من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 بيان أن حديث الأعمى صحيـح الـمرفوع منه والـموقوف

الدرس الواحد والأربعون
بيان أن حديث الأعمى صحيـح الـمرفوع منه والـموقوف

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
    درسٌ ألقاهُ الـمـحدثُ الشيـخُ عبدُ اللهِ بنُ مـحمَّدٍ الـهررىُّ رحمهُ اللهُ فِى الـمركزِ الإسلامىّ فِى لُوزان فِى سويسرة فِى النّصفِ الثّانـى مِن شَهرِ جُمادى الأولى سنة ثمان وأربعمائة وألف من الهجرة الـموافقِ للعَاشرِ مِن كانون الثّانـى عامَ ثمانِيةٍ وثَمانينَ وتِسعمائةٍ وألفٍ ر وهوَ فِى بَيانِ حَقيقةِ التّوسّلِ.
قالَ رحمهُ اللهُ تَعالى رحمةً واسعةً:
الـحمدُ للهِ ربّ العالـمينَ لهُ النّعمةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الـحسنُ وصَلواتُ اللهِ البَرّ الرّحيمِ والـملائكةِ الـمقرّبينَ على سيّدنا مـحمَّدٍ أشرفِ الـمرسلينَ وعَلى جميعِ إخوانهِ منَ النّبيينَ والـمرسلينَ. اللهم علّمنا ما جَهِلنا وذكّرنا مَا نَسِينا وانفَعْنا بـما علَّمتَنا وزِدنا عِلـمًا ونَعوذُ بكَ مِن حَالِ أهلِ النّارِ.
أمّا بعدُ فقَد رُوّينا فِى مُعجَمِ الطّبرانـىّ الصّغيرِ وفِى معجمهِ الكَبيرِ بالإسنادِ الـمتّصلِ مِن حَديثِ عثمانَ بنِ حُنيفٍ رضىَ اللهُ عنهُ قالَ: جاءَ أعمى إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليهِ وسلّمَ فقالَ: يا رسولَ اللهِ ادعُ اللهَ لِى أنْ يَرُدَّ علىَّ بَصَرِى قالَ: "إنْ شئتَ صَبرتَ وإنْ شئتَ دعوتُ لكَ" قالَ: إنهُ شَقَّ علىَّ ذهابُ بَصَرِى وليسَ لِى قائدٌ فقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ "ائتِ الـمِيضَأَةَ وتوضّأْ وصَلّ ركعتينِ ثمَّ قلِ اللهم إنّى أسألُكَ وأتوجّهُ إليكَ بنبيّنا مـحمّدٍ نبىّ الرّحمةِ يا مـحمّدُ إنّى أتوجّهُ بكَ إلى رَبّى فِى حاجَتى وَتُسَمّى حَاجَتَكَ لتُقضَى لِى"1اهـ ثمَّ جاءَ رجلٌ إلى عثمانَ بنِ حُنَيفٍ فَشَكا لهُ أنَّ عثمانَ بنَ عفّانَ ذهبَ إليهِ بـحاجةٍ لهُ فلَم يلتفتْ إليهِ فقالَ لهُ عثمانُ ابنُ حُنَيفٍ رضىَ اللهُ عنهُ: "ائتِ الـمِيضَأَةَ وتوضَّأْ وصلّ رَكعتينِ وقلِ اللهم إنـى أسألُكَ وأتوجّهُ إليكَ بنبيّنا مـحمّدٍ نبىّ الرَّحمةِ يا مـحمّدُ إنّى أتوجَّهُ بكَ إلى رَبّى فِى حَاجتِى وتُسمّى حاجتَكَ لِتُقضَى لِى، ورُحْ إليهِ حتّى أروحَ معكَ فذهبَ الرّجلُ إلى عثمانَ بنِ عفّانَ فأخذَ البوّابُ بيَدهِ وأجلسَهُ على طِنْفِسَةِ عثمانَ فقالَ لهُ عثمانُ: مَا ذكرتُ حاجَتَكَ حَتى كانَت هذهِ السّاعةُ وقَضَى لهُ حاجتَهُ وقالَ: ما كانَ لكَ مِن حاجَةٍ فَأْتنا" اهـ قالَ الطّبرانـىُّ رحمهُ اللهُ والـحديثُ صَحيـحٌ وذلكَ بَعدَ أنْ أورَدَ طُرقَ الـحديثِ أىْ تَعَدُّدَ أسانيدِهِ. وقَولُ الطّبرانـىّ: "والـحديثُ صَحيـحٌ" يَعْنِى بهِ الـمرفوعَ والـموقوفَ لأنَّ كلًّا منَ الـمرفوعِ والـموقوفِ فِى اصطلاحِ أهلِ الـحديثِ يُسَمَّى حديثًا. الـمرفوعُ يُسمّى حَديثًا والـموقوفُ يُسَمَّى حَديثًا. هذا الـحديثُ رَواهُ عِدّةٌ منَ الـمـحدّثينَ مِن أصحابِ الكتُبِ الـمشهورَةِ كالتّرمذىّ وابنِ ماجَهْ والبَيهقىّ وغيرِهم
 لكنْ بعضُ هؤلاءِ الذينَ خرَّجوا هذا الـحديثَ فِى تآليفِهم اقتَصَروا على الـقَدْرِ الذِى هوَ مرفوعٌ أىْ على الـقِصَّةِ التِى هِىَ مَرفوعةٌ أىْ مَجِىءِ الأعمَى إلى النَّبىّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، اقتَصَرُوا على هذا الـقَدْرِ، وأمّا قِصّةُ الرّجلِ الذِى كانَت لهُ حاجةٌ إلى عثمانَ بنِ عفَّانَ فكانَ عثمانُ لا يلتفتُ إليهِ أىْ لشغلِ بَالـهِ فرَواها بعضُهُم والإسنادُ واحدٌ إسنادُ الـمرفوعِ وإسنادُ الـموقوفِ أىْ قصّةُ الرّجلِ الذِى كانَت لهُ حاجةٌ إلى عثمانَ أُورِدَتْ معَ الـمرفوعَةِ مِن طريقٍ واحدٍ.
وفِى هذا الـحديثِ دَليلٌ على أنَّ التَّوسّلَ بالنّبىّ فِى حَياتهِ أىْ قبلَ مماتهِ وبعدَ مماتهِ جائزٌ. لَا فرقَ فِى الـجوازِ بينَ ما قبلَ وَفاتهِ وما بعدَ وفاتهِ، لَا فرقَ، كِلا الأمرَينِ جائزٌ وفيهِ ثوابٌ. وَلَمَّا كانَ أتباعُ ابنِ تيميةَ مُتـمسّكينَ بالـقَاعدةِ التِى هوَ أحدَثها مِن غَيرِ دليلٍ شَرعىّ بَل برَأيهِ الذِى استَحْسَنَتْهُ نفسُهُ مِن غَيرِ أنْ يَستنِدَ إلى دَليلٍ وهىَ قولهُ لَا يـجوزُ التّوسّلُ إلا بالـحىّ الـحاضر، هذهِ قاعدةُ ابنِ تيميةَ التِى وَضَعَها وليسَ لها مُستندٌ فِى دينِ اللهِ، لَمَّا كانَ أتباعُ ابنِ تيميةَ مُتَشَبّثينَ بذلكَ أىْ برَأىِ ابنِ تيميةَ أنه لا يـجوز التوسل إلا بالـحىّ الـحاضر قالَ أحدُ كبارِهم وهوَ ناصر الدين الألبانـىُّ الصّحيـحُ مِن هذا الـحديثِ الـجزءُ الأولُ وهوَ قصّةُ الرجل الأعمى الذِى جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلـم أما قصة الرجل الذِى كانت له حاجة إلى عثمان بن عفان فهذه منكرة أى غير صحيـحة اهـ
قولُ ناصر الألبانـىّ هذا تَقَوُّلٌ بلَا دليلٍ كما أنّ ابنَ تيميةَ تقوَّلَ فِى دينِ اللهِ برَأيهِ بلَا دليلٍ ناصرُ الدين الألبانـىُّ أرادَ أنْ ينتصرَ لِهَواهُ وهَوَى جماعتهِ الذينَ تـمسَّكوا بهَذهِ الـقَاعدةِ الفاسدَةِ "لا يـجوز التوسل إلا بالـحىّ الـحاضِر" فقالَ هذا الـحديثُ الـجزءُ الأولُ منهُ صحيـحٌ أى توسّلُ الأعمَى بالرّسولِ بهذا اللفظِ اللهم إنّى أسألُكَ وأتوجّهُ إليكَ بنبيّنا مـحمّدٍ نبىّ الرّحمةِ يا مـحمّدُ إنّى أتوجَّهُ بكَ إلى رَبّى فِى حاجتِى وَتُسَمّى حاجتَكَ فذهَبَ الرّجلُ ثمَّ دخلَ عَلينا فَوَاللهِ مَا تفرَّقْنا ولا طالَ بنا الـمجلسُ حتى دخَلَ عَلَينا الرَّجلُ وقَد أبصَرَ أى فَتَحَ نَظَرُهُ.
لكن هذا الـحديثُ فيهِ الدّليلُ على أنَّ هذا الرَّجلَ الأعمَى مَا تَوَسَّلَ بـحُضورِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم بَل بـمَكانِ الوضوءِ ذهبَ إلى مكانِ الوُضوءِ فتَوضّأ وصلّى ركعتينِ ثمَّ توسَّلَ بالرَّسولِ ففَتحَ نَظَرُهُ ثمَّ جاءَ إلى الرسولِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم والرّسولُ بَعدُ مَا فارقَ مجلِسَهُ، هَذا الصَّحابىُّ عثمانُ بنُ حُنَيفٍ رضىَ اللهُ عنهُ هوَ يقولُ: "فواللهِ مَا تفرَّقْنا ولا طالَ بنا الـمجلسُ حَتى دخَلَ عَلَينا الرّجلُ وكأنهُ لَم يَكُنْ بهِ ضُرٌّ قَطُّ" أىْ كأنّهُ لَم يُصِبهُ عَمًى، دخلَ وقَد صارَ مُبْصِرًا ارتَدَّ بَصيرًا هذا الـقدرُ الـمرفوعُ. هذا أيضًا هُمْ يُحرّفونَهُ يقولونَ الرّسولُ دعا له إنـما انتفع هذا الأعمى وفتح نظرُهُ بدعاء الرسول ليس بالتوسل.
وإنـما سلَكوا هذا الـمسلَكَ مِنَ التَّحريفِ لِئَلَّا تَنْفَسِدَ عَلَيهِم الـقاعدةُ التِى وَضَعها ابنُ تيميةَ أبو العَبَّاسِ أحمدُ الـحرّانـىُّ.
لو كانت هذه الـقاعدةُ صحيـحةً لـما عَلَّم الرسول صلى الله عليه وسلـم الأعمى التوسل به وسكت على توسله به فِى غيابه.
إذا قيلَ ابنُ تيميةَ فهوَ اثنانِ ابنُ تيميةَ أبو العبّاسِ أحمدُ الـحرّانـىُّ ويُلَقَّبُ تَقِىَّ الدّينِ وَجَدُّ هذا يقالُ لهُ مجدُ الدّينِ عبدُ السّلامِ هذا جَدٌّ وذاكَ حَفيدٌ، الـمفتونُ الـحفيدُ وأما ذاكَ الأصلُ الـجَدُّ فهوَ مِن أكابرِ الـحنابلةِ، فِى مذهبِ أحمدَ بنِ حنبلٍ لهُ مكانةٌ كبيرةٌ ولا يُعرفُ عنهُ شىءٌ منْ إنكارِ التّوسّلِ والاستغاثةِ برَسولِ اللهِ ولَا بالأولياءِ لأنَّ الـمسلـمينَ مَا كانَ قبلَ ابنِ تيميةَ فيهِم مَن يُنكرُ التّوسّلَ برَسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ فِى حَياتهِ وفيمَا بعدَ مماتهِ، مَا كانوا يُنكرونَ، حتى الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ الذِى هُم يدّعونَ أنّهم على مَذهبهِ وأنّهُ إمامُهم يقولونَ إمامُنا الإمامُ الـمبجَّلُ أحمدُ بنُ حنبلٍ هكذا يَعتزُّونَ بهِ. هوَ هذا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رَوَى عنهُ واحدٌ مِن أكبرِ تلاميذهِ قَدرًا أبو بكرِ بنُ الـمَرْوَزِىّ قالَ: "قالَ أحمدُ يَتَوَسّلُ الدَّاعِى أىْ عندَ الاستسقاءِ أىْ عندَ طلبِ الـمطرِ منَ اللهِ تَعالى بالنّبىّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ". أحمدُ أثبتَ جوازَ التّوسّلِ بالنّبىّ بل مشروعيتَهُ بعدَ وفاتهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ فأينَ هؤلاءِ وأينَ أحمدُ. هؤلاءِ يقولونَ التّوسُّلُ بالنَّبىّ بعد موته شِرْكٌ وفِى حياته فِى غير حضوره شركٌ وأحمدُ بنُ حنبلٍ يَستحسِنُ بل يَستحِبُّ التّوسّلَ بالنّبىّ بعدَ مماتهِ عندَ الشّدّةِ أىْ عندَ الـقَحطِ أى عندَ انقطاعِ الـمطرِ.
ثمَّ أيضًا أحمدُ بنُ حنبلٍ قالَ فِى صَفْوَانَ بنِ سُلَيمٍ رَضِىَ اللهُ عنهُ وهوَ إمامٌ تابعىٌّ جَليلٌ منَ العُبّادِ النُّسّاكِ الـمشهورينَ قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ فِى صفوانَ بنِ سُليمٍ رضىَ اللهُ عنهُما: "يُستنزَلُ الـمطرُ بِذِكْرهِ" اهـ يَعْنِى يُطلَبُ نزولُ الـمطرِ بذكرِ صفوانَ بنِ سُلَيم، إذا ذُكِرَ الـمطرُ يُرْجَى أن يُنْزِلَ اللهُ تعالى الـمطرَ ببركتهِ ببركةِ صفوانَ بنِ سُلَيمٍ. هكذا قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ. أحمدُ بنُ حنبلٍ يَستحسنُ التَّوَسُّلَ بالأولياءِ بعدَ وفاتِهم وهؤلاءِ يُكفّرونَ الذِى يَتَوَسَّلُ بالرّسولِ فِى غَيرِ حَضرتهِ وبالأَوْلَى إذا كانَ التّوسُّلُ بهِ بعدَ مماتهِ. انظُروا إلى البُعدِ الشّاسعِ بينَ هؤلاءِ وبينَ أحمدَ بنِ حنبلٍ. ومَنِ ابنُ تيميةَ فِى جَنبِ أحمدَ بنِ حنبلٍ. أحمدُ بنُ حنبلٍ رضىَ اللهُ عنهُ منَ السَّلفِ الصَّالـحِ كلُّ طوائفِ أهلِ السّنّةِ يُثنونَ عليهِ الثّناءَ الـجميلَ، تَركوا2 أحمدَ بنَ حنبلٍ واتَّبعوا هذا الرّجلَ الـمفتونَ ابنَ تيميةَ الذِى يقولُ فِى دينِ اللهِ مَا ليسَ منهُ.
روى قول أحمدَ بنِ حنبلٍ عَن صَفوانَ بنِ سُليمٍ "يُسْتَنْزَلُ الـمطرُ بِذِكْرِهِ" الـمـحدّث الـحافظ الـمـِزّىُّ فِى تهذيبِ الكمالِ وذكرها الـحافظُ مرتَضى الزّبيدىُّ.
الأثرُ الـموقوفُ على الصّحابةِ يُطلَقُ عليهِ اسمُ الـحديثِ هذا مذكورٌ فِى كتبِ اصطلاحِ الـحديثِ. وُجِدَ ذلكَ فِى عبارةِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِه. أحمدُ بنُ حنبلٍ الذِى هوَ أكثرُ الـمـحدّثينَ منَ السَّلفِ حِفظًا للحديثِ، حفِظَ منَ الـحديثِ ما لَا يُروَى منَ العددِ لغيرهِ. الأثرُ الذِى هو مِنْ فعلِ الصّحابةِ ليسَ مِن كلامِ الرّسولِ ولَا مِن فِعلِ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يُسَمَّى حَديثًا عندَ أهلِ الـحديثِ كمَا يُسَمَّى ما يُرْوَى عَن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ مِن قولهِ أو فعلهِ أو تقريرهِ حديثًا. هذا الذِى يَعرفهُ علـماءُ الـحديثِ على خلاف ما قرره ناصر الألبانـىّ.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه الطبراني في معجميه الكبير باب من اسمه عثمان والصغير باب من اسمه طاهر.
2- أى أتباع ابن تيمية.


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2