من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 تقدير الله لا يتغير

الدرس السادس والأربعون
تقدير الله لا يتغير

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
   درس ألقاه الـمـحدث الشيـخ الأصولِىّ عبد الله بن مـحمَّد الـهررى رحمه الله تعالى وهو فِى بيان معرفة أن تقدير الله لا يتغير.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
    الـحمد لله ربِّ العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن صلوات الله البرِّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وحبيب رب العالـمين وعلى جميع إخوانه من النبيين والـمرسلين وءال كلٍّ والصالـحين وسلام الله عليهم أجمعين.
أما بعد فإن بعض الـجهال يعترضون على قول عامَّةِ الناسِ اللهم إنا لا نسألك ردَّ الـقضاءِ ولكن نسألك اللطف فيه، يقولون هذا معارض للحديث الـحسن الذِى رواه الترمذىّ فِى سننه: "لا يَرُدُّ الـقضاءَ إلَّا الدعاءُ"1 اهـ يقولون كيف لا ندعو الله بِرَدّ الـقضاء والرسول صلى الله عليه وسلـم أخبر بأنه يُرَدُّ.
الـجوابُ: أن يُقال لهم يوجد قضاءان قضاء مبـرم وقضاء معلَّق فالـقضاء الـمبـرم لا يَرُدُّهُ شىءٌ لا دعوةُ داعٍ ولا صدقةُ متصدق ولا صلة رحم، والـقضاءُ الـمعلَّقُ معناه أنه معلق فِى صحف الـملائكة التِى نقلوها من اللوح الـمـحفوظ فيكون مكتوبًا عندهم
 مثلًا فلانٌ إنْ دعا بكذا يُعْطَى كذا وإن لـم يفعل لا يُعْطَى وهم لا يعلـمون ماذا سيكون منه فإن دعا حصل ذلك ويكون دعاؤه رَدَّ الـقضاءَ الثانِىَ الـمعلقَ. هذا معنـى الـقضاء الـمعلق أو الـقدر الـمعلق، وليس معناه أن تقدير الله الأزلىّ الذِى هو صفتُهُ معلقٌ على فعل هذا الشخص أو دعائه فالله يعلـم كل شىء بعلـمه الأزلىّ يعلـمُ أىَّ الأمرين سيـختار هذا الشخص وما الذِى سيصيبه وكتب ذلك فِى اللوح الـمـحفوظ أيضًا وعلى مثل هذا يُحمل الـحديثُ الذِى رواه البيهقىّ فِى كتاب "الـقضاء والـقدر" عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: "لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِن قَدَر ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ يمـحو بالدعاء ما شاء من الـقدر" اهـ فقوله: لا ينفع حذر من قدر معناه فِى ما كتب من الـقضاء الـمـحتوم وقوله ولكن الله عزَّ وجلَّ يمـحو بالدعاء ما شاء من الـقدر معناه الـمقدور الـمعلق. ويدلَّ على ذلك ما ورد فِى حديث مسلـم2 أن الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام قال: "سألتُ رَبِىّ لِأُمَّتِى ثلاثًا فأعطانـى ثنتين وَمَنَعَنِى واحدةً سألتُهُ ألَّا يُهْلِكَ أُمَّتِى بالسَّنَةِ (الـمجاعة) العامةِ فأعطانيها وسألتُهُ ألَّا يُسَلّطَ عليهم عَدُوًّا مِن غيرِهِمْ فَيَسْتَأْصِلَهُمْ فأعطانيها وسألتُهُ ألَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا وقال يا مـحمَّدُ إنّى إذا قَضَيْتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ" اهـ والكلام فِى هذا الـحديث على الـقضاء الـمبرم وعلى كل حالٍ مشيئة الله وتقديرُهُ وعلـمه لا يتغير.
    قال الغزالِىُّ فِى الإحياء: فإن قلتَ فما فائدةُ الدعاءِ والـقضاءُ لا يُرَدُّ فالـجواب: "أنّ مِن الـقضاء رَدُّ البلاء بالدعاء فالدعاءُ سببٌ لردّ البلاء واستجلاب الرَّحمة كما أن الترس سببٌ لرد السهم والـماء سبب خروج النبات" اهـ
وخرّج الترمذى فِى جامعه عن أبى خزامة (واسمه رفاعة) عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلـم فقلت يا رسول الله أرأيتَ رُقًى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاةً نَتَّقِيهَا هل تَرُدُّ مِن قَدَرِ الله شيئًا قال عليه الصلاة والسلام: "هى مِن قَدَرِ اللهِ"3اهـ قال أبو عيسى أى الترمذىّ: "هذا حديث حسن" وفِى بعض نسخه "حسن صحيـح" اهـ
ثم تأمَّل جوابَ عمر الفاروق رضى الله عنه لأبِى عُبَيْدَةَ حين هَمَّ بالرجوع عن الدخول على أرض بها الطاعون وهى الشام فقد روى البخارىُّ فِى صحيـحه أن عمر بن الـخطاب رضى الله عنه رد على سؤال أبِى عُبيدة رضى الله عنه أفِرارًا مِن قَدَرِ الله فأجابه عمر: "نعم نَفِرُّ مِن قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله" أى إذا خرجنا من هذه الأرض إلى أرض أخرى كل ذلك يكون بتقدير الله ولا يكون ذلك منافيًا للتوكل، وذلك فِى الوقعة الـمعروفة بطاعون عمواس الذِى أتى على كثير من جلة الصحابة وخيرة الفاتحين فكانوا شهداء الطاعون.
    فائدة: فالـمسلـم عندما يدعو الله تعالى يعتقد جزمًا أن دعاءه لا يغير مشيئة الله تعالى لكن الدعاء بخير عبادةٌ. الرسولُ صلى الله عليه وسلـم قال فِى ما رواه الترمذىّ فِى سننه: "الدعاء مُخُّ العِبَادَةِ"4 اهـ والعبادة هنا معناها الـحسنات فنحن عندما ندعو بدعاء حسن يكون اعتقادنا أن هذا الدعاء فيه أجرٌ  وقد يدفع الله عَنَّا شيئًا من البلاء بسببه وإن شاء الله تعالى فِى الأزل أن يُستجاب
ومعنـى قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ5 أطيعونـى أثبكم. ومعنـى قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ6 ما قالـه الرسول صلى الله عليه وسلـم: "يَغْفِرُ ذنبًا ويُفرج كَرْبًا ويَرْفَعُ قومًا ويضع ءاخرِينَ"7" اهـ رواه ابن حبان فِى صحيـحه وليس معناه أنَّ الله يغير مشيئته. ويوافق هذا قولُ الناس: "سبـحان الذِى يغير ولا يتغير" وهو كلام جميلٌ إذ التغير مـحلُّهُ فِى الـمخلوقات وليس فِى الله وصفاته فيكون معنـى الآية أن الله يُغَيّرُ فِى خلقه ما شاء.
ومعنـى قوله تعالى: ﴿اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ8 أثيب الطائع على طاعته الـموافقة للشرع.
وأما قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآء وَيُثْبِتُ9 فليس معناه الـمـحو والإثبات فِى تقدير الله إنـما فسره الإمامُ الشافعىُّ رضِىَ الله عنه بالناسخ والـمنسوخ كما جاء فِى كتاب الـقضاء والـقدر للبيهقىّ، أى أن الله يمـحو ما يشاء من الـقرءان أى يرفع حكمه وينسخه بـحكم لاحق ويُثْبِتُ ما يشاء مِن الـقرءان فلا ينسخه وما يُبَدَّلُ وما يُثْبَتُ كل ذلك فِى أم الكتاب وهو اللوح الـمـحفوظ فهو مشتـمل على الـممـحو والـمثبت وهذا فِى حياة الرسول صلى الله عليه وسلـم أما بعد وفاته فلا نسخ. قال الـحافظ البيهقىّ فِى كتاب "الـقضاء والـقدر" "هذا أصح ما قيل فِى تأويل هذه الآية" اهـ
فيعلـم مما تقدم أن قول العوام اللهم إنا لا نسألك رَدَّ الـقضاء راجعٌ إلى الـقضاء الـمبرم لا الـمعلق فلا تعارض بين هذا وبين الـحديث. والـحمد لله رب العالـمين.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه الترمذي في سننه باب ما جاء لا يرد القدر إلَّا الدعاء.
2- رواه المسلم في صحيحه باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.
3- رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في الرقى والأدوية.
4- رواه الترمذى باب ما جاء في فضل الدعاء.
5- سورة غافر/ الآية (60).
6- سورة الرَّحمن/ الآية (29).
7- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر الإخبار بأنَّ أسباب هذِهِ الفانِيَةِ الزَّائِلَةِ يَجْرِى عَلَيْهَا التَّغَيُّرُ والانْتِقَالُ فِى الحَالِ بعد الحَالِ.
8- سورة البقرة/ الآية (186).
9- سورة الرعد/ الآية (39).


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2