من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 اللهُ خالـقُ أعمالِ العبادِ

الدرس الثلاثون
اللهُ خالـقُ أعمالِ العبادِ

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
   درس ألقاه الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرىّ رحمه الله تعالى وهو فِى بيان أنَّ اللهَ خالـقُ أعْمالِ العِبادِ الاختياريةِ والضَّرُورِيَّةِ.
قال رحمه الله رحمةً واسعةً:
الـحمد لله رب العالـمين وصلاة الله البرّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وعلى ءالـه وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى جميع إخوانه من الأنبياء وسلام الله عليهم أجمعين.
أما بعد فقد رَوَينا فِى كتاب الـقدر للبيهقىّ وفِى كتابِ "الأسماءِ والصفاتِ" له وفِى كتابِ "الـمستدركِ" للحاكمِ أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "إنَّ اللهَ صانعُ كُلّ صانِعٍ وَصَنْعَتِهِ "1 اهـ
معنـى الـحديث أنَّ الله تعالى هو خالـقُ كُلّ عبدٍ يعمل شيئًا وصَنْعَتِهِ أى فِعْلِ ذلك العبدِ هو خالـقُ العبدِ وفِعْلِهِ. فالـمؤمنُ بالـقَدَرِ هو الذِى يؤمن أنَّ الله خالـقُ العبادِ وأعمالِهم أى حركاتِهم وسكونِهم ونواياهم وأفكارِهم
أى كلُّ ذلك خَلْقٌ لله تعالى مخلوقٌ له لا يَخْلُقُ العبدُ شيئًا مِن ذلك. هذا معنـى كلامِ رسول الله صلى الله عليه وسلـم. هذا معنـى الإيمان بالـقدر. أما من فرق بين العبد وبين عمله فقال: اللهُ خالـقُ أجسامِ العبادِ أما أعمالـهم فهى مخلوقةٌ لهم هم خلقوها بقدرة أعطاهم اللهُ إياها فهذا ما ءامن بالـقدر.
هذه مسئلةٌ مهمةٌ لأنها مسئلة تتعلّق بالإيمان لأنَّ الإيمان كما فسّره رسولُ الله صلى الله عليه وسلـم لـما سأله جبريل وكان حضر إلى مجلسه عليه الصَّلاة والسَّلام بصورة إنسان لا يعرفه أحدٌ منهم سأله عن الإسلام ثم سأله عن الإيمان ففسر له الإيمان بستة أشياء قال له: "الإيمانُ أنْ تُؤمِنَ باللهِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخِرِ والـقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرّهِ"2   اهـ فالذِى لا يؤمن أنَّ الله خالـقُ العبدِ وأعمالِهِ أى حركاتِهِ وسكونِهِ وتفكيراتِهِ وعلومِهِ وإدراكاتِهِ فهو ليس بـمؤمن بالـقدر، لو قال العبدُ يـخلقُ هذه الأشياء بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللهُ فيه بِقُدْرَةٍ أعطاه الله إياها هذا لا ينفعه أى أنَّ قوله هو العبدُ يـخلق أفعالـه بقدرةٍ خلقها الله فيه ضلالٌ، هذا ضلال، ضد الإسلام، ضد عقيدة التوحيد لأن التوحيد لا يصح على هذا الوجه أى أنْ يقول الشخص إنَّ الله واحد فِى ذاته ومع ذلك يثبت لغيره الـخلقَ أى التكوينَ أى الإخراجَ من العدم إلى الوجود لا يصح له الإيمان والتوحيد لأنه أثبت شريكًا لله تعالى فِى صفة من صفاته.
كذلك لا ينفع هؤلاء قولُهم الأفعالُ التِى هِىَ اضطرارية كحركة الـمرتعش هِىَ بِخَلْقِ الله وقضائه وقدره لا ينفعه ذلك لا يـجعله ذلك مؤمنًا بالـقدر إنـما الإيمان بالـقدر هو أن يعتقد الإنسان أن الله تعالى هو خالـق جميع أفعال العباد ما كان منها باختيارهم وما كان منها بغير اختيارهم أى أن الله تعالى خالـق ذلك كُلّهِ. هذا مذهب أهل الـحق. وأما الذين قالوا إن الله أعطى العبد الـقدرة فالعبد يـخلق هو بتلك الـقدرة التِى أعطاه الله إياها حركاتِهِ وسكناتِهِ هؤلاء ما ءامنوا بالـقدر. كذلك الذين قالوا أفعال العباد ما كان خيرًا أى ما كان من الـحسنات فالله يـخلقها على أيدِى عباده وأما ما كان منها معاصِىَ وشرورًا أى كالـمكروهات فإنَّ الله تعالى ليس هُوَ خالـقَها كذلك هؤلاء ما ءامنوا بالـقدر.
احذروا هذه الطوائف الطائفة التِى تقولُ أفعالُ العباد الاختيارية إن كانت خيرًا وإن كانت شرًّا فالعبدُ هو الذِى يـخلُقُها احذروا هؤلاء واحذروا الذين يقولون أيضًا إن الله تعالى يـخلق الـخير الذِى يَجْرِى على عباده أى الإيمان والطاعة هو يـخلقها ليسوا هم يـخلقونها أمّا الـمعاصى فهم يـخلقونها هؤلاء أيضًا ضالّون فاحذروهم، احذروا كِلَا الفريقين. الفريق الأول يُمَوّهُون على الناس بقولهم العبد يـخلق أعمالـه الاختيارية بقدرة أعطاه الله إيّاها هذا تـمويه الذِى يقول العبد هو يـخلق أعمالـه استقلالًا وبقدرة لـم يـخلقها الله تعالى فيه بل هو العبد يـخلق هذه الـقدرة أو هذه الـقدرة توجد بلا فاعل بلا مُوجِدٍ بلا خالـقٍ هو العبد بهذه الـقدرة التِى لا خالـق لها يـخلق أعمالـه الاختيارية كلُّ هؤلاء ضالّون الـحق هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلـم الذِى نطق به حديثه هذا: "إنَّ اللهَ صَانِعُ كُلّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ" اهـ3
    ثم هذا الـحديث يُؤَيّدُهُ الـقرءان الكريم لأن فيه عدةَ ءاياتٍ بهذا الـمعنـى كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ4 أى أنه تبارك وتعالى هو خالـق أجسامِنا وأفكارِنا ونوايانا وعزائمِنا كل ذلك اللهُ تعالى يـخلقه. كلـمة شىء بعض الناس يظنون أنها للأجسام فقط كجسم الإنسان وللحجر وللشجر ونحو ذلك ليس الأمر هكذا بل الشىء يَعُمُّ الأجسامَ وصفاتِ الأجسامِ وحركاتِ الأجسام الـمتحركة وسكونَها، كلُّ ذلك شىء.
الشيطانُ سببٌ فقط ليس هو الذِى يـخلق الضلالة فِى الإنسان ولا فِى نفسه، إبليسُ ليس هو خلق ضلالته وغَوايته الله هو خلقها فيه وإذا أغوى الناس كما أخبر الله تعالى عنه فِى الـقرءان أنه قال: ﴿لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ5 معناه أنه جعله سببًا ما جعله خالـقًا إبليسُ الله تعالى جعله سببًا لِغَوَايَةِ بعض الناس ما جعله خالـقًا نحن نقول لا خالـق إلَّا الله ونؤمن بالأسباب، إبليسُ جعله الله سببًا لضلال كثيرٍ مِن خلقه لكنه لـم يـجعله خالـقًا لضلال أحد ولا لضلال نفسه.
هؤلاء الذين يقولون الشيطان يـخلق الشر يُسَمَّوْنَ الـقدرية والذين يقولون العبد يـخلق فعله يُسمون قدرية ويُسمون معتزلة. بعض الفقهاء ما تصوروا حقيقة كلام الـمعتزلة فقالوا تصح الصلاة خلفهم وهذا كلام مردود، الـحافظُ سِراجُ الدين البُلْقِينِىُّ الذِى قال فيه صاحب الـقاموس عَلَّامَةُ الدنيا6 رَدَّ هذا الكلام الذِى فِى روضة الطالبين قال: "هذا غير صحيـح بل لا تجوز الصلاة خلف الـمعتزلة وإنـما كلام الشافعى فِى قوله أقبلُ شهادةَ أهلِ الأهواء إلا الـخَطَّابِيَّةَ مـحمولٌ على أنه أراد بذلك ما لـم تثبت فِى أحد منهم قضية تقتضِى التكفير" اهـ معنـى ذلك أننا لا نكفر الشخص لـمجرد أنه ينتسب إلى الـمعتزلة أما إذا ثبتت عليه مقالة تقتضِى التكفير فإنه يكفر قال هذا مرادُ الشافعىّ ليس مراد الشافعى أن الـمعتزلة على الإطلاق لا يكفرون رَدَّ كلامَ النووىّ وغيرِهِ وقال هذا هو الكلامُ الذِى عليه كبار أصحاب الشافعىّ.
مراد الشافعى أن من الـمعتزلة من ينتسب إليهم ولا يقول بجميع مقالاتهم التِى تقتضِى الكفرَ إنـما يقول ببعض مقالاتهم التِى لا تقتضِى الكفر.
ثم الإمام أبو منصور التـميمى البغدادىُّ هذا شيـخ البيهقىّ تَلَقَّى الـحديث من أبِى بكر الإسماعيلىّ صاحب الـمستخرج على البخارى يقول: "أجمع أصحابنا على تكفير الـمعتزلة". ماذا يكون قول بعض الـمتأخرين بالنسبة إلى هذا.
من الـمعتزلة من يقول: إنَّ الله لا يُرَى فِى الآخرة أخذ ببعض مقالاتهم كهذه الـمقالة أما مقالاتهم التِى هىَ أوسخُ من هذه مما هو كفر كقولهم إنَّ الله كان قادرًا على أن يـخلق حركاتِ العبدِ وسكونَهُ لكن بعدما أعطاه الـقدرة عليها صار عاجزًا لا يستطيع فمن أخذ بها هل يُتردد فِى كفرهم؟! الذِى ينتسب إلى الـمعتزلة ويقول هذه الـمقالة من مقالاتهم هذا مَنْ يَشُكُّ فِى كفره؟! أما بعضُ الـمنتسبين إلى الاعتزال الذين لا يقولون بهذه الـمقالة بل أخذوا منهم مقالاتٍ أخرى لا تقتضِى التكفير فلا يكفرون.
انتهى والله تعالى أعلـم.
------------------

1- رواه البيهقي في شعب الإيمان باب القدر خيره وشره من الله عزَّ وجلَّ.
2- رواه مسلم في صحيحه باب معرقة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة.
3- رواه البيهقي فِى شعب الإيمان باب القدر خيره وشره  من الله عزَّ وجلَّ .
4- سورة الزمر/الآية (62).
5- سورة ص/الآية (82-83).
6- ذكر صاحب القاموس فِى حرف النون بلدة بلقينة وقال ومنها صديقنا علامة الدنيا عمر بن رَسلان اهـ


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2