من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 الغيبة الـمـحرمة

الدرس الثالث والعشرون
الغيبة الـمـحرمة

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
    درس ألقاه الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرِىّ رحمه الله تعالى وهو فِى بيان الغيبةِ الـمـحرمةِ والتحذير الواجب.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الـحمد لله رب العالـمين وصلى الله وسلـم على سيِّدنا مـحمَّد وعلى ءالـه وصحبه.
أما بعد فإن من الأمور الـمهمة معرفةَ تعريف الغيبةِ أى ما هِىَ الغيبة التِى حرمها الله تعالى، فالغيبةُ التِى حرَّمها الله تعالى فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلـم فقال عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه: "أتدرون ما الغيبة" قالوا الله ورسوله أعلـم قال: "الغيبةُ ذكرُك أخاك بـما يكره" قيل أرأيتَ يا رسول الله إن كان فِى أخِى ما أقول قال: "إن كان فيه فقد اغتبته وإن لـم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ"1 اهـ الـمعنـى أنّ ذِكْرَ الـمسلـمِ أىْ فِى خلفه بـما يكره غيبةٌ حرَّمها الله تعالى بقوله: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا2 هذه الغيبة التِى نهانا الله عنها فسرها الرسول صلى الله عليه وسلـم بقوله: "ذكرك أخاك بـما يكره" اهـ هذه الكلـمة الـموجزة التِى قالـها رسول الله صلى الله عليه وسلـم تشمل أشياءَ كثيرةً فَذِكْرُ الـمسلـمِ فِى خَلْفِهِ بـما كان يَكْرَهُهُ لو سمعه هو الغيبة الـمـحرمة.
ثم الغيبة منها ما هو من الكبائر ومنها ما هو من صغائر الذنوبِ غيبةُ الـمسلـم التقِىّ الدَّيّن من الكبائر أما غيبة الـمسلـم الفاسق فليست من الكبائر. هِىَ حرامٌ لكنها ليست من الكبائر بل من الصغائر.
ثم هذه الغيبة كما تحصل بالنطق للعبارة تحصل بالكتابة فإذا إنسان كتب عن شخص مسلـم إن فلانًا كذا مما يَكْرَهُ وَوَصَفَهُ بـما يكرهُ ذلك الـمسلـمُ هذا أيضًا حكمُه كأنه ذكره بلسانه واغتابه بلسانه لأنَّ الـقلـمَ قيل عنه الـقلـمُ أحدُ اللسانين.
هذا إذا اغتابه بـما فيه يكون غيبةً أما إذا اغتابه بـما ليس فيه يكون بهتانًا وهو أعظم ذنبًا وأشد إثمًا. بعض الناس من جهلهم إذا اغتابوا إنسانًا فِى خلفه فذكروه بـما يَكره وقيل لهم الغيبةُ حرامٌ يقولون أنا أقول هذا فِى وجهه فنحن نقول لو قلتَ له فِى وجهه لا يكونُ ذلك حلالًا لأن إيذاءَ الـمسلـم حرامٌ إلا لأسباب شرعية.
ومن الأسباب الشرعية التِى تجعل الغيبةَ جائزةً التحذير فإذا أردنا أن نحذرَ شخصًا مسلـمًا أو جماعةً مسلـمين من شخص غشاش فِى تجارته يبيع بضائع فيها عيب ولا يذكر العيب الذِى فيها فهذا إذا ذكرناه بـما فيه فقلنا فلانٌ يغش الناس فِى بيعه يكون لنا ثوابٌ ولا يكون علينا ذنبٌ. كذلك إذا علـمنا أنَّ إنسانًا يعمل أجيرًا عند ءَاخَر ونحن نعلـم فيه خيانةً فِى عمله فإذا قلنا لصاحب العمل فلانٌ احْذَرْهُ فلانٌ خائنٌ لنا ثواب وما علينا ذنب ولو كان هذا الشخص يكره لو وقعت هذه الكلـمة فِى أذنه فنحن لنا ثواب لأننا عملنا بالواجب، تحذيرُ الـمسلـم مما يضرُّه واجبٌ ما فيه ذنبٌ ليس هذا غيبةً مـحرمةً، الغيبةُ الـمـحرمة هِىَ التِى تكون لغير سبب شرعِىّ. بعضُ الـجهال إذا أراد شخصٌ أن يـحذّرَ من أحد التجار الغشاشين أو أحد العمال الـخائنين يقولون كيف نقطع الرزق على مخلوق اهـ الرزاق موجودٌ، صاحب العمل الله يرزقه والعامل الله يرزقه. كلٌّ فِى هذه الدنيا يأكل ما كتبَ اللهُ له أن يأكلَ ويتركُ ما سوى ذلك لغيره. الذِى يعرف شريعة الله لا يقول هذا قطعُ رزقٍ كيف أتكلـم على هذا الأجير الفقير فأقول لصاحب العمل عنه هذا خائن احذره. نحن نقول لصاحب العمل هذا أجيرُك خائنٌ نقول له هذا ليـحذرَه ثم إن لـم يكن هو يصرفه عن العمل بل يرضى به مع خيانته فهو وشأنه. هذا الذِى حَذَّرَهُ كَسِبَ أجرًا عند الله وغضب ذلك الأجير لا يضره عند الله بل له ثواب لأنه أدى الذِى عليه.
فالـمسلـم عليه أن يـحذّر الـمسلـم ممن يضرُّه فِى دنياه وبالأولى أن يـحذره ممن يضره فِى دينه. هذا أوجبُ وأفرضُ وأكثرُ ثوابًا فالتحذيرُ ممن يـحرف شريعةَ اللهِ فرضٌ مؤكدٌ كأن يقول للشخص فلانٌ ليس بأهلٍ للتدريس لا تأخذ منه ولا تذهب لدرسه، فرضٌ أن يـحذره فمن لـم يفعل وترك الناس يذهبون إلى ذلك الشخص ويتعلـمون منه ما هو غيرُ صحيـحٍ فِى دين الله بل هو افتراء على دين الله وهم لا يعلـمون ذلك فقد غَشَّهُمْ. أما إذا حذَّرَ فيأخذ الأجر من الله تعالى لأن الله فرض علينا أن نحذر الـمسلـمين ممن يضرهم فِى دينهم ولا يقال هذا عالـم كيف يُتَكَلَّمُ فيه لا بل نتكلـم فيه وإن كان بـحسب الظاهر فيما يبدو لبعض الناس عالـمًا لكن نحن إذا تحققنا أنه ليس بأهل للتدريس وأنه يُحَرّفُ شريعةَ الله فرضٌ علينا أن نحذر منه من غير نظرٍ إلى رضى الناس أو غضبهم، يُحَذَّرُ منه رَضِىَ من رَضِىَ وكَرِهَ من كره، نحن علينا البيان والأجر من الله تعالى والضَّارُ النافعُ هو الله تعالى لا أحدَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ على الـحقيقة سواه. أليسَ ثبت أنّ النارَ لا تخلقُ الإحراقَ والـماءَ لا يـخلقُ الرّىَّ والـخبزَ لا يـخلقُ الشبعَ والدواءَ لا يـخلقُ العافيةَ والشفاءَ فكذلك سائرُ الـمخلوقات لا يَضُرُّون بدون مشيئة اللهِ ولا ينفعون بدون مشيئةِ الله، نحن علينا أن نفعلَ ما أمرنا الله به سواءٌ رَضِىَ الناسُ عنا أم لـم يرضَوا وعلينا أن نَنْتَهِىَ عما حرم الله علينا رضِىَ من رضِىَ مِن الناسِ أو كَرِهَ مَنْ كره مِن الناسِ.
ومن جملة ما يدخلُ فِى باب التحذير أننا إن علـمنا فلانًا يريد أن يصادقَ فلانًا أو علـمنا أن فلانةً تريد أن تصادق فلانة فرضٌ علينا أن نحذر إن كان فِى الشخص الآخرِ ما يستوجب التحذير فمن لـم يـحذّر وسكت وقال لـماذا أجعل هذا يتغير خاطرُه عَلَىَّ فهو عند الله تعالى مَوْزُورٌ يستحق العذاب أما الذِى حذّر فهو مأجورٌ عند الله.
كثيرٌ من الضلال يأتِى من طريق الصحبة فالشاب قد يكون بـحالة حسنة ثم إذا به انقلب فيصير بعيدًا عن طاعة الله تعالى والسببُ فِى ذلك فِى كثير من الأحيان أنه التقى بشخصٍ فاسدٍ فصحِبَهُ فأفسده. كم وكم من الناس كانوا يُصَلُّونَ ويقيمون الصلاة ويؤمنون بالله ورسوله ثم طرأ عليهم أن صادقوا وصاحبوا شخصًا ملحدًا فصاروا كافرين بعد أن كانوا مسلـمين مؤمنين انقلبوا كافرين بسبب إفساد ذلك الشخصِ الذِى صاحبَه. فيـجب وجوبًا مؤكدًا التحذيرُ من كُلّ إنسان يضرُّ الـمسلـم فِى دنياه وكذلك التحذير من الذِى يضر الـمسلـم فِى دينه بطريق الأَوْلى. التحذير من الفريقين فرضٌ مؤكد. اللهم علـمنا ما ينفعنا وانفعنا بـما علـمتنا وزدنا علـمًا إنك أنت العليم الـحكيم.
          انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه مسلـم فِى صحيحه باب تحريم الغيبة.
2- سورة الحجرات/الآية (12).


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2