الصالـحة أىْ للإيمان وما يتبعه وهو حصل للعباد بخلقه فالله تعالى هو الذِى ألهم الطائعين الطاعات فعملوها فإذًا هم ليسوا مستوجبين على الله تعالى من باب الإيـجاب اللُّزومِىّ أن يعطيهم ذلك الثواب بل هو متفضل عليهم بالثواب، كما أنه متفضل عليهم فِى الدنيا بخلق تلك الـحسنات فيهم فله الفضل على عباده الـمؤمنين فِى الدنيا والآخرة، فِى الدنيا وفقهم وألهمهم هذه الطاعات وخلقها فيهم وفِى الآخرة ءَاتَاهُمْ فضلًا منه الثوابَ الـجزيلَ، النعيمَ الـمقيم الذِى لا ينفد ولا ينقطع مع كونه ليس ملزمًا بأن يعطيهم الثواب على عملٍ هو خلقه فيهم.
وكذلك إذا عاقب أولئك العصاة على تلك الأعمال من كفر وما دونه فِى الآخرة لا يكون ظالـمًا لهم، لا يُقال جارَ اللهُ عليهم لأن الله تبارك وتعالى تصرف فِى خلقه الذِى هو ملكه. اللهُ مالكٌ حقيقىٌّ للعباد فأنـى يكون ذلك ظلـمًا وجورًا.
فهذا معنـى قول أبِى الطيب سهل بن مـحمد "أعمالنا أعلام الثواب والعقاب" والـحمد لله رب العالـمين.
انتهى والله سبـحانه وتعالى أعلـم.
------------------

1- سورة الشورى/الآية 11.
2- رواه البخاري في صحيحه باب قوله: {وَتَقُولُ هلْ مِن مَّزيدٍ (20)}.
3- رواه البخاري في صحيحه باب قوله: {وَتَقُولُ هلْ مِن مَّزيدٍ (20)}.
4- رواه أبو داود فِى مسنده باب ذِكْرِ الزَّجْرِ عن أن يَحْلِفَ المَرْءُ بِشَئٍ سوى اللهِ جلَّ وعَلَا..
5- سورة الروم/الآية (47).
6- رواه الطبراني فِى معجمبه الأكبر والأوسط.
7- رواه الطبراني في معجمه الأكبر والأوسط باب ما أسْنَدَ عثمان بنُ حُنَيْف.
8- رواه البيهقي في الاعتقاد والهداية عن ابن الطيب سهل بن محمَّد باب القول في خلق الأفعال، وفي القضاء والقدر باب ذكر البيان أن ليس أحد من بني ءادم إلَّا وقد كتِبَ سعادَتُهُ وشَقاوَتُهُ.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2